عن النوافذ، مثلًا…

كتب بواسطة طيف المعمري

ألعب لعبتي السريّة؛ حيث أفتح كتابًا عشوائيًا، أختارُ صفحةً عشوائية، ثم سطرًا عشوائيًا، ثم أقرر أنها رسالة الكون لي. هذه الليلة فتحت النسخة الإلكترونية من ديوان السياب في هاتفي، مررت إصبعي حتى توقفت عند سفر أيوب:

“جميلٌ هو السُّهدُ أرعى سماكَ

بعينيَّ حتى تغيبَ النجومْ

ويلمسَ شبَّاك داري سناكْ.”

لن أملَّ أبدًا من النوافذ وهي تستخدم كموضوع للفن، سواءً بصفتها نافذةً حقيقية أم أداة مجاز، حتى وإن كان هذا المقطع منزوعًا تمامًا من سياقه، ولا تُشكّل فيه الشبابيك أو النوافذ صورةً أساسية؛ إلا أنَّني سأتظاهر بقراءته للمرة الأولى كما لو أنه مقطع من قصيدة حُب.

 أتساءل عن اللحظة الأولى التي أراد فيها الإنسان ثقب جدران بيته مدفوعًا بحاجته إلى الضوء أو التهوية حتى أصبحت الحاجة إليها جماليةً كذلك. لا بيت دون نوافذ، أدركنا هذا مبكرًا؛ فكانت كل مرة نرسم فيها بيتًا في طفولتنا لا ننسى أن نضع بابًا في المنتصف ونافذتين، حتى أصبحنا نحمل النوافذ معنا في أسفارنا: السيارات، الحافلات، القطارات، الطائرات وغرف الفنادق. أردنا على الدوام أن نتأكد أن ثمة شيء ما يصلنا بالعالم الخارجي وكانت النافذة. وهنا أعتقد أنني أفهم لماذا أُحبُ النوافذ؛ أحبُها بصفتها نقيضًا للوحدة؛ فالأمر بهذه الطريقة: لا يمكن أن يكون البيت بأكمله من زجاج، يحب المرء عزلته بين جدران الإسمنت؛ لكنه أيضًا يجب أن يكون منسجمًا مع الطبيعة والآخرين في عزلته، ولذلك يحتاج بهذا إلى النوافذ. كذلك الأمر بالنسبة إلى الوحدة؛ إذ هي الحالة الأصيلة للإنسان، لا يمكنه نفيها أو الخروج عنها؛ ولكنه يحتاج أيضًا إلى الشعور بأنه جزء من شيء أكبر، يحتاج إلى الألفة، وهو بالضبط ما تمنحنا إياه النوافذ.

ثمة شيء آخر يجعلنا أكثر انسجامًا مع النوافذ؛ لأنها عيوننا، فالعين نافذة المرء. في كل مرة نختلس النظر إلى حيوات الآخرين، يكون هذا بديهيًّا باستخدام عيوننا، وإذا ما أضفنا عنصر النافذة؛ يكون ذلك دراميًّا على الفور دون الحاجة إلى إضافة أي عناصر أخرى، إذ لا بد من شيء ما يحدث في الخارج. وكما يبدو المنظر من خلال النافذة كصورةٍ في إطار، كل الأشياء ما دامت داخل هذا الإطار؛ فهي مستطاعة، لأن كل ما هو موضع فُرجة يكون أدنى في سُلَّمِ السُّلطة، تمنحنا النوافذ إذًا حسًّا بالسيطرة، حسًّا بأنك تملك اليد العليا إزاء أيٍّ مما كنت تحاول النظر إليه.

مثل نافذة السيّاب (التي أعدت تشكيلها أنا)؛ فإن النافذة في لوحة “Girl Reading a Letter at an Open Window” ليوهانس فيرمر، هي محاولة وصول؛ لأنها مفتوحة بالكامل، وهو ما قد يرمز إلى الرغبة في الاقتراب أكثر من مُرسل الرسالة الذي هو على الجانب الآخر من النافذة حتمًا، وليس مجرد التماسٍ للضوء. وإن كنتُ قد بالغت في تحليل الرمزية أو تخيّل رمزية ليست موجودة أصلًا؛ فلن أكون قد انجرفت أبعد من محللي الفن بكون نافذة فيرمر ترمز إلى “سعي المرأة لتوسيع مجالها المنزلي خارج قيود مجتمعها”، بل لعلي أصرّ على جعل الرسالة رسالة حب، والنافذة التماس قرب بعد أن تم الكشف عن رسم مخفي لكيوبِد (إله الحب) على جدار الغرفة منذ حوالي سنتين.

الحُب والنوافذ، الثنائي الكلاسيكي للأفلام الرومانسية التي كبرتُ وأنا أشاهدها. أتذكر “رِبانزول” وهي ترمي شعرها الذهبي من النافذة (المخرج الوحيد من البرج) لتهرب مع الشاب الذي ستقع في غرامه لاحقًا. أو مثلًا مشهد “جون كيوزاك” في فِيلم ” Say anything ” واقفًا تحت نافذة “آيوني سكاي” وهو يحمل المذياع بأغنية ” In your eyes “، المشهد الذي سيلهم عددًا لا بأس به من الأفلام الرومانسية في فترة التسعينات وبداية الألفية، المشهد الذي سيؤكد لنا كم هي النوافذ خطيرة، والوقوف بجانبها يجعلك موضع شبهةِ حُب؛ إذ  لا شيء يشبه القلب في الجسد مثل النوافذ في البيوت.

لا أقصد في هذه الكتابة إعادة تأويل أي شيء، لعلّ النوافذ بطبيعتها مجاز في كومة من التعبيرات الصارمة والجلفة؛ لكنني ـ وبكل عشوائية ـ فتحت المجال لمخيلتي كي تعدّ كل ما هو شبيه بالنوافذ، وأعني بذلك كل الأشياء العملية التي تبدو مثالية تمامًا في شعريتها؛ لكن الأمر جرى بالطريقة نفسها التي كنت فيها تحاول عدّ النجوم في طفولتك، حيث تبدأ في العد من جديد كل عشر ثوانٍ؛ لأنك نسيت نجمةً في الأفق أو أخرى في زاوية السماء. أعني، هل كان من المجدي حقًا أن أتابع الكتابة عن النوافذ في الحين الذي يمكنني قول الأفكار ذاتها بالضبط عن أشياء أخرى؟ هذا ما يمكن أن أسمّيه بالكتابة المراوغة؛ أي في نهاية المطاف كل ما قلته ما هو إلا تلاعب بالكلام. شيء يشبه ما كان يفعله السرياليون لكتابة الشعر؛ إذ يجلس خمسة حول طاولة، وبيد كل منهم قصاصة ورقية يكتب فيها اسمًا، ويمررها إلى الشخص التالي وهي مطوية؛ فيكتب التالي صفةً للاسم، ثم يطويها ليمررها إلى آخرَ مطوية؛ فيكتب فعلًا، فمفعولًا به، وهكذا إلى أن تتكون جملة مثل: “الجثة الشهية تشرب النبيذ الجديد”(1)، جملة يمكن استنطاقها لتكون عميقة ومبهرة؛ ولكنها في حقيقتها لعبة! وهو ليس شيئًا سيئًا بالضرورة، ولا يُنتقص منه كونهُ غير مجدٍ (من الناحية الأدبية على الأقل)؛ لكنه مفتوح الأفق دون أي تلميح للاكتمال. النوافذ كذلك، مراوغة، مفتوحة الأفق، دون أي تلميح للاكتمال. وللسخرية (أو للمصادفة)؛ فإن ما أود قوله هنا قاله شاعر سريالي بالفعل: “كل شيء بشأننا… يظلُّ غير مكتمل على نحوٍ منهجي، ليس من غير المعتاد، في الصباح، حين تفتح صحيفة، أن تكتشف أن الافتتاحية تتوقَّف في منتصف جُملة، ربما على عتبة فكرة، لا لسببٍ وجيه، بخلاف الإجهاد الشديد لدى المحرر”(2).

———————————————————————–

(1): فيردينان ألكيه، السريالية

(2): جورج حنين، “ملاحظات عن بلد بلا جدوى”

أدب

عن الكاتب

طيف المعمري