ثلاث قضايا جوهرية لا بدّ من تثبيتها والتأكيد عليها قبل تناول الأحداث المروعة التي يشهدها قطاع غزة في هذه الأثناء، ومن شأن هذه التقدمة أن تسهم بقدر ما في تفكيك حالة التشابك والالتباس، وأحيانا عدم القدرة على التمسك برؤية تفسيرية واحدة للحدث ومآلاته، بالنظر إلى أن الحدث بحد ذاته غريب وصادم بالنسبة لكثيرين، ما يعني قابليته لتنوع الاحتمالات وتضاربها.
أولى تلك الأسس أن كافة القضايا وتواتر الأحداث المتعلقة بالمسألة الفلسطينية منذ نشأتها منذ مطلع القرن الماضي وإلى اليوم، تعد ميدانا محتبسا ومحتكرا، لا يحق لأي طرف دولي أن يؤثر في مساره وفي تكوينه سوى قوى العالم الغربي. وبالفعل؛ فإن تحالفا استراتيجيا قد أبرم منذ البداية بين القوى الغربية والمشروع الصهيوني، حتى من قبل بلوغه مرحلة كيان/ دولة. في البداية تكفلت بريطانيا بهذا المشروع، وهيأت له كافة أسباب النجاح حتى إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948، لتتبنى الولايات المتحدة الأمريكية رعاية المشروع الصهيوني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن. ووفق القواعد التأسيسية لهذا التحالف، يجري التعامل مع إسرائيل باعتبارها كيانا وظيفيا متقدما، يضمن للغرب عموما وللدولة الراعية للمشروع تحقيق مصالحه الاقتصادية والعسكرية والاستخبارية في المنطقة. ومؤخرا اختصر الرئيس الأمريكي جو بايدن طبيعة هذا التحالف بمقولته الشهيرة لدى لقائه الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في واشنطن نهاية العام الماضي:” لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا اختراعها”.
وينبثق عن هذه النقطة تحديدا مكون آخر وعنصر إضافي، ينطوي جوهره على وجود تصميم غربي لإدامة حالة الصراع والنزاع في المنطقة باعتبارها طبيعة ثابتة في الإقليم، وذلك بالاعتماد على الصفات الملازمة للمكون الصهيوني، باعتباره كيانا عنصريا، يجتهد قادته بصورة دائمة لأجل توسعه من خلال بسط مظاهر هيمنة إحلالية بشرية، إضافة إلى تعطش لا يرتوي للسيطرة على الموارد، وهذه عناصر كفيلة بتأجيج الصراع على نحو دائم ومستمر ولن ينتهي إلا بانتهاء أحد طرفي الصراع.
وثالث تلك الأسس مرتبط بمحددات الفعل السياسي لكافة دول الإقليم، بما فيها إسرائيل، وبما فيها كافة المنظمات والحركات القتالية؛ فإن مردّ كل واحدة من تلك الكيانات والهيئات يفضي إلى مرجعية دولية ما، وتحرص هذه الكيانات الإقليمية على عدم تجاوز مرجعيتها الدولية في فعلها السياسي أو العسكري، وحتى الاقتصادي، وكلما تضخم حجم ذلك الفعل، كانت مسألة العودة إلى تلك المرجعية لأخذ موافقتها على أي مبادرة من مبادرتها أمرا محتوما لا يمكن الفكاك منه.
وبذات القدر الذي تحظى إسرائيل بدعم معلن وواضح من الولايات المتحدة الأمريكية، ليأخذ منذ بداياته مستوى التحالف الاستراتيجي؛ فإن حركة “حماس” تحظى بدعم مواز ومعلن من إيران، وتلك قضية مسلّم بها وليست محل اختلاف. وإذا كانت إسرائيل بحاجة موافقة أمريكية على حجم وطبيعة الرد الذي يشنه الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، مستهدفا البشر والحجر دونما بذل أي مجهود لتتبع مواقع حركة “حماس”، نتيجة الهجوم الذي نفذه الجناح العسكري لحركة “حماس” في السابع من الشهر الجاري من خلال عملية ” طوفان الأقصى”؛ فإن تلك الأخيرة لم يكن لتُقدم على تنفيذ عمليتها العسكرية النوعية بكافة المقاييس العسكرية، إلا من خلال توافق وعلم الطرف الإيراني كحد أدنى من حدود التنسيق فيما بينهما، وتلك مسألة يفترض أنها ليست محل خلاف أيضا. وهذا واقع ليس من شأنه أن ينتقص من أهمية العملية العسكرية ويقلل من شأن دوافعها الوطنية، وبخلاف ذلك؛ فإن الحديث سيأخذ سمة سريالية وطابعا فوق واقعي.
وبين الفعل الحمساوي الأخير في هجمته على قواعد الجيش الصهيوني على الحدود الشمالية لقطاع غزة، ومرافقتها برشقات صاروخية كثيفة، ورد الفعل الصهيوني عليه، من تدمير للبنى الإنسانية والمدنية في غزة بانتظار لحظة الاقتحام البري، تتجسد كامل النقاط الثلاث السابقة.
***
في صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، نفذت مجموعات مقاتلة من “كتائب القسّام” التابعة لـ “حماس” هجوما مباغتا على الوحدات والقطاعات العسكرية الإسرائيلية، وسرعان ما تمكنت هذه المجموعات من التوغل داخل نطاق الكيان الصهيوني في هجوم خاطف استهدف ما يعرف بـ “غلاف غزة” الذي يضم العديد من المستوطنات يقطنها قرابة سبع مئة ألف مستوطن. ورافق تلك العملية إطلاق آلاف الصواريخ وعدد من الطائرات المسيرة مستهدفة جنوب ووسط إسرائيل. وأصيب الكيان الصهيوني بصدمة مروعة، نتيجة فشل الجيش الإسرائيلي في التصدي للهجمة المباغتة وعدم قدرته على الردع، حالة لم يشهد الإسرائيلي شبيها بها في أي من فترات الصراع السابقة. لعل أقربها كان في الحالة التي سادت إسرائيل في حرب أكتوبر عام 1973، مع فارق أن إسرائيل كانت في مواجهة مع أكبر الجيوش العربية، الجيش المصري، بينما لم يتجاوز عدد المقاتلين الذين تمكنوا من اختراق الحواجز الإسرائيلية في “غلاف غزة” ألف مقاتل. ولم يستطع الإسرائيليون بمختلف أطيافهم، وكذلك العالم بأسره إلا التعامل مع الحدث من منظور واحد يفضي إلى الاعتراف بانتصار “حماس”، وفشل الكيان الإسرائيلي.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن فور الانتهاء من تتبع هذا السياق، لتتشكل حالة مطالبة تقديم تفسير يمكن الركون إليه، ولو بشكل مبدئي، حول المبررات التي حفّزت حماس على القيام بعمليتها النوعية تلك. وهو تساؤل يستدعي أسئلة ذات صلة تتعلق بقضايا مثل التوقيت، وفيما إذا كان قرار العملية القتالية اتخذ استجابة لإرادة ذاتية دون ضغوطات أو إيحاءات أو إلهامات من طرف ثالث؟ وإذا كان هناك دور ما، فما هي حدوده ومستوياته؟ أم أن الأمر اقتصر على مجرد العلم بالشيء وربما الإيحاء به، لا أكثر ولا أقل؟
ابتداء، يكشف مسار عملية “طوفان الأقصى” أن الإعداد لها لم يتم على عجل، أو أن فكرتها كانت وليدة لحظتها، أو قبيلها بقليل، وأن كل ما تشي به تفاصيل تلك العملية، ينبئ أن مدى زمنيا متريثا جرى خلاله الإعداد لعملية الاقتحام، وبشكل يغلب عليه الإحكام والدقة، وأن العملية أشبعت تخطيطا وتدريبا لفترة قد تتجاوز عاما كاملا. وهذا جانب بالغ الأهمية من جوانب المشهد العام للحدث، ويحتمل الكثير من وجهات النظر والتناول التحليلي، خصوصا في الجانب المرتبط بقدرة المحافظة على سرية العملية وعدم تسريب تفاصيل عنها لأي طرف من الأطراف، خصوصا وأن الحديث هنا له صلة بمشاركة ما لا يقل عن ألف مقاتل لهم اتصالاتهم وشبكة علاقاتهم الخاصة بهم، ووفق هذا الواقع، لا ينبغي التقليل من شأن الأخبار المرتبطة بوجود تسريبات معلوماتية تلقتها إسرائيل من أكثر من طرف، تحذرها من وجود هجوم عسكري مبيت يستهدف قواعدها العسكرية ضمن “غلاف غزة”. لتتباين هنا التفسيرات والتحليلات، ولكن هناك شبه إجماع أن الجانب الإسرائيلي كان يتوقع هجوما ينفذه مقاتلو “كتائب القسام”، وأن هذا الهجوم مصحوب برشقات صاروخية، لن يتجاوز في مستواه وأثره الهجمات السابقة.
وتحت وقع الصدمة، والاعتزاز العسكري الذي أهدر، بدأت الحكومة الإسرائيلية باتخاذ إجراءات فورية للحد من آثار ذلك الواقع المروع الذي تعرض له كيانهم خلال فترة وجيزة، ولم يكن من بديل أمام الحكومة لترميم صورة كيانها سوى إعلان حالة الحرب واتخاذ كافة الإجراءات والتدابير العسكرية لبدء عملية عسكرية واسعة تستهدف قطاع غزة، دون سقوف أو ضوابط من أي نوع، سواء أخذت هذه الضوابط صيغة القانون الدولي أو صيغة البعد الإنساني، لتغدو الرغبة في الانتقام هي المحرك الفعلي لآلة الحرب الإسرائيلية.
***
وبالعودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر الجاري، وعلى مدى الأسابيع التي سبقت عملية “طوفان الأقصى” كان مسار الأحداث السياسية والتحليلات المصاحبة فيما هو مرتبط بفلسطين والإقليم بشكل عام، تجهد في معالجة قضيتين أو ملفين منفصلين عن بعضهما، لتكشف الأحداث اللاحقة، أنه ما من ملف في المنطقة يمكن فصله أو عزله عن سائر الملفات والأحداث الجارية في الإقليم، خصوصا المرتبط منها بالمسألة الفلسطينية. الملف الأول مرتبط بتفاقم ظاهرة اقتحامات المستوطنين الصهاينة للحرم القدسي، والتي بلغت مستويات غير مسبوقة مقارنة بأي من الفترات السابقة. وكالعادة؛ فإن كل اقتحام ينفذه المستوطنون، كان يرافقه اعتداءات جنود الاحتلال على المصلين في ساحات الأقصى، ونتيجة تلك الاشتباكات سقط العديد من الشباب الفلسطيني في القدس ومدن الضفة الغربية. في تلك الأثناء بلغت مظاهر الاستفزاز الصهيوني للشعب الفلسطيني منحنى خطيرا، ينبئ باقتراب حدوث انفجار.
أما الملف الآخر فهو المرتبط بالعلاقات السعودية – الإسرائيلية، وكانت الصحافة الغربية “وول ستريت جورنال في عددها 21/9/2023 ” نشرت تقريرا تفصيليا حول المباحثات الجارية بين تل أبيب وواشنطن بشأن تزويد السعودية ببرنامج نووي، ثمنا لقبول الأخيرة اللحاق بقطار التطبيع مع إسرائيل. وكشف التقرير عن وجود تفاهم إسرائيلي – أمريكي لإنشاء مشروع مشترك لتخصيب اليورانيوم للأغراض المدنية في السعودية، وهو شرط تمسكت الرياض به، إضافة إلى اشتراطات ثابتة أخرى تتعلق بالقضية الفلسطينية.
ومنذ بداية الهجوم، وتوجه أنظار العالم نحو واشنطن لمعرفة موقفها تجاه طهران، أعلن وزير الخارجية، بلينكن، أنه لا وجود لأدلة تشير إلى وقوف إيران وراء الهجوم، وأكثر من مرة ردد الوزير الأمريكي المحتوى ذاته. إلا أن إشارة بدرت منه في معرض تناوله غايات الهجوم ودوافعه، ولم ينحّ جانبا البعد المرتبط بـ “عرقلة مسار العلاقات السعودية – الإسرائيلية قد يكون جزءا من دوافع الهجوم على تل أبيب”
كما توشك الرواية الأمريكية أن تكون استقرت إلى الآن على سردية واحدة حول الموضوع ذاته، على النحو الذي يعرض له وزير الخارجية، المتضمن عدم القدرة على التوصل إلى صلة مباشرة لطهران في العملية التي نفذتها حماس، ليبقى الحديث يدور ضمن مجالات الصلة غير المباشرة، ويأتي العلم بالشيء في مقدمة عناصر تلك الصلة. ومن المرجح أن هذا العلم كان مواكبا للعملية منذ أن كانت مجرد فكرة. ونشرت صحف أمريكية نقلا عن مصادر استخباراتية، أن المعلومات المتوفرة لدى تلك المصادر تشير إلى أن قيادات الصف الأول في إيران، على الأقل، لم تكن على علم بهجوم حماس، وأنها تفاجأت به لدى سماعها أنباء هذا التطور. ولم تتحدث التقارير الصحفية ذاتها، عن معرفة الصفوف القيادية الأخرى.
وفق المنظور الأمريكي، فإن الدور الإيراني غير المباشر في الغارة الحمساوية على إسرائيل، مستوى كاف بالنسبة لواشنطن لكي تغض النظر عن إقحام مسألة التمويل والدعم والتسليح الذي كانت تتلقاه غزة من طهران على مدى السنوات الماضية، وهي بلا أدنى شك مقاربة تعكس حالة الازدواجية في التعامل الأمريكي مع السلوك السياسي لدول الإقليم. وعلى الأرجح؛ فإن الولايات المتحدة اتخذت هذا الموقف والنظرة المسالمة تجاه طهران كي تبقى الأخيرة على الحياد، ولو نسبيا، ما يعني مشاركة جزئية وغير فاعلة في الصراع الناشب من خلال إطلاق رشقات صاروخية على مواقع غير حيوية في مواقع إسرائيلية جنوب لبنان أو في شمال فلسطين. والثمن الذي ستتقاضاه طهران مقابل حيادها ذاك، إنجاز الاتفاق النووي 5+1 بشكل نهائي. وفيما هو متعلق بامتلاك العربية السعودية مفاعلا نوويا؛ فإن مبررات بلوغ ذلك الهدف قد تبخرت تماما في الفترة الحالية على الأقل، نتيجة تعطيل عملية التطبيع السعودي- الإسرائيلي لأمد غير قصير. وتلك فائدة مباشرة إضافية جنتها طهران من الصراع الدائر.
***
وفيما هو مرتبط بأثر العملية ذاتها… فمن شبه المؤكد أن توقعات قياديي حركة “حماس” بشأن الرد الإسرائيلي على العملية التي نفذها مقاتلوها، باعتباره سيبلغ مستويات أعلى من الرد مقارنة بالمرات السابقة، نتيجة فداحة الضربة التي تلقتها القوات الإسرائيلية. كان التوقع أن قطاع غزة سيشهد قصفا من الجو ومن البر بشكل مكثف، وأن توغلا بمستويات محدودة في الإقليم الغزيّ، ليدخل الجانبان بعد فترة وجيزة في هدنة وتفاوض عبر الوسيط المصري، توظف حماس خلالها مكاسب عمليتها العسكرية وخصوصا في الجانب المرتبط بالأسرى العسكريين والمدنيين من الجانب الإسرائيلي والذي تجاوز في الأيام الأولى مائتي أسير إسرائيلي ومن جنسيات مختلفة. كان التوقع وفقا لما صرحت به شخصية مقربة من حماس في اليوم الأول من العملية العسكرية، أن سجون الاحتلال سيتم تبييضها من السجناء الفلسطينيين جراء أكبر عملية تبادل للأسرى بين الطرفين. هكذا كانت توقعات حماس وعلى هذا كان رهانها.
* **
لم يعد الشغف الإسرائيلي في الثأر من حماس والانتقام منها مطلبا بحد ذاته، ليصبح المبتغى ليس أقل من القضاء على هذه الحركة تماما والحكم عليها بالفناء. ووصولا لمرحلة أن تفنى حماس، كان لا بد أن تفنى في الأثناء الكثير من الأرواح المدنية وتزهق أنفس أبرياء، لتشرع الآلة العسكرية الإسرائيلية تقصف قطاع غزة دون تمييز، لتصبح كافة المواقع أهدافا مباحة ودونما أي مظهر من مظاهر التمييز لتشمل عملية القصف إضافة لمواقع حركة حماس، الأبراج السكنية والمنازل والمستشفيات والمساجد والمدارس والأراضي الزراعية ومراكب الصيد، كل مرفق وكل مظهر من مظاهر الحياة المدنية بات هدفا مقصودا لذاته. وكلما أوغلت الآلة العسكرية في القتل والدمار، كلما استفزّها شغف القتل للمضي أكثر وأكثر في عملية “السيوف الحديدية”، لتفرغ في غزة منذ بداية الحرب إلى اليوم، قرابة أسبوعين، ما يوازي قنبلة نووية، ناهيك بالطبع عن سياسة الحصار، فلا غذاء ولا مياه ولا دواء ولا مصادر للطاقة.
إن فرط العنف الصهيوني ناجم بالأساس عن نظرة عنصرية تستبعد المكونات البشرية الأساسية في فلسطين باستثناء اليهود، والذي يحدث الآن في قطاع غزة ليس حدثا عارضا؛ فالإرهاب الصهيوني عبارة عن سلسلة متصل حلقاتها بعضها ببعض وآليته مترابطة على نحو واضح. وقد جرى توظيف المحتوى النظري للتراث اليهودي خلال عملية الإبادة التي يتعرض لها الغزيين، وبشكل أكثر تحديدا المشاهد النصية التي تعتمد على الإبادة والطرد، فاستخدم تعبير “السيف” في عملية الإبادة الممنهجة، لرمزيته الخاصة في التراث اليهودي، باعتباره أصل الكون، حيث تتجسد فيه كافة الظواهر. إنها المشهدية ذاتها التي ارتبطت بتاريخ الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى اليوم، قوامه: القتل والطرد.