“أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم على هذه الصورة الفاجعة؟”
غسان كنفاني – من رواية “ما تبقّى لكم”
تلقي أحداث “طوفان الأقصى”، والحرب ضد غزة، بظلالها الثقيلة على القضية الفلسطينية والأجواء العالمية والإقليمية، مع جثوم شبح الحرب الظالمة، وتجدد النزعة الانتقامية من كيان صهيوني محتل غاشم؛ لإبادة شعب أعزل له حق الوجود والدفاع عن نفسه وعرضه، مع شرعية امتلاكه لأرضه التي وهبها/ اغتصبها من لا يملك لمغتصب لا يمثل الإنسانية في شيء، ولا يقارب حتى منطق التعايش السلمي المجبر في أدنى حالات الحق الإنساني لأصحاب الأرض، معيدا صورة من صور الإبادة العرقية التي يتبرأ منها التاريخ والضمير الإنساني..
كما تطل أدبيات النكبة منذ وَطِئ المغتصب الصهيوني تلك الأرض من خلال بعض الأعمال الأدبية/ العلامات التي حفرت في الوعي العربي والفلسطيني، وسجلت هذه الحالة المستمرة من الشجن المضاعف والأنين المتصل، ومن ثَمَّ النضال غير المتكافئ ضد تلك القوة الباطشة، لتمثل تلك الأدبيات ملحمية هذا الكفاح والصراع ضد الكيان الغاشم، والتي تمثل أيضا هذه الصرخة في وجه الإنسانية المنكرة لهذا الحق فيما بين مؤيد ومتعاطف من جهة على استحياء غير قادر على الإغاثة، وبين طوفان ظالم ناكر بجحود متمسك بتلك المنظومة العالمية الباطشة المتعامية عن كل تلك الممارسات البشعة التي لا تقرها أديان ولا أعراف..
***
“أهي لحظة سياسية؟ أم عاطفية؟ أم اجتماعية؟ لحظة واقعية؟ سيريالية؟ جسدية؟ أم ذهنية؟
الخشب يطقطق.
ما مضى من العمر يغلله الغبش الذي يكشف ولا يكشف، يبدي ولا يبدي. لماذا أتمنى لو تخلصت من هذه الحقيبة! ماء النهر تحت الجسر قليل، ماء بلا ماء كأنه يعتذر عن وجوده في هذا الحد الفاصل بين تاريخين وعقيدتين ومأساتين. المشهد صخري، جيري، عسكري، صحراوي، مؤلم موجع كوجع الأسنان“[1]
في “رأيت رام الله” للشاعر الفلسطيني العربي “مريد البرغوثي”، تبدو هذه الإطلالة السردية الأسيانة، بحس المأساة، والتي تغترف من نهر الاغتراب الممتد على رقعة وطن عربي ربما اتسع لغربة أبناء الأرض المحتلة إمَّا ملجأ قسريًا أو اختياريًا بديلا لأمر من أمور الحياة، فتبدو تيمة العودة إلى أرض الوطن عبر ثكنات الأعداء وتصريحه/ منعه له بالعبور؛ حلمًا عصيًا مكبلا بالقيود والسدود.. في مرارة اللحظة المتفجرة بالعناد وتغبش رؤية المصير وسديميتها التي تنشع في النفس بتلك المذاقات العصية على التلاشي، ومن ثَمَّ الإبحار في مياه ضحلة تسبغ صورها المجازية على الحالة المادية والمرحلة التي يعبرها السارد كي يصل لرؤية وطنه في علاقة لا نهاية لها من الذكريات والعلاقات الإنسانية التي لا حصر لها سواء على أرضه أو في البقاع التي تشرد فيها الذات معبرة عن آمالها وطموحاتها، إلا أن طموحاتها لمعانقة الوطن الحقيقي لا تتوقف!
فتبدو السيرة الذاتية التي تحرك الكتابة سيولًا من أسى وحكايات مغرقة في تفاصيل أشد وطأة على النفس، وعلى ما يقطر منها من لوعة، وهي تخطو خطواتها الاستثنائية محاولة العودة إلى مسقط الرأس، جزء من الوطن يلتهمه غول بشع ويحكم سيطرته عليه مقننا معنى ضيقا لفلسفة الحرية، وتعريف الغريب عن وطنه، وتكالب كل الأمور المضادة على وعيه، معانقة حس الاغتراب المرير، في فلسفة للوجود من خلال تلك البقاع التي يتنقل فيها وعي السارد الذاتي الذي يضمخ بحبره ألمه النازف معمقًا من أثر الاغتراب وإحساس الأسر فيه:
“الغريب هو الشخص الذي يجدد تصريح إقامته… هو الذي تتعطب علاقته بالأمكنة، يتعلق بها وينفر منها في الوقت نفسه، هو الذي لا يستطيع أن يروي روايته بشكل متصل، ويعيش في اللحظة الواحدة أضغاثا من اللحظات، لكل لحظة عنده خلودها المؤقت، خلودها العابر، ذاكرته تستعصي على التنسيق“[2]
وهي تفاصيل الغربة التي تستدعي دائما تلك التواريخ/ الآثار المدمرة على الوطن وعلى النفس ومن خلال هذه الاسترجاعات التي تتقاطع مع رحلة السارد التي تطقطق الجسور الخشبية والقناطر والأرض فيها من تحت قدميه بارتعاشة أمل الوصول مع الخوف الكامن والمترصد له والقامع لحلمه المشروع، ليرى في مسيرته سجالا بين ماض وحاضر تفصل بينهما آثار تدمير وتغيير على حد السواء:
“منذ الـ 67 وكل ما نفعله مؤقت، وإلى أن تتضح الأمور، والأمور لم تتضح حتى الآن (بعد ثلاثين سنة) حتى ما أفعله الآن ليس واضحًا لي، أنا مندفع باتجاهه ولا أحاكم اندفاعي، وهل يكون الاندفاع اندفاعًا إذا حكمناه!. في نكبة 1948 لجأ اللاجئون إلى البلاد المجاورة كترتيب مؤقت، تركوا طبيخهم على النار آملين العودة بعد ساعات! انتشروا في الخيام ومخيمات الزنك والصفيح/ مؤقتًا، حمل الفدائيون السلاح وحاربوا من عمان مؤقتًا، ثم من بيروت مؤقتًا، ثم أقاموا في تونس والشام مؤقتًا، وضعنا برامج مرحلية للتحرير مؤقتًا، وقالوا لنا أنهم قبلوا اتفاقية أوسلو مؤقتا إلخ إلخ.. قال كل منا لنفسه ولغيره: “إلى أن تتضح الأمور“[3]
يبدو حس السخرية المرير، الرافض والثائر على تلك السمة من كل شيء مؤقت وفي حالة انتظار لنهايته المفاجئة التي ليست باليد، من خلال تلك التداعيات التي غلفتها الذكريات في سياقها كعبارات منقوشة على جبين القضية تحمل إشارات مبهمة إلى من قالوا ومن فعلوا ومن انتظروا، في سياق لا يعبر عن القدرة في مواجهة سؤال المصير الذي يؤرق تلك الذات المثقفة في شخص السارد/ الشاعر/ المفكر، وهي قراءة في الوعي المكرس لفهم القضية وأبعادها المصيرية التي تكون محور التزام تلك الذات، والتي ينهشها سؤال الهوية المبطن من خلال هذا المونولوج مع الذات والمواجه لها والمسائل لها، والمتحدث عنها وعن رغباتها الطافحة على سطح الوجود بسؤال التحديد والكينونة التي تريد الحرية والانعتاق لتشكل فلسفتها نحو الواقع ونحو قضية الوطن/ فلسطين، فيما بين الضمير المخاطب وضمير الأنا، وضمير التقرير بالواقع.
“على الجسر، على هذه الحدود العجيبة التي لا مثيل لها في القارات الخمس، تداهمك ذاكرة وقوفك على حدود الآخرين. ما الجديد هنا؟ ما زال الآخرون هم الأسياد على المكان، هم يمنحونك التصريح، هم يدققون أوراقك، هم يجعلونك تنتظر. هل أنا متعطش لحدودي الخاصة؟ أنا أكره الحدود. حدود الجسد، وحدود الكتابة، وحدود السلوك، وحدود الدول، هل أريد حقا حدودا لفلسطين؟.. وهل بالضرورة ستكون حدودا أفضل؟.. ليس الغريب وحده هو الذي يشقى على الحدود الغريبة. المواطنون يرون نجوم الظهر أحيانا على حدود أوطانهم، لا حدود للأسئلة، لا حدود للوطن، الآن لا أريد له حدودا وسأكرهها لاحقا“[4]
يأتي الإقرار بالاغتراب وحسه المرير تأكيدًا على حالة الاستنفار النفسي التي تقود تلك الذات كي تكسر الأنماط وتثور عليها كثورة داخل ثورته على المحتل الآثم وآثاره المدمرة والعميقة على الذات وعلى الوطن الذي تتأثر علاقته به على محك الحدود والاغتراب فيها كمعوقات أو أسلاك شائكة تمنع العبور إليه، أيضا يستمر الإحساس بارتهان كل شيء بالوقت المحدد من قبل المحتل يظل يضغط على الوعي ما يشكل ثقافة التعامل مع المكان قيد الاحتلال برغم الوصول إليه عبر مزيج المشقة والذكرى في رحلة الذات الساردة داخل نطاق المنشأ ومحل الميلاد الموثوق بأغلال المستعمر الذي يلقي عليه بظلاله كما يلقيها على الوطن بأسره..
“لكن الأمور هنا مؤقتة، الشعور بالأمان مؤقت. إسرائيل تغلق أية منطقة تريدها في أي وقت تشاء تمنع الدخول والخروج لأيام أو لشهور حتى تزول الأسباب، وهناك دائمًا “أسباب” تنصب الحواجز على الطرقات بين المدن. كلمة (المحسوم) سمعتها هنا للمرة الأولى. المحسوم هو الحاجز بالعبرية. الشعور الوليد بالحرية مؤقت، النقاشات لا تزال مستمرة (وستظل إلى بعض الوقت كذلك) في موضوع العائد والمقيم“[5]
كما كانت كل القرارات مؤقتة، ولا تزال، منذ بدء النكبة صارت رهن التوقيت أيضًا في ظل الاحتلال الغاشم، واستمرارية وجوده الباطش، وهو ما يؤكد على سديمية الحالة التي يعيشها الفلسطيني في وطنه المسلوب حتى الآن، استلاب داخل وطن مستلب، استلاب مزدوج تعمق منه الحالة السردية الفاضحة لكل المكنون والظاهر على حد السواء، كما يعمق منه هذه الحواجز المخيفة التي تبدو في لفظتها أقرب إلى معنى الحسم الذي يتنافى مع المؤقت في تقابل دال على مدى فقدان الوطن والمواطن كل شيء، في مقابل حيازة العدو المغتصب على كل شيء!
وكلما أوغلت الرحلة في عصب الوطن؛ اتجهت إلى المنابت والجذور تلك العلاقة الممتدة في داخل كل منتم لوطنه الأكثر التصاقا به، وهو ما يجعل العلاقة المجازية مسيطرة على المشهد الذي تصوغه تلك القطعة السردية الممتلئة بنبض المكان، تعبيرًا عنه وتأصيلًا للقيمة الثابتة التي لا تنتفي منه أبدًا مهما تغيرت الخطوب، وهو التزام بالواقع أدبًا، وعملًا على إعادة تمثيله وتصويره في وجه كل المتغيرات والمؤقتات التي تستحوذ على الحالة السديمية التي كان يعيشها الوطن الفلسطيني ولا يزال يعيشها حتى الآن، إلا أن المشهدية الواقعية الصرفة المختلطة بالعبق التأثيري للمكان تفرض إيقاعها وخلخلتها لما في النفس من أشواق يعترضها الكثير من المعوقات:
“لا تعرف القرى ببيوتها، بل بما حولها، الحقول، عيون الماء، الكهوف الصخرية، الشعاب والجبال والقصص المتوارثة التي تتغير وتتبدل من جيل إلى جيل، لكنها، عجبا، ثابتة كالكتاب. دير غسانة تمتلك ذلك كله، لكنها عكس ذلك لا تعرف إلا ببيوتها، حجارة لا تشبه حجارة الأهرامات، لكنها تذكر بها، ولا تشبه حجارة سور القدس، لكنها مقدودة من المقالع ذاتها، حجارة سميكة جدا، غامقة اللون ومعشوسبة… بيوت على الجبال بيوت على البال“[6]
هكذا تبدو عبقرية المكان إلى جوار الارتباط الوجداني به كعنصرين متكاملين ومؤديين إلى خلق وشيجة لا تنزع روح الفلسطيني عن المكان ولا تنزع روح المكان وجسده عنه في علاقة أبدية تنفي حالة المؤقت وغير الطبيعي، وتدل على اليقين في أن أمر العودة مرة أخرى إلى الديار/ المكان/ الوطن غير مستبعدة ولا مقصاة من ذاكرة العزم والإصرار والهدف الأسمى، انتصارا للقيمة الفعلية للأرض:
“كنت أشتاق إلى الماضي في دير غسانة كما يشتاق طفل إلى مفقوداته العزيزة، ولكنني عندما رأيت أن ماضيها ما زال هناك يجلس القرفصاء في ساحتها، متنعما بالشمس، ككلب نسيه أصحابه، أو على هيئة دمية لكلب، وددت أن أمسك بقوامه وأقذف به إلى الأمام إلى أيامه التالية وإلى مستقبل أحلى، وأقول له: اركض!“[7]
تلك الرومانسية التي تعلي من شأن الآمال والأحلام وتضعها في مناط التحقيق والانطلاق نحو المستقبل برغم كل المعوقات والسدود والحدود تحمل آمالا عريضة من آمال المثقف/ الشاعر ومن خلال أدبياته الواعدة بالتحقق بالرغم مما يمر به من جسور وأنفاق ومرتفعات ومنخفضات، إلا أن الشعور بالوطن لا ينتفي من وعيه ولا ينثني من عزمه، كصورة من صور التعبير والجهاد بالكلمة أدبا مكتوبا ومتوارثا وشاهدا على استمرار تلك الملحمة ضد كيان غاشم، حتى النصر!! هي رحلة لا تتوقف في الضمير الفلسطيني في أغوار الحقيقة، وضد جدلية الوقت.
كاتب وناقد مصري، Mohammadattia68@gmail.com
[1] رأيت رام الله، مريد البرغوثي، الطبعة الثانية، دار الهلال بالقاهرة
[2] الكتاب ص5
[3] الكتاب ص 29
[4] الكتاب ص42
[5] الكتاب ص53
[6] الكتاب ص70
[7] الكتاب ص76