عطر النساء

الروائح الزكية والعطور الفوّاحة شيء محبب للناس، ويرتاح الإنسان حينما يُشم منه رائحة مفعمة بالطيب، وقد يُسأل من أين اقتنيته لكي يقتني السائل مثله، فهذا أمر طبيعي، ويشترك فيه الرجال والنساء، وجاء في الآثار قديمًا: (إن الله طَيِّب يُحب الطِّيب)، والطيب هنا يشمل كل طيب أي طيب الحال وطيب الرائحة وطيب الحديث وغير ذلك.

وصلتني مرة هذه الرسالة في الواتساب (تقول إحدى النساء:

قبل أن يسافر سائقي لبلده سألته:

ماذا تريد هدية لأهلك؟

قال: أريد مثل عطرك لزوجتي يا مدام.

تقول: أحسست بدوار في رأسي والدنيا كلها سواد أمامي، فلم أكن أعتقد أن رائحتي عالقة بذهنه.

فلتفكر وليعتبر من يعتقد أن السائق والبائع لا حسّ له.

قال النبي صلى الله عليه وسلم “أيُّما امرأة استعطرت، ثم خرجت، ثم مرت بقوم ليجدوا ريحها، فهي زانية”)

ويظهر من الرسالة أن السائق أعجب بالرائحة الزكية التي تفوح من المرأة، لهذا أراد أن يقدم لزوجته مثل هذا العطر الفواح ليفرح به زوجته، وهو أمر طبيعي لا يحتاج للتهويل والبكاء، بل يفترض من المرأة أن تفرح وتشتري له هدية ليقدمها لزوجته، من باب الإحسان وشكره، وقد يعجب الرجل بثوب امرأة أو بحذائها، فهل يحتاج الأمر التهويل والبكاء؟! بل العكس يحتاج الفرح والسرور، ولا يمنع أن يسأل الرجل المرأة عن ثوبها وحذائها وعطرها لكي يشتري مثله لزوجته أو ابنته أو أمه وأخته، فذلك لا يعني منع من المرأة من ارتياد كل ذلك لأن رجلًا ما أعجب به.

ويبدو لي بأن هذه الرسالة محبوكة حبكًا، لوعظ النساء بموعظة في غير محلها، فهل لمجرد الاستماع لكلام طيب يخالف الاعتقاد يصاب الإنسان بالدوار ويرى السواد أمامه، هذه المبالغات والتهويلات تكشف الكذب والتزوير في مثل هذه الحكايات الجاهلة التي تريد من المرأة أن تكون عكس الفطرة السوية لصياغ منها امرأة عدوة الجمال والتعاون والطيب.

تريد هذه الرسالة إيصال فكرة أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج وهي متعطرة، وذلك عبر إيراد القصة، لأن أسلوب القصص له أثره على الناس، فتم استدعاء رواية من الآثار القديمة المدونة في القرن (3هـ) منسوبة إلى النبي عليه السلام، فكيف ينبغي التعامل مع هذه الرواية وأمثالها؟

روى هذه الرواية النسائي في سننه برقم (5141) من طريق أبي موسى الأشعري، ونحن لا نعوّل على السند، لأن السند صنعة اصطنعها أهل الحديث، ففتحوا بذلك بابًا لوضع الروايات ونسبتها إلى الرسول، ولكن يبدو أن المقياس الصحيح لقبول الروايات ورفضها هو بعرضها على القرآن والعقل، وعليه فالقرآن لم يمنع المرأة من الروائح الزكية سواء كانت مع زوجها أم خارج المنزل مرت على رجال أم لم تمر، فالتحريم من اختصاص الله وحده، ولا يمكن التسليم بوهم الإجماع أو الاتفاق على ذلك، لأن مفهوم الإجماع في حد ذاته غير متفق عليه، وكيف للإجماع تحريم شيء من يحرمه الله تعالى أو جعل شيئًا تشريعًا لم يشرعه المشرّع في القرآن.

يذكر أن أول من ابتكر مزيل العرق هم المصريون القدماء فاستخدموا في ذلك الدهون والمراهم والسوائل لكي تمتص روائح العرق، وفي ظني لم تكن منتشرة بصورة كبيرة، مما يعني أنه لم يكن الناس يستخدمون مزيلات العرق لقلة انتشارها في الأسواق، أو يستخدمون الكولونيا وبه رائحة زكية، أو حجر (الشبه) وهو حجر لامع يزيل رائحة العرق، ولا أظن مزيلات العرق كانت موجودة بكثرة في زمن النبي ولا الصحابة والتابعين فهذه المرأة التي كانت تعمل في الزرع وترعى الماشية وتهتم بشؤون المنزل، وتمارس المشي بسبب طبيعة العصر أكثر من المرأة اليوم، كيف كانت تبعد عنها رائحة العرق إلا بالطيب والروائح الزكية، سواء كان عطرًا أم غيره من الدهون والمراهم والسوائل، وربما كانت من مزيلات العرق القديمة كالزهور والرياحين والتوابل والنعناع وزيت الزيتون والنبات المعطرة، وهذه كلها ذات رائحة زكية كالعطر، لذا ربما قلّ ما تخرج المرأة حينها برائحة العرق أو أي رائحة لا تتواءم مع الطيب والروائح الزكية.

لا يمكن للعقل السليم أن يمنع المرأة أو الرجل من الطيب والزينة إذا خرجوا من منازلهم إلا لسبب قد يؤدي إلى الضرر وهذا يقيسه الشخص نفسه لأنه أدرى بحاله، وليس تعميمًا على الناس كلهم، لأن طبيعة الناس حب كل طيب والروائح الزكية من الأمور الطيبة المحببة للناس.

وتظهر المبالغة في الرواية في التشبيه بين عطر المرأة والزنا لا يقبله أي إنسان عاقل سوي من مختلف الأديان، ونحن نقول حاشا للرسول عليه السلام أن يشبه عطر المرأة الزكي بالزنا الذي نهى القرآن عنه نهيًا صريحًا، أما العطر للمرأة فلا يستنكره أي إنسان عاقل إلا من كان ضد الجمال والطيب والروائح الزكية، ومن طبيعة المرأة أنها تحب أن يُشم منها الرائحة الطيبة ولا علاقة لها بالزنا، سواء شم عطرها الرجال أم النساء فلا فرق في ذلك، ويرى البعض أن عطر المرأة قد يثير شهوة الرجال عندما تمر عليهم، وهذا القياس باطل، فقد تثير رائحة عطر الرجل أيضًا شهوة المرأة فلما لم يمنع الرجل من التعطر، بينما منعت المرأة من ذلك؟ فلو كان هناك منع حقًا فيفترض منع الرجال من التعطر ومنعهم من التزين ومنعهم من إظهار جمالهم، فقد تأثرت امرأة العزيز عندما رأت جمال النبي يوسف، لذا هذه أمور طبيعية وفطرية لا منع فيها لا للرجال ولا للنساء، وعلى الإنسان أن يتحكم في غرائزه لأنه بها يمتحن، أما القمع والمنع على الجميع ليس حلًا للتعامل مع النفس وتزكيتها.

ربما جاء النهي عن تعطر المرأة في الرواية لذلك الزمن فحسب، لأن أحوال الأزمنة تختلف من زمن إلى زمن، ربما في ذلك الزمن إذا ما خرجت المرأة متعطرة تكون في خطر، مثلما كانت المرأة تمنع من السفر وحدها لعدم وجود الأمن، أما اليوم فبإمكان المرأة أن تسافر إلى أي دولة كانت وهي آمنة، كما يمكن للأطفال فعل ذلك أيضًا عندما يتوفر الأمن، لهذا لا يمكن تطبيق فقه القرن (3هـ) على زماننا اليوم.

وربما من نسب الرواية إلى الرسول كان لا يريد لزوجته الخروج وهي متعطرة، لأن الدين أقوى سلاح مؤثر في عواطف الناس وخاصة النساء، فنسب عدد من الروايات إلى النبي تمنع المرأة من أمور لم يمنعها الله سبحانه وتعالى، فكما يستخدم الدين في السياسة يستخدم أيضًا ضد النساء أو الزوجات خاصة، أي يستخدم في تضييق الحياة الاجتماعية أو تقدم العادات الاجتماعية باسم الدين.

وأتذكر هنا رواية (العطر) لباتريك زوسكيند، وهي رواية تحكي عن قصة قاتل اسمه غرنوي كان صانعًا للعطر، وقاتل للفتيات، رواية ربما تستحق القراءة أو المشاهدة لأنها حوّلت إلى فيلم، وأخيرًا ليس كل موعظة ترسل عبر وسائل التواصل الاجتماعية صحيحة، فبعضها ممنهج لقيادة الناس وفق رأي واحد، أو لإتباع القطيع، وإبعادهم عن التنوع والتعددية وحب الحياة وطيبها.

ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد بن مبارك النوفلي

كاتب عماني