أخوية سيون

كتب بواسطة مبارك خميس

من خلال قراءتي لرواية دان براون الشهيرة “شيفرة دافنتشي” المليئة بالرموز والدلالات والمعلومات المهمة (ولو تم الاختلاف على مصداقيتها)، والتي لن أعتمدها كمصدر موثوق للأحداث الموجزة التي سأتحدث عنها لاحقاً؛ بسبب الاختلافات الكثيرة بين المؤرخين حول صحة ما تحتويه. وجدت أنّ المفهوم الأساسي للكتاب عامة يمكن أن يكون ببساطة يمثل التجاذب والتنافر الأبدي بين الذكر والأنثى منذ قصة حواء (المُذنبة) مع آدم (البريء)…

أخوية “سيون” أو بالترجمة الحرفية “صهيون”، هي منظمة سرّية أوروبية تأسست في القدس، والتي يمثل شعارها زهرة الزنبق الجميلة. تضم الأخوية ما يقارب 1093 عضواً مع تباين رُتبهم، ومنهم شخصيات لها بصمة كبيرة في التاريخ البشري الحديث، مثل: إسحاق نيوتن، ليوناردو دافينتشي، فيكتور هوجو وغيرهم… وكعادة المنظمات السرّية دومًا، يجب أن تكون هناك طقوس في غاية السرّية بدورها وفي قمة الغرابة، وفي حالتنا هذه؛ فإن (دان براون) يزعم بأن الطقوس “الجنسية” تعد مقدسة في نظر الأخوية؛ إذ يتم الاتحاد الجنسي الطبيعي بين الجنسين، والذي يصبح كلٌّ منهما من خلاله كاملًا من الجانب الروحي والعاطفي، وبكل تأكيد الإشباع الجسدي، وتلك الثواني المعدودة التي تنبلج فيها لحظة النشوة الجنسية قد تساعد على رؤية الرب بشكلٍ أو بآخر، وربما بجميع تجلياته أيضًا.

“حيث يؤدي الجنس إلى ولادة حياة جديدة، المعجزة النهائية، والمعجزات لا يصنعها غير الآلهة. إن قدرة المرأة على إنتاج حياة من رحمها جعلها مقدسة، إلهة.”

هذه المنظمة لها ارتباط وثيق بأسطورة الكأس المقدسة؛ ولكن ماهي الكأس المقدسة؟

أسطورة الكأس المقدسة في الميثولوجيا المسيحية تحكي عن كأسٍ كان يستخدمها السيد المسيح في العشاء الأخير، أو برواية أخرى: الكأس التي جُمعت قطرات دم المسيح داخلها في واقعةِ الصلب في القدس. هذه الكأس لها قدرات كثيرة وإعجازية على حسب هذه الأسطورة؛ ولكن هل فعلاً الكأس المقدسة كأسٌ بالمعنى الحرفي؟ أي كأس لها تجسدها الماديّ والفيزيقي؟

يقال إن الهدف الأساسي من إنشاء أخوية سيون السرّية هي حماية سرّ عظيم، سرّ قد يغيِّر مفهوم المسيحية بشكل كبير. ما هذا السرّ؟ هذا السر العظيم يكمن في معضلة ألوهية السيد المسيح؛ إذ إن بجانب تلك الرواية المتعارف عليها من أن المسيح كان عفيًا ليس له أولاد ولا ذريّة إلخ.. تقول رواية أخرى بأن المسيح كان له ذريّة من أحد تلامذته، وهي “مريم المجدلية”. كُل هذه الاستنتاجات في “شيفرة دافنتشي” مستخرجة من لوحة “العشاء الأخير” لليناردو دافينتشي التي تقبع نسخة رديئة منها على الجدار أمامي الآن، اللوحة تشير إلى أن الشخص الأول على يمين المسيح كانت مريم المجدلية؛ الشخصية التي شُوهت على مر التاريخ بأنها تمثل الخطيئة وبعد ذلك التوبة. من خلال هذه الرواية؛ فإن مفهوم ألوهية المسيح يكون في محل شك كبير، ويجعله إنسانًا فانيًا كأي شخص على وجه هذه الأرض، مما يخلق جدلًا آخرًا وتساؤلات متعددة.

هذا هو السر العظيم المرتبط بالكأس المقدسة؛ حيث إن الكأس المقدسة ليست كأسًا ماديّة كما يتماهى ويتراءى للجميع، إنما هي تمثيل لامرأة تحمل دمَ وذريّة المسيح، وهي مريم المجدلية، الأنثى المقدسة، مصدر كل شيء.

هنا يجب علينا أن نرجع قليلاً إلى الوراء، إلى ذلك الخلاف الأبدي بين الذكر والأنثى، وإلى النظرة الدونية من قبل الدين المسيحي الموجهة نحو المرأة منذ جمع الأناجيل الأربعة في عهد الملك قسطنطين لتشكيل العهد الجديد؛ وهذا شيء مبهم نظرًا لأن الديانة المسيحية دخلت ونشرت تعاليمها بشكل متأخر في ذلك المكان، وذلك التحول المفاجئ من الوثنية إلى الدين المسيحي، ونظرًا إلى أن الإمبراطور قسطنطين قد عُمِّد قبل وفاته بقليل؛ مما يجعل من الأمر مثارًا للتساؤلات حول تفضيل قسطنطين للمسيحية، وسبب ترك الديانات الوثنية التي كانت تقدس المرأة كذلك (الآلهة فينوس مثلاً)..

 بعد تجميع الأناجيل (متّى، يوحنا، مرقس، لوقا) وإنشاء العهد الجديد الذي من شأنه -حسب اعتقادهم- تسهيل الدين المسيحي وتقريبه إلى قلوب المسيحيين، كانت بداية الحملة الشعواء من قبل الكنيسة لتشويه صورة الأنثى بشكل مفرط، وهذا يستند إلى وعلى حوادث تاريخية عديدة كان من شأنها أن تهدد سلطة الكنيسة، والتي تسببت بمراحل من الاضطهاد والقهر والتي جرى بسببها إخفاء حقيقة ألوهية الأسرة الملكية المنسوبة إلى المسيح إذا ما انسللنا خلف تلك الرواية المذكورة أعلاه.

هنا يأتي دور أخوية سيون، والذي يتلخّص في حماية هذا السرّ العظيم، ومحاربة العدو اللدود المتمثل في هذه الحالة بالكنيسة أو بشكل أكثر دقة؛ فإن جماعة عتيقة من الأساقفة الكاثوليك تدعى “أوبوس داي” التي كانت تبحث بحنق عن هذا السر العظيم (والذي هو عبارة عن مستندات تاريخية خطيرة منذ عهد المسيح تثبت الرواية غير المحببة من قبل الكنيسة) الذي من شأنه أن يقلب العالم المسيحي رأساً على عقب…

كان أعضاء الأخوية يعلمون بوجود هذه الوثائق؛ فأنشؤوا فرقة عسكرية تسمى “فرسان الهيكل”، واختلط تاريخ هذه الفرقة بالكثير من القصص والأساطير والحكايات في الماضي، وكانوا يعملون ويتحركون أثناء الحروب الصليبية على أساس أنهم يقومون بحماية الحجاج إلى القدس؛ ولكن واقع الأمر أنهم كانوا يهدفون إلى البحث عن وثائق الهيكل التي يقال إنهم عثروا عليها بعدما طلبوا أن يسمح لهم بالإقامة في الإسطبلات الموجودة تحت أنقاض المعبد، حيث يوجد ما يشار إليه في الديانة اليهودية بـ “قدس الأقداس”.

وبعد ما يقارب عشر سنوات من البحث المتواصل، وجدوا الكنز الذي يبحثون عنه، ونقلوه إلى أوروبا وتحديدّا فرنسا؛ فابتز الفرسان (مستخدمين الوثائق بالغة الخطورة التي حصلوا عليها) الفاتيكان، واشترت الكنيسة صمتهم، حتى أنهم حصلوا على سلطة غير محدودة، وأعلِن أن لهم قوانينهم الخاصة بهم، وأنهم قوة عسكرية تتمتع بالاستقلال الذاتي التام بعيدا عن أي تدخل من الملوك والأساقفة في الفاتيكان؛ أي أنهم مستقلون دينيًا وسياسيًا، وهنا أتحدث عن الأخوية والفرسان بالطبع.

بفضل هذه السلطة المطلقة التي منحت لفرسان الهيكل؛ توسعوا في القوة والممتلكات والكنائس والقلاع، حتى أنهم كانوا يمدون الملوك المفلسين بالقروض مع الفوائد، وبذلك كانوا أساس نظام البنوك الحديثة، حتى أن الأمراء كانوا يودعون الذهب في أي كنيسة للفرسان، ويسحبونه من أي كنيسة أخرى، مع احتساب فائدة، وبذلك لم يكن قادة الحملات الصليبية والقوافل التجارية مضطرين إلى المغامرة بحمل الذهب معهم والتعرض للسلب والسطو.

في نهاية الأمر لم يعجب الفاتيكان هذا الشيء، ولم يكونوا قادرين على تحمل ذلك الوضع لفترة أطول؛ فتعاونوا مع ملك فرنسا آنذاك في الحد من هذا العبث الذي يفعله فرسان الهيكل، وبالفعل أقيمت حملات للقبض عليهم، ثم تم اتهامهم بجميع الاتهامات الدينية المتعارف عليها من قبل الهرطقة والسحر وعبادة الأوثان والشذوذ إلخ… رغم ذلك لم يتمكنوا من القضاء عليهم تمامًا؛ إذ إن فرقة فرسان الهيكل تفرعت وأصبحت فرقة سرّية، وما زال في قبضتها ذلك السر العظيم .

هل لكل هذا الكلام معنى؟ هل كل هذا صحيح؟ لا أحد يعرف ذلك، الكثير من الشائعات تشير إلى مصداقيتها بسبب الدلائل الكثيرة المتوفرة؛ لكن في الطرف الآخر هناك من يعارض جميع ما كتب هنا، وعلى رأسهم الكنيسة، وقد لا يكون كل هذا إلا محض استفزاز قام به “دان براون” لعقولنا.

بيير بلانتار، المعلم الأكبر الأخير للأخوية (من 1963م إلى 1984م)، والذي كان وراء نشر الأسماء الكبيرة التي ترأست الأخوية، بالإضافة الى مستندات أخرى، قد اعترف بأن أقواله جميعها غير صحيحة، وبأن جميع تلك المستندات والوثائق باطلة وكان ذلك في عام 1993م، وهذا يترك لجوء “دان براون” للاستناد بهذه الوثائق المُلفقة أمرًا يدعو للحيرة رغم جمالية الرواية.

أدب سياسة مختارات الثقافة والفكر

عن الكاتب

مبارك خميس