فجعت الأوساط الثقافية العربية صباح الجمعة، الأول من سبتمبر 2023، بموت الشاعر الغنائي العراقي “كريم العراقي” إثر صراعٍ طويل مع المرض امتد لسنواتٍ أربع. وانخرط جمهوره ومحبوه وأصدقاؤه على منصات التواصل الاجتماعي في تأبين يليق بالمكانة التي يتبوَّؤُها كريم في ذاكرة الجمهور العربي الذي عرفه شاعرًا كتب أغنيات للعديد من الفنانين العراقيين والعرب. إلا أن هذا التفاعل، بدا وكأنَّ مَن مات هو المتنبي -على الصعيد الشعري-. ولست أقول هنا إنه لا يجب علينا أن نتفاعل مع موت الشعراء الأقل مرتبة من المتنبي؛ لكنني أقول إن ذاكرة الناس لا يعوّل عليها؛ فكريم -رحمه الله- لم يكن شاعرًا فارقًا في تاريخ التجربة الشعرية العربية، ولا حتى العراقية على وجه الخصوص. أقول -ربما- إن ما جعل كريمًا محفورًا في ذاكرة الجمهور هي توأمته الفنيّة مع الفنان العراقي كاظم الساهر، وأيضًا -ربما- كثافة حضوره الإعلاميّ، وبساطة أبياته، وكون المعاني التي تحملها معانٍ تخّص حياتنا اليوميّة، معانٍ قُدّمت أيضًا بلغة يوميّة أكثر منها شعريّة.
مايكل كولبي، أستاذ الفلسفة الأمريكي في جامعة أدنبره، والمتخصص في قضايا الموت والتفجّع، يقول في كتابه (التفجّع: دليل فلسفي) أننا قد نتفجّع على فقد حتى الأشخاص الذين لا تربطنا بهم علاقة شخصيّة؛ ولكن ذلك بقدر ما هم حاضرون في هويتنا العمليّة كما يسميها، والهوية العملية: هي كل ما يشكّل حياتنا اليوميّة من أفكار، والتزامات، وقيم، ومشاريع. إذن لا شكّ أن كريمًا حاضر كجزء من هوياتنا العملية بوصفه الشاعر الذي نستمع لقصائده مغنّاة بين الحين والآخر، وقد تختلف درجة تفجّعنا على الراحل بقدر ما يختلف حجم حضوره في هوياتنا العملية. أقول هذا الكلام لأنطلق في تفصيل ما حدث على منصات التواصل الاجتماعي من صدامٍ على شعريّة كريم أو على مكانته الشعريّة. بطبيعة الحال، ولأن الشعرَ ذو المعنى العميق، واللغة العالية، هو الأقل شيوعًا وقراءة في أيامنا هذه؛ فإن شعرًا كشعر كريم هو الأعمُّ والأوسع انتشارًا، وهكذا بالنسبة لقاعدته الجماهيرية، هي أكبر حجمًا. وعليه؛ فمن المؤكد أن كريمًا يشكّل جزءًا ولو بسيطًا من الهويات العملية لكلّ هؤلاء. مما سيترتب عليه أن يكون حجم التفجّع بقدر ما أحبَّ الفردُ كريمًا، وبالتالي ولأن التفجّع يثير انتباهنا نحو علاقتنا بالراحل -أيًّا كانت طبيعة هذه العلاقة- فأجدهُ من المُتَفّهمِ (ولا أقول من الصحيح) أن نرى كل هذا الكمّ من التأبين لكريم بوصفه شاعرًا عظيمًا؛ لأنه كذلك في ذاكرة الكثير من محبّيه أولًا، ثم في هوياتهم العملية تاليًا. ولا يجب السؤال -على الأقل في هذه المرحلة- عمّا إذا كانت تلك المرتبة الشعرية التي تبوأها كريم -عند جمهوره- مُستحقّةٌ على الصعيد الشعري أم لا! ذلك أنه وفي حالات التفجّع، وبعدما تهدأ، سيعيد المتفجّعون النظر في تقييمهم للراحل، ويخلُصُون إلى مدى عقلانيّة هذا التقييم.
لكن لاحظ أننا وفي هذا السياق، نحن بالتحديد نتحدث عن (التأبين الكبير -والمبالغ فيه على الصعيد الشعري من وجهة نظري-) الذي حظي به الراحل كريم العراقي -رحمه الله-، ولقياس عقلانيّته يجب أن ننظر في طبيعة العلاقة بين كريم وبين مُقيمي التأبين، والذين هم في الغالب كُبرى الحسابات الشخصيّة، والمؤسسية -إن صح التعبير-، على منصات التواصل الاجتماعي، ولست أقول هنا إن جمهوره على المستوى الفرديّ لم يشارك؛ لكنني أودّ تسليط الضوء على أثر ما تنشره الحسابات الكبرى في صناعة الرأي وتغييره وتحويله عند الأفراد المعنيين، وحساباتهم الشخصية. فأما كبرى الحسابات الشخصيّة، كانت حسابات المغنّين والفنانين والشخصيات الرسمية من محبي ومعجبي وأصدقاء الراحل كريم العراقي -رحمه الله-، وأما كبرى الحسابات المؤسسية؛ فهي تلك المعنيّة بالفن والفنانين، لذلك، وقياسًا على طبيعة العلاقة بين كريم وبين مقيمي التأبين، سنجد أنه يمكننا أن نفسّر لماذا أصبح كريم “شاعر العراق العظيم” على حين غفلة من الشعر. والتفسير كالتالي، صار كريم -رحمه الله- شاعر العراق العظيم؛ لأن هذا هو ما قُدّم على أنه حقيقةٌ دامغة من قبل حسابات لا فكاك لها من أن تقدم مثل هذا الزيف -عن حسن نيّة- لاعتباراتٍ (شخصيّة، وسوشيل-ميديويّة). دعونا نتخيّل الآن سياقًا حيث يموت فيه شاعر بذات مستوى كريم الشعري -أو أحسن قليلاً-؛ ولكن من دون قاعدته الجماهيرية. لن تجد كل هذا التأبين بالطبع.
لكن ما يعنيني في هذا المقال ليس التأبين بشكل عام، إنما وعلى وجه الخصوص ما أثاره هذا التأبين في حفيظة من لا يعدُّون كريمًا شاعرًا، بل ويرونه مجرمًا بحقِّ الشعر. “فجأةً أصبحنا على كريم -رحمه الله- بوصفه شاعر العراق العظيم”، يقول لي أحد الأصدقاء مساء الجمعة. ويكتب صديق آخر -من العراق- في حسابه على الإنستغرام: ” الشعر السلبي يعمل دائمًا على تسطيح الذائقة، المُصابة أساسًا بالحمى، وحينما أجد شعبية لشاعر شعبي جاهل مثل كريم العراقي؛ فأنا أفترض وجود شاعر مضاد مخفي. فوجود هكذا حشرات مثل كريم ولميعة وكاظم يعني إلغاء وجود الفنان الحقيقي ونفيه عن الذائقة العامة، ومهمة الإنسان الذي يقيم وزنا للشعر أن يبحث دائمًا عن ذلك الشاعر المضاد”. ما الذي يحاول الأصدقاء قوله؟ هل يقولون إنّ كريمًا لا يستحق التأبين بوصفهِ ميتًا؟ أم يقولون إنَّ كريمًا لا يستحقُّ هذا التأبين بوصفه شاعر العراق العظيم؟ ما الذي أثار ردود الفعل الحانقة هذه اتجاه كريم؟ وكيف يمكن تفسير التوقيت الحساس -شبه غير الموفق- لخروجها للعلن؟ “ملوك الوقاحة”، هكذا وصف أحد الشعراء الشعبيين كل مَن قال عن كريم شيئًا غير المدح أو الترّحم، ويقول صديقٌ آخر: إن مثل ردات الفعل هذه تنمّ عن مشكلة أخلاقيّة، ويتساءل ما فائدة الشعر إن لم يجعلك أكثر مروءةً؟ ثم يُردف لماذا يحسب كلّ هؤلاء أنفسهم حماة حمى الشعر؟ من وكّلهم؟
الإجابة على كل هذه الأسئلة تُعدُّ مغامرةً متهوّرة في حد ذاتها، ناهيك عمّا قد يعتريها من عدم دقّة كونها تتعامل مع فضاء متغيّراتٍ واسع محوره العواطف البشرية. لكن وكمحاولة شخصيّة لفهم ما يحدث، سأجرؤ على المحاولة، مستندًا على مزيج من الأبحاث المؤسسية، وملاحظاتي الشخصيّة.
لنأخذ بالاعتبار أولًا؛ مسألة تأثير الحسابات الكبرى على الرأي الفرديّ للشخص، وتغييره، بل وصناعته. لننطلق مما أسماه روبرت تشيالديني بـ “البرهان الاجتماعي” وهو كما يعرّفه في كتابه (التأثير: سيكولوجيّة الإقناع)، عندما نكون في شكٍّ من أمرنا: ” نحن مستعدون لوضع ثقة هائلة في المعرفة الجمعيّة للناس….البرهان الاجتماعي يكون في أكثر حالاته فاعليّةً عندما لا نشعر بالألفة أو عندما نشعر بعدم اليقين وبالتالي، نتوجه للبحث خارج أنفسنا عن مؤشراتٍ إلى أفضل طريقة للتصرف”[1]. تخيّل شخصا يفيق من نومه، يلتقط -كالعادة- أول ما يلتقط هاتفه، ينظر للشاشة المليئة بالإشعارات من كل تطبيقات العالم، بأن شاعرًا يدعى “كريم العراقي” قد مات. قد يقول: “آه نعم أنا أعرفه، هو القائل: لا تشك للناس جرحًا… “، وبطبيعة الحال هذا الشخص لا يعرف أن كريمًا ليس بقائل هذا البيت، لكنّه اقتبسه (ولا أقول انتحله)، لكنّه بيتٌ يعني له الكثير ويمثلّه في كثير من الأحيان، أو قد يقول: “أعرفه، هو من كتب (كان صديقي) لكاظم، مؤسف”، ثم يهرع إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ليكتب شيئًا عن الحدث. لا أقول إن هذا ما حدث مع كل المشاركين في تأبين “الشاعر”، إنما لا شكّ أنه حدث عند الغالبية، وقد حدث لأن شخصيّاتٍ مقربة من كريم، وحساباتٍ تُعنى بالثقافة قد نشرت الخبر على وسائل الاجتماع البشري الافتراضيّة، وأسست لبرهان اجتماعي فيما يخصّ وفاة كريم، كريم شاعر العراق العظيم، وبالتالي كان قرار صاحبنا هذا أن يكتب شيئًا مثل “ياه ، يا لها من خسارةٍ كبرى للشعر العربي”، ليس لأنه يعرف كريمًا شاعرًا؛ بل لأن الجميع يعرف كريمًا شاعرًا. ولأستشهد بما حدث لي على حسابي الشخصيّ، في اليوم التالي لوفاة كريم -رحمه الله- وضعت أبياتًا سخيفةً له: “يا قوس، يا متفائلة. لك كبرياءٌ هائلة ومغامرات مذهلة. السعي من صفاتكِ، والحب كل حياتكِ، لكن هناك دسائسٌ دومًا تحاك حولكِ،……إلخ”، وهي أبياتٌ ضمن سلسلة من المقاطع باسم (المرأة والأبراج)، وضعتها على حسابي في الإنستغرام وقلت (كريم شاعر العراق العظيم)، ساخرًا بذلك لا من كريم، بل ممن يعتقدون فعلًا أن كريمًا شاعر جيّد؛ لكن ويا للدهشة، أحد الصديقات الغاضبات منّي لأني لا أرى شاعرًا في كريم، تقول بكلّ ما في الأرض من جديّة وتشفّي: “اليوم أصبح شاعرًا!!!؟”، ودون أي إيضاح، لَكُم أنْ تروا ما يصنعه البرهان الاجتماعيّ. لَكَمْ هو مخجلٌ أننا صرنا نصنّف من يتعامل مع الشعر بكلّ هذه السخافة على أنه شاعر عظيم، هذه التفاهة ناتجةٌ عن أن المغني المفضل لعامرٍ أو زيد قد شارك في التأبين ووصف كريم بأنه شاعر، وشاعرٌ متفرّد أيضًا! يا للهول!
إذن وبحسب ما سبق، أستطيع أن أقول: إن التفجّع على كريم، والشعور بالأسف لوفاته، لا علاقة له إطلاقًا بنقد أو تقييم أو حتى إبداء رأي شخصيّ بشاعريّته. ولا أقول إن آراءً كالتي طرحها الأصدقاء عن كريم هي آراءٌ لا يليق قولها في يوم وفاته، لكن ما لم يوفّق به الأصدقاء -بحسب ما أرى- هو عدم أخذهم بالحسبان طبيعة الآراء الجمعيّة؛ إذ إن الإشكال الرئيس في المسألة، ليست شاعريّة كريمٍ، ولا هي مسألة وفاته، إنما هو أن الجمع لا يتقبّل الرأي الذي يخرج عن السائد في غرف الصدى، وبالأخصّ إن كان رأيًا يرمي بتفضيلاتهم عرض الحائط؛ لأنه يأتي من خلفيّة شعرية ذات جودةٍ أعلى، ولذلك كنت حريصًا على عدم مقاطعة مراسم التأبين الإلكتروني، لئلّا أبدو كمن يتسلّق على حادثة موت للظهور، وذلك فقط ما يبدو عليه الأمر، إلا أنه ليس كذلك في جوهره بالضرورة.
لنتعمّق أكثر في تحليل هذه المسألة، سنستعين (بنظريّة الهويّة الاجتماعيّة)[2] لهنري تاجفال، وجون تيرنر. تنصُّ النظريّة على أن الناس يميلون إلى تصنيف أنفسهم في مجموعات (هم)، و(نحن)، مستندين على القيم والآراء المشتركة، وفي حالتنا هذه ستكون المجموعة (أ) هي المجموعة التي ترى في كريم شاعرًا متفرّدًا، بينما المجموعة(ب) -والتي أنتمي إليها- لا ترى فيه ما تراه المجموعة (أ). ثم يمكننا فهمُ امتعاض ورفض (ب) للسردية الطاغيّة من خلال مفهوم (تهديد الهوية الاجتماعية)[3] وهو تهديد يظهر عند وجود تضارب بين معتقدات الفرد الراسخة وبين السرديّة الشائعة، مما يُشعر الشخص بضرورة الدفاع عن الأصالة الشعرية التي تخضع في مثل حالتنا هذه لتهديد (البرهان الاجتماعيّ). وبالاستناد إلى مبدأ حماية القِيَم في نظرية تأكيد الذات[4]؛ فإن تصرّفات المجموعة (ب) تتماشى مع المبدأ الذي وُضع بواسطة (شيرمان وكوهين)، والذي ينص على أن الأفراد يجدون أنفسهم متأهبين للتأكيد على قيمهم المحوريّة ضد وجهات النظر المقبولة على نطاقٍ واسع.
إذن، وإن كان التوقيت حساسًّا فعلًا؛ فذلك ليس بسبب كافٍ لئلا يُعبّر المرء عن رأيه بكل وضوح. ومع احترام حقوق الآخرين بالتعبير عن آرائهم، وتوفّر ذات فرص التعبير للجميع، ومع كون غالبيّة آراء المجموعة (ب) تنطلق من الفصل بين كريم الإنسان وكريم الشاعر، فها هنا تسقط تهمة اللاأخلاقيّة.
أما عن تهمة الوقاحة؛ فهي تُهمةٌ يمكن القول أنها انعكاسٌ إما لِحُبّ وإعجاب كبيرين بالراحل كريم العراقي، وهو ما أراه مُتفَهمًّا، في ظلّ المشاعر الجياشة التي قد تدفع المرء لحالات متفهمة من الغضب والازدراء. وإما أنها تُهمةٌ ترتقي إلى مستوى الشخصنة، والرغبة في الانتقام ممن يرى عكس ما يرى الجمع، وهو ما يمكنني أن أقول إنه أمرٌ بشع وقبيح ووقح؛ لأنها مجددا تهمّةٌ تحاول التسلّق على ظهر حب وتقدير الراحل كريم -رحمه الله-، من أجل التشفي والانتقام من مسألة لا شأن لكريم فيها!
أمّا عن الشعر، فلا أملك إلّا أن أختم بإجابة الشاعر الفذّ محمود درويش عندما سُئل “لغتك الشعرية فاتنة وساحرة معًا، كيف تحول العاديّ إلى مدهش؟ أو الصور اليوميّة إلى صورٍ رمزيّة كثيفة؟” فقال: “أنا كل ما أفعله في الشعر، وفي كتابة القصيدة هو أن أعمّق المعنى.. أسعى لذلك في كل قصائدي، لقد اكتشفت مع قصيدتي “مديح الظل العالي” على الرغم من احتوائها على مقاطع غنائية مباشرة، أن تعميق المعنى هو ما يمكن أن يخلّد القصيدة، وأن يجعل لها حضورًا زمنيًّا طويلًا”[5]، وكذا قال في مقاله “أنقذونا من هذا الشعر” عبارةً تُلّخص تفسيرًا طويلا قد نضطر للخوض فيه لفهم دوافع المجموعة (ب): “إنني لا أعرف ما هو الشعر. ولكنني بقدر ما أجهل هذه الماهية أعرف تمام المعرفة ما ليس شعراً”.
[1] https://blog.crobox.com/article/social-proof-examples
[2] Tajfel, H., & Turner, J. C. (1979). An integrative theory of intergroup conflict. In W. G. Austin & S. Worchel (Eds.), The social psychology of intergroup relations (pp. 33-47).
[3] Branscombe, N. R., Ellemers, N., Spears, R., & Doosje, B. (1999). The context and content of social identity threat. In N. Ellemers, R. Spears, & B. Doosje (Eds.), Social identity: Context, commitment, content (pp. 35-58).
[4] Sherman, D. K., & Cohen, G. L. (2006). The psychology of self‐defense: Self‐affirmation theory. In M. P. Zanna (Ed.), Advances in experimental social psychology (Vol. 38, pp. 183-242).
[5] صحيفة الرياض، الخميس 14 أغسطس 2008، حوار عبدالله السمطي