أفلام الحروب: رؤية فلسفية، وثورة كريستوفر نولان في فيلم “أوبنهايمر”

كتب بواسطة خليفة سليمان

مع بدأ العرض السينمائي لفيلم أوبنهايمر (Oppenheimer) للمخرج كريستوفر نولان (Christopher Nolan) في يوليو 2023، ثارت العديد من الأسئلة بالتوازي مع الضجة الإعلامية التي أحدثها عرض الفيلم، والثورة التي قدمها المخرج نولان على مستوى الصورة والموسيقى التصويرية والأحداث وتحريك الشخوص. لم يكن فيلم أوبنهايمر تقليديا كما ظهرت أفلام الحروب على شاشات السينما سابقا، بل كان مليئا بالإبداع بالدرجة التي استطاع فيها المخرج نولان تقديم رؤية فلسفية مختلفة لسينما الحرب.  

شرفة فلسفية

كان العداء للفنون مستوطنًا في الفلسفة، فقد طرد أفلاطون الشعراء من مدينته المثالية في الجمهورية. يرجع ذلك إلى حد كبير إلى الأشكال الفنية التي كان يُنظر لها بأنها مخالفة للعرف والمعتقدات السائدة. لقد رفض الفلاسفة المهتمون بإبراز الحقيقة الفنون لأنها لا تعكس الواقع، وبأنها تحتوي على ادعاءات سيئة أخلاقيا وبعيدة عن الواقع. وعلى النقيض من ذلك بنى المخرج كريستوفر نولان (Nolan) فيلمه أوبنهايمر (Oppenheimer) على الكثير من الحقائق، التي لم يكتفي فيها بتقديم الأحداث بواقعية تاريخية مستندا على رواية تترجم سيرة العالم الفيزيائي روبرت أوبنهايمر (Robert Oppenheimer‏) والتي صدرت بعنوان، الرجل الأمريكي الأهم: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر American Prometheus: The Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer) للكاتبين مارتن ج شيروين (Martin J. Sherwin) وكاي بيرد (Kai Bird)، بل أنه قدم صورا عاطفية للاضطرابات النفسية والجسدية التي عاشها بطل الفيلم كيليان مورفي  (Cillian Murphy) نتيجة للصراح الأخلاقي الذي سكنه بعد أن أخرج القنبلة الذرية للعالم، في مشاهد تؤكد واقعية الفيلم وتصويره المبني على حقائق ذاتية للشخصية التاريخية للعالم الفيزيائي المعروف روبرت أوبنهايمر.   

أفلام الحرب بين الواقع والمتخيل

لقد أصبحت السينما وسيلة مهمة لنشر المعرفة التاريخية، بل أن الكثير من الجمهور قد شكل ثقافته ومعرفته بالكثير من الاحداث التاريخية من خلال ما شاهد في السينما. وعبر التاريخ قدمت السينما الكثير من الأفلام التي تصور وقائع من الحروب التاريخية كالحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، مثل فيلم “ستالاج 17” (Stalag 17) الذي أنتج عام 1953 ويحكي قصة مجموعة من الطيارين الأمريكيين مع مجموعة من أسرى الحرب الألمان في الحرب العالمية الثانية، وفيلم “غير منقطع” (Unbroken) الذي أنتج في عام 2014 وتناول قصة أسير حرب نجا من قاذفة بحرية خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتم القبض عليه من قبل اليابانيين وإرساله إلى سلسلة من معسكرات الحربية. لم تخلو تلك الأفلام وغيرها من أفلام الحرب من المبالغات والسيناريوهات المتخلية والتعمد في توجيه العاطفة نحو الشخصيات المقصودة. قيم النقاد بعض تلك الأفلام حسب مدى دقتها في تقديم الحقيقة التاريخية، ومدى تأثير ها على الهوية والذاكرة الجمعية، أو مدى قدرتها على توجيه الرأي العام نحو الحقيقة المعتقدة. وعلى سبيل المثال، عكس فيلم ” كل شيء هادئ على الجبهة الغربية ” (All Quiet on the Western Front) الذي عرض في عام 2022 الروح المعادية للحرب في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كما قدم فيلم “سقوط” (Downfall) الذي ظهر في عام 2004 سردا متخيلا للأيام الأخيرة التي سبقت سقوط هتلر والنازية.

لقد عكست الكثير من أفلام الحرب، واقع الأفكار التي كانت رائجة عن تلك الأحداث التاريخية، كما عكست الرغبة السياسية في نشر أفكارا أخرى عن تلك الحروب أو تصويرا للتحولات التي شهدتها المجتمعات نتيجة للأهداف الإمبريالية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك لم يقدم نولان حدث القنبلة النووية بطريقة تقليدية، فهو لم يصور الواقعة كما حدثت في هيروشيما وناجازاكي ولم يظهر أي مشهد في الفلم لسقوط القنابل على المدن اليابانية، بل قدم الوقائع العملية والعلمية والإنسانية التي نمت خلف كواليس تلك الأحداث التاريخية المعروفة.

ثورة كريستوفر نولان

لقد مثل فيلم أوبنهايمر جانبًا رئيسيًا من جوانب التمكين الفردي للمخرج نولان، بالشكل الذي يجبر المتلقي على الاعتراف وبشدة بالدور الذي تعلبه الصورة والسينما بشكل عام في تقديم المعرفة بطرق مبتكرة وتصوير الحقيقة من زوايا مختلفة. وعلى الرغم من الأفلام العديدة التي تحدثت عن عالم الحروب عبر التاريخ، الا أنها أتت للجمهور كأحداث مضخمة، أو تم تصويرها سينمائيا بشكل يجمع بين تفاصيل مبتكرة للحدث أو ممزوجا بالخيال. تم تقديم بعضا الأفلام أيضا كفنتازيا صنعت خصيصا لتصوير المعارك الحربية من قبل المنتج، والذي غالبا ما يكون المنتصر.

لم يركز كريستوفر نولان على وقائع الحرب أو ما نتج عن تفجير القنابل النووية في اليابان بصورة فنتازية أو مبالغ فيها، ولكنه قدم الأحداث من زاوية نفسية فلسفية تكشف الجوانب الجمالية في التكوين الإنساني. كما أبتعد نولان عن العدمية الأخلاقية التي ظهرت في الكثير من أفلام الحروب، وكشف عن الخير الذي يسكن صانع الحدث مهما كانت دمويتة. لقد قدم الفيلم استجوابا تاريخيا لأحداث كان لها تأثيرها الكبير في المستقبل، حيث تم استجواب البطل حول التجاوزات في علاقته بالحزب الشيوعي وآراءه المناهضة للحرب النووية، بالتوازي مع جلسة استجواب أخرى للسياسي الأمريكي لويس تراس (Lewis Strauss) رئيس لجنة الطاقة الذرية لسحب أو تأكيد ترشيحه لوزارة التجارة، حيث قلل الأخير من الآثار الصحية المحتملة للتساقط الإشعاعي مثل تلك التي عانى منها سكان جزر المحيط الهادئ بعد اختبار قلعة برافو (Castle Bravo) النووي الحراري.

تتشابه أحداث الفيلم مع الفكرة، فانفجار القنبلة النووية الانشطاري يشبه حياة البطل التي تشظت من كل متكامل إلى أشياء مبعثرة نتجت عن استجواب غير دقيق مثل جوهر أحداث الفيلم. هذا الاستجواب جرد البطل من تصريحه الأمني الذي كان يخوله للاطلاع على أسرار علمية وحربية، وحوله إلى رمز وطني مخالف لتوجهات الدولة التي ما زالت تحتفل بانتصارها في الحرب. يقدم نولان في فيلمه أيضا الجانب الإنساني للبطل التاريخي والذي كشف عن ضمير أخلاقي حي وانحياز نحو الإنسانية والمستضعفين والضحايا رغم عدم إيمانه بالشيوعية، مما صور حياته علي شكل دفقات من التفاعلات، كتلك التي تحدث في قلب القنبلة النووية قبل الانفجار.

الحرب وصناعة السينما

المجمع العسكري الترفيهي (Military–entertainment complex) هو مصطلح يشير إلى التعاون بين آلة الحرب الأمريكية وأجهزتها من جهة، والصناعات الترفيهية من جهة ثانية، وذلك لأهداف ومصالح متبادلة بين الجيش وصناع السينما . ومع إمكانية استخدام المصطلح لوصف أي تعاون ترفيهي عسكري في أي دولة في العالم، إلا أن التعاون الأبرز يقع بين وزارة الدفاع الأمريكية وصناعة السينما في الولايات المتحدة (هوليوود). لقد أفرز هذا التعاون عن انتاج سلسلة من الأفلام كان هدفها الأول التسبيب للحرب وتصوير انتهاكات العدو بما يبرر اعلان الحرب ضده. فعلى سبيل المثال صور فيلم (Inglourious Basterds) في عام 2009 الجريمة التي أرتكبها جندي نازي بقتله أسرة كاملة بدم بارد مما دفع البطلة وفريق من الجنود الامريكان للانتقام، في حين ألقى فيلم (Land of Mine) في عام 2015 الضوء على الحياة المأساوي والتعيسة التي عاشها الجنود الألمان تحت أسر القوات الدنماركية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وصور فيلم (Dunkirk) في عام 2017 لكرستوفر نولان نفسه عملية الإجلاء المستحيلة لقوات الحلفاء الذين تم محاصرتهم بشكل كامل من قبل القوات النازية على شواطئ دونكيرك الفرنسية في عام 1940.

لقد تم دعم الجيش الأمريكي سينمائيا عبر التاريخ المتنامي لفن السينما، حيث قدمت السينما الامريكية صورة للجندي الأمريكي المتفوق، ومثيلٌ ملهم للقوة العسكرية الامريكية. كما قدمت السينما صورا من تفوق الجيوش الامريكية في وضع الاستراتيجيات وطرق التجسس المبتكرة، والمهارة في تطوير الأسلحة من البنادق إلى القنابل النووية.  كل ذلك عكس صعود القوة الناعمة الأمريكية عبر القرنين العشرين والحادي والعشرين، وخلق كما ثريا من الإنتاج السينمائي، شكل مادة ثرية للباحثين والمهتمين باستخدام المؤسسات العسكرية لوسائل الإعلام وممارسة النفوذ على الفنون.

في هذا الإطار، قدم فيلم “الرجل السمين والصبي الصغير” (Fat Man and Little Boy) الذي أنتج في 1989 تصويرا واقعيا لما حدث في لوس ألاموس في نيو مكسيكو في الفترة من 1942 إلى 1944. صور الفيلم وبشكل مبهر ما حدث على الجانب المادي من مشروع مانهاتن، وعرض بعض الشخصيات التي ظهرت مجددا في فيلم كرستوفر نولان، بما في ذلك الجنرال ليزلي جروفز (Leslie Groves) وروبرت أوبنهايمر (Robert Oppenheimer‏)، لكنه ركز على التحديات المادية التي واجهها الفريق في صنع السلاح، كما أكد على مدى تصميم حكومة الولايات المتحدة في ذلك الوقت على إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن، بغض النظر عن العواقب. هذا البعد المادي لفيلم الرجل السمين والصبي الصغير، جعله يختلف كيفا عن فيلم أوبنهايمر الذي ركز على الجانب المعنوي للشخصيات وأطلق نظرة مغايرة لسلوك الولايات المتحدة الأمريكية في استخدام السلاح النووي.

لقد قدم كرستوفر نولان (Nolan) فيلمه أوبنهايمر (Oppenheimer) للتاريخ، حيث جمع بين الدهشة في التصوير، والابداع في اخراج القصة، مركزا على البعد الفلسفي العميق عند تفسير فن الصورة والتمثيل، محدثا ثورة في صناعة سينما الحروب بالاستغناء عن العدمية الأخلاقية التي سيطرت على أغلب أفلام الحروب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 Paolo Euron (2019) Aesthetics, Theory and Interpretation of the Literary Work, Brill, Volume:-1 133.

 Keith Uhlich & Phil de Semlyen (2023) The 50 best war movies of all time, Time Out.-2 https://www.timeout.com/film/best-war-movies-of-all-time.

Keith Uhlich & Phil de Semlyen (2023) The 50 best war movies of all time, Time Out-3 https://www.timeout.com/film/best-war-movies-of-all-time.

  4- Tanner Mirrlees (2020) the Military Entertainment Complex, University of Ontario Institute of Technology, Oshawa, Ontario, Canada.

5-  Bryan C. Taylor (1993) Fat man and little boy: The cinematic representation of interests in the nuclear weapons organization, Critical Studies in Mass Communication, 10:4, 367-394, DOI: 10.1080/15295039309366877

ثقافة وفكر سينما وأفلام

عن الكاتب

خليفة سليمان

كاتب وأديب عماني