بين الاقتداء والتقليد

يخلط كثير من الناس بين الاقتداء والتقليد، هذا الخلط ليس على مستوى الجمهور فحسب؛ بل حتى على مستوى المتعلمين والمثقفين والمتخصصين في المعارف الدينية، فكثير منهم يحمل التقليد بمعنى الاقتداء، وهذا أمر مشكل؛ لأن الفرق بينهما واضح لا سيما في أمور الدين، لكون القرآن ذم سلوك المقلدين في الدين، لذا يلزم توضيح معنى الكلمتين.

يرجع أصل لفظة (التقليد) إلى لفظة (قلد)، وعند الرجوع إلى كتب المعاجم نجدها تقدم معنى الجمع والضم والتتابع، وإن اختلفت من شيء إلى شيء في بعض التفاصيل، إلا أن المتأمل فيها يجدها لا تخرج عن المعنى المتقدم، وفي ذلك يقول ابن منظور (ت:711هـ): “‌قلد: قَلَد الماءَ في الحوض واللبن في السقاء والسمن في النِّحْي يَقْلِدُه قَلْدًا: جمعه فيه؛ وكذلك ‌قَلَد الشراب في بطنه. والقَلْدُ: جمع الماء في الشيء. يقال: قَلَدْتُ أَقلِدُ قَلْدًا أي جمعت ماء إلى ماء”؛ فجمع الأمور وضم بعضها إلى بعض هو تقليد، ونستنتج من ذلك أن جمع مسائل الدين وضم بعضها إلى بعض مع العمل بها دون فكر ولا رويّة هو تقليد، سواء جمع هذه المسائل من فقيه واحد أم من أكثر من فقيه أم جمع مسائل مذهب بعينه؛ لذا يقول الفقيه ابن خلفون (ت:600هـ) في (أجوبته): “حقيقة التقليد قبول قول القائل من غير دليل ولا برهان”.

أورد الجرجاني (ت:816هـ) في كتابه (التعريفات): “والتقليد: عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول ويفعل، معتقدًا للحقيقة فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه”. ثم يضيف الجرجاني: “التقليد عبارة عن قبول قول للغير بلا حجة ولا دليل”؛ ولأن كتاب (التعريفات) مختص في تعريف مصطلحات الفنون المتعددة كالفلسفة والمنطق واللغة والبلاغة والتصوف والفقه وأصوله والفِرَق في التاريخ الإسلامي، من هنا تعريف التقليد مع الجرجاني لا يختلف عما ذكره الفقيه ابن خلفون، وبهذا نفهم بأن التقليد ليس سلوكًا مرغوبًا فيه؛ لأنه من غير نظر ولا إعمال فكر.

ذمت الآيات القرآنية الأقوام الذين اتبعوا آباءهم من غير نظر ولا فكر ولا عقل، ومن هذه الآيات:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) البقرة: 170-171.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) لقمان:21.

إن لفظة (التقليد) أو (قلد) لم ترد في القرآن، بيد أن اتّباع الجماعة أو الفرد بلا نظر ولا روّية ولا فكر هو التقليد ذاته؛ لأنه اتّباع بلا عقل، وهو سلوك الصم البكم كما وصفهم القرآن، وبهذا يصح القول بأن القرآن ذم التقليد، وجاء فيه: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) البقرة:166-167، لذا بوّبتْ بعض كتب الفقه باب (في ذم التقليد)، مثلما جاء في كتاب (المصنف) لأبي بكر الكندي (ت:757هـ).

إن اتّباع الرسول محمد عليه السلام لا يدخل في حكم التقليد؛ فالرسول لا يقلد، وإنما يقتدى به، وما ورد من آيات في اتّباع الرسول؛ فهي من باب اتّباع الرسالة الإلهية التي أنزلها الله عليه أي القرآن، لهذا جاءت الآية: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف: 157، فهذه الآية واضحة أنها تثني على الذين يتّبعون الرسول، فالرسول مبلغ للرسالة واتّباعه من باب اتّباع الرسالة التي أوحاها الله إليه، وسِمت هذا الرسول أنه النبي الأمّيّ؛ أي من أمة لم ينزل عليها كتاب من قبل، وأتبع ذلك بأن هذا الرسول أتى بقيم إنسانية راقية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحل الطيبات وتحريم الخبائث، ثم يؤكد القرآن بأنهم اتّبعوا النور؛ أي القرآن الذي أنزله الله معه.

يلزمني هنا الوقوف مع لفظة (الاقتداء) التي يرجع تصريفها إلى (القدو)، يقول ابن منظور: ” القدو: أصل البناء الذي يتشعب منه تصريف ‌الاقتداء، يقال: قدوة وقدوة لما يقتدى به. ابن سيدة: القدوة والقدوة ما تسننت به، قلبت الواو فيه ياء للكسرة القريبة منه وضعف الحاجز”، لذا يفترض أنْ لا يتسنن الشخص إلا بما هو مقتنع به؛ لأنه سيتخذه منهج حياة.

وردت في القرآن لفظتان: (اقتده، مقتدون)؛ فالأولى: جاءت في سياق أمر النبي محمد بالاقتداء بمنهج الأنبياء قبله (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام:90؛ فهو ليس تقليدًا للأنبياء، وإنما اقتداء بهداهم، والهدى يكون فيما هو صحيح ومقتنع به، ومن الاقتداء بهم الاقتداء في تبيلغ الوحي والتذكير بما أمر الله به، دون السؤال على ذلك أجرًا، ولهذا لم يأمر القرآن بتقليدهم، بل أمر بأن يقتدى بمنهجهم وهو الهدى، ومن هذا الهدى الوحي وتبليغه دون السؤال عليه أجرًا، كما ذكر القرآن عنهم: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هود:51.

الثانية: جاءت في سياق الذم (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) الزخرف:23؛ فالمترفون المتبعون لآبائهم بلا عقل ولا فكر فعلهم هذا مذموم، لأنهم لم يفكروا فيما جاءت به الرسل من وحي ينذرهم، بل اكتفوا بتقليد آثار آبائهم؛ فظنوا أن هذا التقليد هو اقتداء، لذا جاءت الآية التي بعدها: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) الزخرف:24؛ فحتى لو كان الذي عليه الآباء هدى؛ فعلى الإنسان أن يجدده، ويعيد النظر فيه، لتغيّر الزمن، فكانوا بحاجة إلى رسالة تجديدية من الله، وربما هذا ما يحدث اليوم مع قطيع من الناس من تقليد للفقهاء السابقين أو المعاصرين دون إعمال الفكر فيما قالوه؛ فربما كان ذلك صحيحًا في وقته أو وفق اجتهاده الذاتي الذي هو غير ملزم لأحد من الناس، أما اليوم فعلى الإنسان أن يجدد في هذه الأمور التي لا تنسجم مع العصر الحديث؛ لأنه يكون أهدى وأنجع مما كان عليه الآباء، كما أصبحت المعرفة اليوم متاحة لأي أحد دون عناء؛ فليس بحاجة إلى أن يكون إمعة تابعًا لأحد الفقهاء أو رجال الدين.

إن الآيتين 23و24 من سورة الزخرف تشيران إلى أن العبرة ليس بالاقتداء بالآباء أيًا كانوا سواء آباء متعلمين أم غير متعلمين، وإنما العبرة بالمنهج؛ فالمنهج يفترض منه أن يتغير بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال.

ربما ما يقع فيه كثير من الناس اليوم هو تقليد الفقهاء، وهو أمر مذموم في حد ذاته سواء أسميناه تقليدًا أم اقتداء؛ لأنهم لا يُعملون فيه الفكر ولا إعادة النظر لينسجم مع الواقع المعيش، من هنا ما ورد من آثار عن النبي محمد ليس بالضرورة أن يكون منسجمًا مع واقعنا اليوم، بغض النظر عن صحته من عدمها؛ لأنه بشر يعيش زمنه؛ ولأن مدوّنات الحديث فيها الغث والسمين، بينما ما لا يختلف فيه هو ما جاء به من رسالة (القرآن) فهو ليس أثرًا، بل هو وحي من الله يجب علينا تدبره بإعمال الفكر، لنستنتج منه ما يتماشى مع أحوالنا اليوم، لهذا جاء القرآن “حمّال أوجه”.

يتضح من كل ذلك الفرق بين التقليد والاقتداء؛ فالتقليد لا يصح حتى للأنبياء لأنه يتضمن معنى غياب العقل والفكر، بينما الاقتداء يتضمن حضور العقل والفكر، ويكون في المنهج باقتناع. ظهرت كثير من الأصوات تنادي بتقليد النبي محمد دون أن يدركوا الفرق بين التقليد والاقتداء؛ ولهذا اقتصر الجرجاني في كتابه (التعريفات) على ما ذكرته سابقًا، لكن محقق الكتاب محمد المرعشلي أضاف إضافة متأثرة بالرؤية التقليدية مع أهل الحديث والأصوليين دون مراعاة المصطلح فيما يحمله من مفهوم؛ فقال: “والتقليد: في اللغة معناه وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به. واصطلاحًا قبول قول الغير من غير حجة ملزمة” وهنا لا نختلف معه، بيد أنه أتبع ذلك بقوله: “وبذلك لا يسمى الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع تقليدًا؛ لأن ذلك هو الحجة في نفسه، فيتحقق التقليد في أخذ العامي قول المفتي من غير معرفة دليل”.

يبدو لي أن هذا الكلام لا يستقيم مع مفهوم تقليد الرسول؛ لأنه كما ذكرت سابقًا الرسول لا يقلد، بل يقتدى به، وتم توضيح الفرق بينهما، أما الأخذ بقول الرسول؛ فإما أن يكون هذا القول قرآنًا، وبالتالي هو الوحي، الذي أمرنا باتّباعه وفق فهمنا وتدبرنا وتأويلنا، وإما أن يكون قول النبي الذي يمارس حياته مثل بقية البشر، وهنا يكون قوله وفق زمنه، أو تكون تلك الأقوال منسوبة إليه وهو الأكثر؛ فإن وافقت القرآن والعقل فبها ونعمت، وإن خالفت القرآن والعقل فترفض، ولا تقلد ولا يقتدى بها، وهل الرواية هي حجة؟ ذلك أمر غير متفق عليه، لأن الروايات في حد ذاتها تخضع للتصحيح والتضعيف، فيقبلها فلان ويرفضها آخر، فكيف تكون حجة؟!

والإجماع أيضًا أمر غير متفق عليه أصلًا، ليكون حجة ملزمة، وإنما هو وهم يتسلط به على الناس باسم الدين، ولا دليل على الإجماع كونه حجة من القرآن، وفي رأيي لا يصح من يسميه المرعشلي بالعامي أن يقلد المفتي أو الفقيه، لأن الله أعطى كل الشخص عقلًا ليفكر به ويهتدي، وبه يتق الله ما استطاع، وليس وفق ما يفتي به الفقيه؛ لأن فتوى الفقيه تبقى رأيًا، يؤخذ ويرد، إلا إذا اقتنع السائل بجواب الفقيه؛ فهو حينها لم يقلد بل أخذ بقناعته وفق ما اتضح له.

ربما يعترض البعض بأن مَن يسمى بـ(العامي) ليس لديه القدرة أو الوقت للنظر والبحث عن الأدلة فلا بد له من التقليد، وهو اعترض لا يمكن التسليم به، لأن الناس تتفاوت في النظر في الأمور والأدلة، وكل بقدر استطاعته، صحيح أن إمكانية الباحث والمتعلم أقوى من إمكانية غير المتعلم؛ ولكن لكل إنسان إمكانية للنظر بعقله بقدر استطاعته، وإلا لما خلق الله له عقلًا، فهو ليس المطلوب منه النظر والبحث في الكتب والمقارنة بين الأدلة كالباحث والفقيه، بل بمجرد اقتناعه بذلك الرأي وفق نظره الذي قد تراه أنت قصيرًا؛ فهو أدى ما عليه من إعمال العقل بقدر استطاعته، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها من قدرة عقلية وذهنية وإمكانية أخرى، لذا جاء في القرآن (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن:16.

وردت كلمة (أسوة) في القرآن ثلاث مرات في سورتي الأحزاب والممتحنة، على أن التأسي أيضًا ليس هو التقليد، بل هو أقرب إلى الاقتداء، إلا أنه يضاف إليه الإصلاح ومعالجة الأمور؛ فأصل كلمة (أسوة) يرجع إلى (أسا) التي تعني العلاج والمداواة، وحين الرجوع إلى المعاجم يبدو أن كل كلمة يرجع أصلها إلى (أسا) تتضمن العلاج والمداواة والإصلاح، مثل: الإساء، ويأسو، والأَوس أي العوض، والمؤاساة والتأسية أي التعزية والمشاركة وكذلك أسوة أي قدوة، وعليه فالآيات الثلاث التي وردت فيها كلمة (أسوة) حين تدبرها تلحظ أنها جاءت في سياق إصلاح القضايا الاجتماعية وقضايا القتال والفتنة والاختلاف؛ فيفترض من المسلمين اليوم التأسي برسول الله عليه السلام في علاج مثل هذه القضايا وليس تقليدًا محضًا بلا وعي ولا نظر ولا مراعاة لاختلاف الأزمنة والأمكنة والمواقف.

يبدو لي أن موضوع التفريق بين التقليد والاقتداء والتأسي أمر مهم كي لا يقع الشخص في تصورات وأفعال لا تحمد عقباها؛ فالآخذ بدليل مقتنع به لا يسمى مقلدًا، حتى لو وافق غيره، سواء كان الدليل من القرآن أم من العقل، أما الرواية فليست بدليل لكن يؤخذ بها في حالة موافقتها للقرآن والعقل، وذكرت ذلك في كتابي (أقانيم اللامعقول، ح1 وح2)، يقول محمد بن يوسف اطفيش (ت:1332هـ) في تفسيره (هميان الزاد): “والعامل بالدليل لا يسمى مقلدًا، ولو وافق غيره، ولو كان الدليل عقليًا”.

ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد بن مبارك النوفلي

كاتب عماني