سيرة ابن إسحاق أنموذجًا
إن مدوّنات السيرة النبوية كثيرة جدًا، منذ أول سيرة دوّنت وهي كتاب السيرة النبوية لابن إسحاق، والتي اختصرها ابن هشام، وإلى يومنا هذا ما زال الإنتاج في السيرة النبوية مستمرًا وفي ازدياد، بالإضافة إلى أن السيرة كتبت من قبل المسلمين والغربيين، سواء كانوا مستشرقين أم ليسوا بمستشرقين؛ لكن هذه المدوّنات منذ أول سيرة ابن إسحاق وما جاء بعدها متأثرة بثقافة مجتمعاتها وبالتوجه الفكري للمؤلف، مما يشير إلى أهمية سيرة الرسول محمد عليه السلام بين الناس، وكيف كتّاب السيّر يريدون خضع سيرة الرسول وفق ثقافتهم، كما أخضع تفسير القرآن وفق ثقافة المفسّر، من هنا ارتأيت منذ أكثر من 12 عامًا تقريبًا بأن قصص الأنبياء وسيرهم لا تؤخذ إلا من القرآن، لا سيما سيرة النبي محمد([1]) لأنه خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا كتاب ينزل من بعده؛ فكانت سيرته وفق ما جاء به الخطاب القرآني منسجمة مع المنطق الاجتماعي بعيدة عن قصص اللامعقول التي تحشرها كتب السيّر، هذا لأنه أخبر عن نفسه كما جاء في الآية: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) الكهف:110، كما أن القرآن هو المصدر الوحيد الموثوق به مع جميع المسلمين، بينما الرواية الحديثية والتاريخية لا تخلو من الاختلاف والتضاد والنزاع والرفض والقبول.
دوّنت كتب الرواية ومدوّنات السيرة النبوية أحداثَ سيرة النبي محمد منذ ما قبل ولادته وأثناء طفولته والتي اعتبر لها صلة بالبشارة والتنبؤ بنبوته، وتعرف بالإرهاصات، وهي أمور خارقة للسنن الكونية ومن الغرائب والعجائب التي يحملها المخيال العربي آنذاك ويتسلى بها ويسترزق، من قبيل أنه ولد مختونًا مقطوع السرّة([2])، وخرج من أمه آمن بنت وهب نور حينما حملت به أضاء قصور بصرى من أرض الشام، وانكسار إيوان كسرى عند ولادته، وسقوط أربعة عشر شرفة منه، وانخماد نار الفرس، وجفاف بحيرة ساوة، وشق بطنه وهو طفل وغسل قلبه وبطنه بالثلج حتى نقي من مغمز الشيطان، وختم عليه بختم النبوة بين كتفيه، وكان يناغي القمر ويشير إليه بإصبعه ويميل حيث مال، ويتحدثان، ورن إبليس وحزن حين ولادته([3]).
إن هذا المخيال الواسع لدى العرب الذي طرحه الأخباريون يقدم صورة أسطورية للنبي محمد، وهذا قليل من كثير مما حشره الروائيون، ويبدو لي أنهم قصدوا من ذلك تقدم الزمن مقدس للنبي محمد منذ قبيل ولادته مرورًا بأحداث الولادة والطفولة والبعثة والهجرة والمغازي وإلى وفاته، وكل ذلك ولّد أخبارًا وروايات تقدم تعظيمًا لسيرة والديه قبل بعثته ولجده عبدالمطلب ولعمه أبي طالب ثم صحابته لدرجة أن بعض التوجهات المذهبية عدَّت الصحابة حجة في الشرع، وبذلك أصبحت الروايات والأخبار التي تحكي سيرة الرسول ووالديه وصحابته مقدسة لا تقبل المناقشة أو النقد، لدرجة أن بعض المفسّرين فسّر الآية {والعصر} العصر: 1، بعصر النبوة([4])، مما يفضي إلى أن القسم الإلهي مرتبط بعصر النبوة، فيرسم منه عصرًا مقدسًا، وهي فكرة لا تتواءم مع كليات الآيات القرآنية التي تنظر إلى الإنسان حسب إيمانه وعمله لا حسب زمانه ومكان.
تجرأ البعض ونقد الرواية في السيرة النبوية؛ لكن غالبًا ما يكون النقد نقد السند عبر مذهب أهل الحديث، أما نقد المتن فقد ظهر مع بعض الكتابات العصرية الحديثة إلا أنها لم تحظَ بذلك القبول لدى الأثريين، وربما رُمي أصحابها بالضلال والانحراف عن الدين.
أزعم بأن مدوّنات السيرة النبوية والروايات حولها المبثوثة في كتب الروايات والتفسير والتاريخ تحتاج إعادة نظر وقراءة تحليلية نقدية؛ لأن كثيرًا منها لا يصح، ولا ينسجم مع آيات القرآن، ولا الواقع الزمني، عندما نرجع إلى بدايات جمع روايات السيرة النبوية؛ فقد بدأت مع ابن شهاب الزهري (ت:124هـ)، مع أنه لم يترك كتابًا كاملًا في السيرة، لكن اعتبر جمعه لروايتها بداية اكتمال الكتابة فيها؛ لذا اعتبرته بعض الكتابات المعاصرة المؤسس لكتابات السيرة النبوية هيكلًا وجوهرًا وشكلًا([5])، وبما أن حال روايات السيرة النبوية يبدأ بالزهري؛ فإن ذلك كفيل لإعادة النظر فيها ومراجعتها ونقدها، فالزهري ذكر عنه أنه كان يترك في سند روايته من لا يحب أن يسميه، وقيل: في مراسيله أنها شرّ المراسيل([6])، وكان مواليًا لبني أمية، ومقربًا منهم وكان مؤدبًا لولد هشام بن عبدالملك الأموي(ت:125هـ)؛ فلهذا يصعب قبول رواياته وهو ذو هوى أموي([7]).
يعدّ محمد بن إسحاق المطّلبي (ت:150هـ أو 151هـ أو 152هـ) أوّل من ألّف في السيرة النبوية، قال المرزباني (ت:384هـ): “ومحمد بن إسحاق أوّل من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وألّفها”([8])، وهذا يعني أن أوّل ظهور لكتاب في أدب السيرة بعد قرن ونصف من وفاة النبي تحت اسم المغازي، أي كانت تهتم بغزوات الرسول، مما يعني أنها لا تخلو من الوهن والنسيان والضعف والزيادة والنقصان لكون من طبيعة النقل صعوبة نقل الكلام حرفيًا كما هو، ولهذا كان الزهري يقول: “يا أهل العراق، يخرج الحديث من عندنا شبرًا، ويصير عندكم ذراعـًا”([9])، وابن إسحاق لم يكتب السيرة وهو في المدينة، وحسب ما تشير إليه مدوّنات التاريخ بأنه بدأ تدوينها وهو في العراق([10]).
قبل كتابة ابن إسحاق لكتابه في السيرة طبعًا كانت توجد روايات ظهرت كذلك تحت اسم المغازي، كمغازي إبان بن عثمان بن عثمان (ت:95هـ وقيل: 105هـ)، وربما هو إبان بن عثمان البجلي (ت:140هـ وقيل: 200هـ) صاحب (المبتدأ والمبعث والمغازي)([11])، ومغازي ابن شهاب الزهري (ت:124هـ)، ومغازي موسى بن عقبة (ت:141هـ)، ولئن كان ابن شهاب كما تقدم ذو هوى أموي وكان يجالس الخلفاء والأمراء من بني أمية؛ فإن تلميذه ابن إسحاق لم يكن من ذلك ببعيد، لذا أورد الخطيب البغدادي (ت:463هـ) أن ابن شهاب سئل عن مغازيه فقال: “هذا أعلم الناس بها- يعني ابن إسحاق”([12])، لهذا صنف ابن إسحاق كتابه بأمر من جعفر المنصور (ت:158هـ) وقيل: المهدي (169هـ)([13]).
تُعرف سيرة ابن إسحاق بـ(المبتدأ والمبعث والمغازي)، وهو مختصر من سيرة كبيرة بدأت من خلق آدم وإلى عهد المهدي أو أبو جعفر المنصور وفق الاختلاف المذكور آنفًا، ثم اختصر ذلك بأمر من الملك([14])، ولهذا يرى بعض الكتّاب المعاصرين أن كتابة ابن إسحاق لا يمكن أن تكون نزيهة؛ لأنها رافقت بداية دولة فيها الصراع الأيديولوجي شديدٌ([15])، فهي سيرة تضم أخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار قبائل العرب وجدود النبي، ثم تاريخ النبي بمكة ثم الهجرة وغزوة بدر وعرض مغازي النبي في المدينة ثم وفاته.
يبدو أن ابن إسحاق لم يكن مرتضى مع القدامى، لهذا شنعوا عليه كثيرًا وانتقدوه، يقول عنه ابن النديم (ت:384هـ): “مطعون عليه غير مرضي الطريقة”([16])، واتهم بأن يغازل النساء، لأنه حسن الوجه، وكان يؤتى له بالأشعار ويدخلها في كتابه، ويذكر أنه كان ينقل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه ويتهمونه([17])، ووصفوه بالكذب والخبث، وكان مالك بن أنس (ت:179هـ) يسيء فيه القول، ووصفه بالكذاب، وقال “نحن نفيناه عن المدينة”، وقال عنه أيضًا: “دجال من الدجاجلة”([18])، ولذا قال الخطيب البغدادي: “وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها أنه كان يتشيع، وينسب إلى القدر، ويدلس في حديثه؛ فأما الصدق فليس بمدفوع عنه”، كما أن هناك من يمتدحه ووصفه فقال عنه الزهري: “لا يزال بالمدينة علم جم ما كان فيهم ابن إسحاق”([19])، وقال عنه شعبة بن الحجاج (ت:160هـ): “محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث” وذلك بسبب حفظه([20]).
بعيدًا عن كل ذلك تُعدُّ كتابات ابن إسحاق البداية الفعلية لكتابة السيرة النبوية، لهذا قال محمد بن إدريس الشافعي (ت:204هـ): “من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق”، وبهذا ما جاء من كتابات في السيرة بعد ابن إسحاق كانت تأخذ منه وتنقل، إما بالاختصار والتهذيب وإما بالشرح والتعليق وإما بالترتيب وزيادة روايات عليه وإما نظم لها، وكانت لسيرة ابن إسحاق روايتان؛ الأولى: من طريق زياد بن عبدالله البَكائي (ت:183هـ)، والثانية: من طريق يونس بن بكير (ت:199هـ)، لكن رواية البَكائي هي التي اشتهرت بسبب نقل ابن هشام (ت:213هـ أو 218هـ) لها في كتابه السيرة النبوية، وعلى هذا يصعب قبول روايات السيرة النبوية للأسباب التالية:
- أنها روايات متأخرة؛ فلا تخلو من الكذب والضعف والوهن وما يعتري الإنسان من أمور ذهنية تأثر على النقل.
- أن ابن شهاب الزهري وابن إسحاق كان لهما ميول نحو الحكام والأمراء؛ أي يعتبرون من محدثي السلطة.
- أن ابن سحاق لم يتفق على توثيقه.
- أن ابن إسحاق وضع كتابه لأجل السلطة.
- اتهم ابن إسحاق الذي كتب أول سيرة للمغازي بالكذب والدجل والضعف وغير ذلك.
- أن ابن إسحاق ينقل عن اليهود والنصارى ويصفهم بالعلماء ويضع الأشعار التي يؤتى بها إليه دون التحقق منها.
- أن سيرة ابن إسحاق تضم الأساطير والإسرائيليات.
- أن ابن إسحاق يروي كتابه على شكل القصاص يومها، ويدخل في ذلك تصورات خرافية للدهشة والتعجب.
- أن لو لم تكن سيرة ابن إسحاق إلا عن طريق الرواية والنقل لكفى ذلك ردها؛ لأن سيرة النبي محمد عليه السلام يفترض الرجوع في سردها بما يتوافق مع آيات القرآن، بينما في سيرة ابن إسحاق روايات ونقولات لا تنسجم مع أخلاق النبي ولا مع آيات الكتاب العزيز، ومنها روايات أول ما ابتدئ به رسول الله من النبوة، وروايات قصة المعراج([21]).
- 10- بما أن ابن هشام ينقل عن ابن إسحاق وكذلك فعل غيره؛ فما نقل عنه فهو لا يمكن الاعتماد عليه لضعف ابن إسحاق السابق عند البعض.
جاء بعد ابن إسحاق عبدُالملك بن هشام المعافري (ت:213هـ أو 218هـ) واعتبر نقله لسيرة ابن إسحاق تهذيبًا لها؛ ولكن في ذلك نظر، لأنه حذف أمورًا، وربما أضاف أشياء([22])، ولأنه اختصر المختصر، فقد سبق أن اختصر ابن إسحاق سيرته بأمر من الخليفة المنصور([23])، فاختصار المختصر ربما لا يخلو من عيوب الحذف والزيادة والنقصان والتشويه، ولأن ابن هشام أقرب إلى الانتقاء من بين الروايات الثلاث؛ فهو انتقى رواية البَكائي، وأعرض عن الروايتين الآخرتين، ولعل إعراض ابن هشام عن رواية يونس بن بكير؛ لأنه نُسب إليه التشيع ويذكر أنه كان يقول بالإرجاء، مع أنه وصف بالثقة والصدوق([24])، فيبدو من ذلك أن سيرة ابن هشام لم تخلو من النظرة الأيديولوجية، لهذا قبل ابن هشام رواية زياد البكائي مع ضعفه لدى أهل الحديث ويصفونه ليس بشيء، لكنهم يستثنون روايته في المغازي([25])، ولعل ذلك يعود إلى الفرار من رواية ابن بكير، ويلحظ البعض أن ابن هشام قام بعميلة جراحية مشوهة لا تهذيب لسيرة ابن إسحاق([26])، واعتبر معروفُ الرصافي (ت:1945م) ابنَ هشام أساء إلى العلم وإلى والحقيقة معًا وذلك باختصاره لسيرة ابن إسحاق، بل قتلها وأماتها([27]).
ونحن نرى بأن سيرة الرسول عليه السلام لا تؤخذ إلا من القرآن، والآثار المادية التي يجدها العلم، بالإضافة إلى ما يتوافق من الروايات مع آيات القرآن والعلم، وأما غير ذلك فينظر فيه وفق ذلك؛ لأن الإسناد هو صنعة أهل الحديث، فيضعون ما يرغبون فيه ويحذفون ما لا يرغبون فيه، ويتهمون من لا يتوافق مع أيديولوجيتهم، لهذا الأسلم في ذلك الرجوع إلى القرآن والعلم.
[1] انظر كتابي: أقانيم اللامعقول، ح1، ص195-204.
[2] اعتبر البعض رواية أن النبي محمد ولد مختونًا متواترة، ورده الذهبي بقوله: “ما أعلم صحة ذلك فكيف يكون متواترًا”، ويرى بأن جده عبدالمطلب ختنه على عادة العرب، ويرى آخرون بأن جبريل ختنه حين شق صدره، وقال ابن القيم: “ليس فيه حديث ثابت، وليس هذا من خواصه، فإن كثيرًا من الناس يولد مختونًا” وهناك من بأن ثلاثة عشر وقيل: أربعة عشر نبيًا ولدوا مختونين، وكل هذا الاختلاف مبني على منظور السند، لا وفق المصدر القرآني ولا الواقع السنني الكوني.
انظر: الصالحي، سبُل الهدى والرشاد، ج1، ص347-348، وابن القيم، زاد المعاد، ج1، ص53.
[3] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص164-166، والسهيلي، الروض الأنف، ج1، ص279 و289، الصالحي، سبُل الهدى والرشاد، ج1، ص349-354.
[4]انظر كتابي: البُعد الغائب من مفهوم العمل الصالح، سورة العصر أنموذجًا، ص16.
[5] انظر: حياة عمامو، السيرة النبوية مناهج، نصوص وشرح، ص33-35.
[6]الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج6، ص149.
[7]انظر: حسن بزاينيّة، كتابة السيرة النبوية لدى العرب المحدثين، ص27.
[8]ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج6، ص2418.
[9] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج6، ص149.
[10]انظر: عبدالجبار ناجي، نقد الرواية التاريخية عصر الرسالة أنموذجًا، ص40.
[11]يوجد خلط لدى بين الشخصيتين لدى كتاب التراجم، ويشك حياة عمامو في اهتمام أبان بن عثمان بن عفان بالمغازي لعدم ذكره في كتب السير. انظر: السيرة النبوية منهج، نصوص شرح، ص23.
[12] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج1، ص235.
[13] انظر: المرجع السابق، ج1، ص237.
[14]انظر: المرجع السابق، ج1، ص236-237.
[15]انظر: حسن بزاينيّة، كتابة السيرة النبوية لدى العرب المحدثين، ص28.
[16]ابن النديم، الفهرست، ص121.
[17] انظر: المرجع السابق، ص121.
[18]الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج1، ص238-239.
[21] انظر: ابن إسحاق، سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي)، برواية يونس بن بكير، تحقيق سهيل زكار، ص120، وابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص403. نقدت ذلك في كتابي أقانيم اللامعقول ح1و2.
[22] انظر: عبدالجبار ناجي، نقد الرواية التاريخية عصر الرسالة نموذجًا، ص47.
[23] انظر: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج1، ص236.
[24] انظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص523.
[25] انظر: الخطيب البغدادي، ج9، ص499.
[26] انظر: عبدالجبار ناجي، نقد الرواية التاريخية عصر الرسالة نموذجًا، ص37.
[27] انظر: معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، ص130.