انطلاقا من مقولات وأساطير توراتية متهافتة، واتكاء على شعارات بثتها الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، سعى بعض الحالمين من الصهاينة لجمع شتات اليهود من أقطار المعمورة لصناعة كيان يستمد أوكسجين بقاءه من أمريكا ودول الغرب التي رأت فيه وسيلة لتحقيق أهدافها واستراتيجيتها.
التطهير العرقي، هذه الفكرة التي ولدت مع نشوء الصهيونية، لاقت الرفض من كثير من المفكرين والسياسيين والعلماء والعسكريين والباحثين والصحفيين اليهود من القدامى والمعاصرين، ممن رأوا مستقبلا محدودا لعمر الدولة، ورسموا لها نهاية متشائمة، وانتقدوها لمجموعة من الأسباب الأخلاقية والثقافية، مثل ألبرت أينشتاين، ومارتن بوبر، وحنة أرنت، ونعوم تشومسكي، وآري شافيط، وبيني غانتس (وزير دفاع سابق)، وشاؤول أرئيلي (ضابط احتياط)، وإيهود باراك (رئيس وزراء سابق)، وبيني موريس (مؤرخ)، ويوفال ديسكين (صحفي) رئيس جهاز الشاباك السابق، ويشعياهو ليبوفيتش (محاضر في الجامعة العبرية في القدس، محرر الموسوعة العبرية، مفكر)، وزييف ستيرنهيل (مؤرخ وكاتب)، وشلومو ساند (بروفسور تاريخ بجامعة تل أبيب ومؤلف كتاب اختراع الشعب اليهودي)، وإيلان بابيه (مؤرخ، وأحد أبرز منتقدي السياسات العنصرية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ومدير المركز الأوروبي للدراسات وأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة اكستر في المملكة المتحدة)، وغيرهم كثير ممن اكتشفوا أن الرواية الإسرائيلية للأحداث تتعارض مع منطق التاريخ، الأمر الذي شكّل خيبة أمل كبرى لهم، خاصة عندما رأوا بأعينهم سوء المعاملة اليومية للفلسطينيين.
إذا ما عاد الباحث الموضوعي إلى التاريخ سيجد أن الصهيونية كانت حركة أقلية بين اليهود في القرن الـتاسع عشر، دعا لها هرتزل -الكاتب والصحفي النمساوي /المجري، الذي أسس المنظم الصهيونية، وشجع الهجرة اليهودية إلى فلسطين- ولاقت دعوته حينها معارضة شديدة من قادة اليهود وحاخاماتهم في جميع أنحاء العالم، ممن رفضوا فكرة “القومية اليهودية” وشددوا على تعارض الصهيونية مع التعاليم اليهودية، ولم يعتبروا اليهود أمة، بل مجتمع ديني، وأدركوا لاحقا أن تحقيق الحلم اليهودي سينبني وينهض على شقاء وعذابات شعب آخر، بعد أن وجدوا زيف المقولة الصهيونية أنهم قادمون لأرض بلا شعب؛ إذ كذّب الواقع ما كان الصهاينة يفترون، وصار بينا لديهم أنه من غير الممكن، بل ومن المستحيل إقامة دولة بغير اضطهاد وتطهير الشعب صاحب الأرض ومالكها، في عملية لم يعرف لها التاريخ المعاصر مثيلا، حتى تساءل الكثير منهم ممن احتكم للمنطق والحس الإنساني والتجرد من الهوى، كيف لليهودي أن يحضر للكيان الصهيوني ويحصل على الجنسية الإسرائيلية تحت مسمى العودة لأرض الميعاد بعد ألفي عام بناء على زعمهم ولا يستطيع الفلسطيني الذي ولد في مدينة القدس أن يزور مسقط رأسه الذي ولد فيه وترعرع وولد في آباؤه وأجداده، أي إنصاف غائب وأي ظلم رعته الدعاية الصهيونية المضللة وتبناه الإعلام الغربي المنحاز وغير المحايد؟
كان الوصول للحقيقية والنظر الموضوعي العقلاني عم الدافع وراء مواقف أولئك الساسة والمفكرين والعسكريين والكتاب الذي رأوا أن ما يجري على المسرح الحقيقي من ممارسات ووقائع بين المحتل وصاحب الأرض من ظلم وعسف وتقييد حرية ومصادرة حق الاعتراض والنقد والمقاومة، ووضع الناس في سجون كبيرة تلجمها المستوطنات، سيكون كارثيا للكيان الإسرائيلي وأفراد مجتمعه الذين ورطهم الساسة والمنظرون، للقدوم لأرض يعيش فيها أهلها، وأن هذا الحال على المدى الطويل، لا يمكن أن يكون قابلا للاستمرار بأي شكل، مهما زادت الضغوط وتنوعت أساليب التحكم .
بدأ التطهير العرقي العزل والإبعاد والنزوح الممنهج لأهل فلسطين من العام 1948، على يد قادة الحركة الصهيونية، برئاسة “دافيد بن غوريون”؛ فكان من فر أو طُرد من بيته نحو 720.000 فلسطيني من أصل 90000 فلسطيني يعيشون في أراضيهم، هذا التطهير الممنهج تم تنفيذه بعمليات الطرد لقرابة 500 قرية فلسطينية، وبهجمات إرهابية ضد السكان قام بها أعضاء منظمات الأرجون والهاجاناه، كما يبدو جليا في رسالة دايفد بن غوريون لابنه عام 1937، يؤكد فيها رؤيته بضرورة طرد الفلسطينيين بالقوة عندما يحين الوقت الملائم اللحظة المناسبة بواسطة الحرب، وقد وضع خططه لذلك بما أطلق عليه خطة (د) بمعاونة أحد عشر قائدا صهيونيا منهم: يغئيل يادين، وموشيه ديان، ويغال آلون، ويتسحاق ساديه، والتي تقوم على توزيع البلاد المغتصبة لمناطق جغرافية أوكلت عملية التطهير فيها لقادة فرقة الهاجاناه، وتقوم على مهمة تطويق المدن والقرى الفلسطينية من ثلاث جهات، وترك الجهة الرابعة مفتوحة لينزح السكان منها عند إطلاق الرصاص على السكان، وهدم المنازل بالمتفجرات وممارسة جريمة المذابح بهدف ترويع السكان، وإجبارهم على النزوح، كما حدث في قرى (مذبحة ناصر الدين/ ومذبحة الطيرة/ و(دير ياسين)، إضافة لتدمير 530 قرية وإفراغ 11 مدينة من سكانها، وكل ذلك على مرأى ومسمع القوات البريطانية ومساعدتها، وضمن خطة دقيقة محكمة كإثارة الرعب على نطاق واسع، ومحاصرة القرى والتجمعات السكانية وقصفها، وحرق المنازل والأملاك، وهدم البيوت، وزرع الألغام لمنع السكان من العودة إلى منازلهم، حيث زُودت كل وحدة عسكرية بأسماء القرى والأحياء المرصودة كأهداف، حُدد لتنفيذها مدة لا تزيد عن ستة أشهر، حيث تم بعد تنفيذها واقتلاع أكثر من نصف السكان من بيوتهم، وتم تدمير 531 قرية و11 حيا سكنيا في مدن اللد والرملة وصفد والجليل، واحتلال قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بدو، وكيف تم نهب محتويات البيوت وقتل ما يزيد عن 30 طفلا، بصمت وتواطؤ القوات البريطانية التي ساهمت في تدريب أعضاء العصابات الصهيونية.
تم خلال تنفيذ هذه الخطة إزالة ومسح الكثير من القرى الفلسطينية عن وجه الأرض، كقرى: برير وسمسم، والمحرقة، وقرية “هوج”، التي بنى شارون على أرضها بيته ومزرعته بمساحة تزيد عن 5000 دونم.
أما القرى الفلسطينية المدمرة فتم العمل على إخفاء آثارها بزراعتها بالأشجار الحرجية وإقامة حدائق عامة على أراضيها بتمويل من الصندوق القومي اليهودي.
يستمر الصهاينة في خطتهم لتذويب القضية الفلسطينية أيضا على المسرح الدولي؛ فيتنكرون لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الذي ينص على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، فيتم تجاهل القرار بدعم من الدول الغربية وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم.
كذا الأمر بعد حرب حزيران 1967، حيث أكمل الكيان الصهيوني احتلال كامل الأرض الفلسطينية، لم تنصع لقرارات مجلس الأمن الدولي وضربت بها عرض الحائط بدعم الولايات المتحدة التي أعلنت تأييدها الكامل والمنحاز للكيان المُغتصب، برفض حق العودة والانسحاب من الأراضي الفلسطينية، بل وعملت أمريكا على جعل الكيان الصهيوني ترسانة لكل أنواع الأسلحة المتطورة، ودعمته في إصدار قراراته العنصرية التي تسعى للعمل على تقليص السكان الفلسطينيين لأقل نسبة ممكنة، حتى أن نتنياهو اعتبر أن نسبة 40 في المئة من الفلسطينيين في دولة الاحتلال يشكل خطرا على إسرائيل وسيكون هذا حسب زعمه نهاية إسرائيل، ولهذا تعمل حكومات الكيان جميعا على تشجيع هجرة اليهود في الخارج بشتى الوسائل والمغريات والدعايات الكاذبة.
من الجدير بالذكر هنا أن نادي هيئة التدريس وإدارة جامعة تل أبيب كان في الأصل بيت مختار قرية الشيخ مؤنس وقد أقيمت عليه الجامعة.
أمام هذه الجريمة الممنهجة التي شهدها العالم الذي يدّعي التحضر آنذاك، وشهد عليها حتى مراقبو الأمم المتحدة الذين حاولوا أن يكونوا موضوعيين وإنسانيين؛ فكتبوا عما شاهدوه بأم أعينهم من أن سياسة إسرائيل تسعى جاهدة وبكل الأساليب لتهجير الفلسطينيين من قراهم واقتلاعهم من أماكن سكناهم بالقوة والتهديد، لكن الأمم المتحدة كدأبها، لم تُعر الأمر أدنى أهمية، ولم تصدر قرارا يوقف التطهير الذي يمارس علنا، ولا حتى مجرد استنكار.
هل ما تشهده أرض غزة الآن يمثل محطة جديدة أخرى في مسلسل التطهير؟ وهل ما تقوم به الآلة البشعة يزيد من الأحقاد ويقتل أي بذرة أمل لتوافق وقبول الآخر وصولا لحل تلتقي عليه جميع الأطراف؟ أم أن ما يحدث بمثابة إرهاص لتحقيق وعد الله؟