عبدالرحمن البوسعيدي
بعربيته المكسّرة، كان عامل محل الهواتف من الجنسية الآسيوية يحدثني عن تحليله لما يجري على الساحة الفلسطينية، وقد جاء بخلاصة معبّرة مفادها أن من يكتفي بالفرجة اليوم في بلاد عربية ومسلمة لن يمهله الانتظار طويلاً حتى يجد نفسه وسط واقع مماثل للواقع الدامي هناك. ووَجهُ البصيرة في هذه المقولة قد لا يراه من يتوهم أن المفترس ذا نبلٍ يفرق به بين فريسة وأخرى، ويفاضل بين أنواع الفرائس حين تستيقظ أطماعه. فما كشفته المعركة الجارية من استعداد ظلاميّ لقلب المعايير رأساً على عقب، وإخراس صوت الضمير لدى النخب الأجنبية (المتنفذة) وتوابعها الفكرية والأكاديمية، لا يوصل إلا رسالة واحدة هي أن الآخر في نظرهم، الذي لا يشبههم لوناً وديناً وعقلاً، هو زائد على هذه الأرض، غير متعلق بالفصيلة البشرية، ومن ثم فلا فرق بين إبادته بمبرر أو بدونه، بسلاح معرّف أو محرَم. وقد عبّر عن ذلك صراحة أحد كبار مثقفيهم حين كتب مخاطباً الاحتلال: “صبّوا عليهم الجحيم”، وكذا وعد رئيس الاحتلال بتحقيق “نبوءة أشعياء” المبشرة بظلام مصر وخراب ما حولها من بلاد العرب.
كتب أحدهم في: X هذه الحرب كاشفة، من لا يستطيع الرؤية حوله بوضوح اليوم، لن يرى بعد هذا! والسؤال الذي ينبغي أن نسأله: هل نحن نرى الآن؟ أن عاصمة جارنا المحتلّة كان يمكن بكل سهولة أن تكون عاصمتنا، مسقط أو الرياض أو القاهرة أو الرباط أو أنقرة…، أن صغيرته المذبوحة بدم بارد كان يمكن أن تكون ابنة أحدنا، أن المستشفيات المغتسلة بالدماء والأشلاء في عالم موازٍ هي مستشفياتنا التي نعاودها، أن النكبة الحاصلة على أرض الجار القريب دماً وديناً، والتي نتظاهر بأنها ليست نكبتنا، ومن ثم فيمكننا المضي خلف خلاصنا الفرديّ مكتفين بتلويحة يد أو دعوة عابرة أو أمنية بوصوله لسلام “شامل” مع المفترس الذي يجهز عليه، أن تلك النكبة حين تحل بديارنا -لا قدر الله- سنواجهها فرادى مجردين من أي عون. والأيام دول للحد الذي يكاد يكون من المحتوم فيه أن تدور النكبات بين الأمم كما نقرأ اليوم في كتب التأريخ أحداثها المفصلة ومواقف المنكوبين فيها ومصائرهم، والمصائر المشابهة غير البعيدة زمنياّ للمكتفين بالفرجة عليهم وإلقاء الأمنيات!
وفي مجلس عربيّ أهليّ يجتمع الجالسون فيه حول القهوة، يلقي شطرٌ منهم أقذع الدعوات والشتائم على من يراه مسؤولاً عن هذه الحالة البائسة من باب التفريغ النفسي، على طريقة الأعرابي الذي أغار اللصوص على ماشيته وسرقوها ثم صعد تلة خلفهم وأخذ يشتمهم، ولما سأله قومه عن الحادثة، أجاب: “أوسعتهم سبّاً، وأودوا بالإبل”، ويتفنن شطر آخر في توزيع المسؤوليات على الشعوب الفلانية والحكام الفلانيين والجماعات الفلانية، وهي مناورة ماكرة يبرئ فيها أحدنا ساحته وساحة دولته، ويلقي اللوم على غيره، لتظل دائرة اللوم تدور وتدور، فيما تفرغ الطائرات المقاتلة حمولاتها الفسفورية الحارقة على الأبرياء!
والتبريرات قد تكون مفهومة على صعيد الفرد الذي أشغلته أدوات الدولة الحديثة بنفسه وعزلته عن محيطه وأغرقته في همومه الذاتية كفأرٍ في متاهة، لكن التنديدات الفارغة والقذائف الكلامية تصبح فعلاً من أفعال السخرية حين تصدر من حكومات ودول ذات جيوش وعتاد، تمتلك أدوات المساومة والقرار ثم تغمض أعينها وتصرخ مطالبةً المجتمع الدولي بأن يتدخل أو يتحمل مسؤولياته!
وبعيداً عن دوار الملامات والمسؤوليات الضائعة، ثمّة مسارات تجنبنا عطالة فقدان الأمل والاكتفاء بالفرجة على النزيف والمعاناة وتراكم الحسرات؛ مسارات تنقلنا لخانة الفعل على المستويين الرسمي والشعبي إذا ما قررنا أن نبدأ بدوائر التأثير القريبة منا، بما نستطيع أن نغيره ونتحكم فيه، بالذات القريبة عوضاً عن الذات الخارجة عن تحكّمنا المباشر، فأدوات الحراك الشعبي متعددة، وكل فرد يملك أن يكون فاعلاً باستفراغ وسعه من الدعاء والعمل، واليقين بأن كل جهد ذا أثر، وبترك الإحباط والحياد والوقوف موقف المتفرج السليب، فالجهد مهما قلّ يبني بعضه على بعضه.
في ظروف مقاربة إبان الحرب على فيتنام، وإذ بلغ عدد القوات الأمريكية الغازية أكثر من 184 ألفاً من الجنود، كان التصميم الشعبي على ترميم الجراح وإعادة بناء ما تهدمه آلة الحرب مرة تلو الأخرى، والاحتضان منقطع النظير للقوات المقاومة، والمطابع التي كانت تعمل في الأنفاق تحت الأرض على توثيق ما يجري ونشر الأخبار وتوزيعها وإبقاء جذوة الوعي والتضامن مشتعلة خلال حرب طويلة، وجهود الفنانين والرسامين والمؤلفين والكتّاب، والحملة العالمية الكبرى المناهضة لحرب فيتنام، كان لكل ذلك وما انطوى عليه من تضحيات جماهيرية ثمرته في تحرير البلاد، إلى أن صرخ الجنرال الأمريكي: “أنا بحاجة إلى إرجاع هذا الجيش إلى وطنه لإنقاذه”!
وفي جنوب أفريقيا أيضاً كان الخلاص من نظام الفصل العنصري -الذي قام على اضطهاد أصحاب الأرض- تتويجاً لكفاح شعبي مستمر قوامه الحراك الجماهيري والعصيان المدني والاعتصام والمقاطعة والملاحقة القانونية وحملات نشر الوعي المستمرة، فالإعلام سلطة فوق كل سلطة، ولولا ذلك لم يكن الاحتلال ليقدم على قتل 46 صحفياً في أقل من شهر بمحاولة لحجب الحقيقة، وما كان ليحاصر الكلمة الحرة في كل منصة من منصات التواصل الاجتماعي.
يمكن للشعوب اليوم -ودون انتظار- أن تغيّر معادلات كثيرة فوق التصوّر إن آمنت بقدرتها على ذلك، بيدها المقاطعة للشركات الداعمة للاحتلال كحبل سرّي. فخارطة الشركات العالمية التي تُستهلك منتجاتها أو تتعاقد المؤسسات الرسمية معها، والتي يتضح تأييدها لإجرام الاحتلال وتقديمها الدعم المادي لتمويل مستوطناته ومخازيه توضح حقيقة صادمة؛ هي أن تمويل آلة القتل وأثمان متاريسها تخرج من جيوبنا! ماذا لو أخذ كل مستهلك على نفسه عهداً بأن يزيد في وقت تسوقه دقائق إضافية للتحقق من مصدر السلعة التي يشتريها، فكان له بذلك نصيب من ثواب المقاومة والمساهمة بمبادرته الذاتية دونما التفات لغيره، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
بيدها الانطلاق من التضامن القلبي والماديّ، والصدح بالحقيقة وإسماعها لأوسع نطاقات الجماهير المحلية والأجنبية بما يضمن اصطفافهم إلى جانب الحقيقة، وهم بدورهم يصنعون التغيير في دوائرهم بما يخلق مزيدا من التأثير والضغط الجماعي. وبيدها إسماع أصواتها لحكوماتها لحثها على التصعيد غير الموارب والمخاتل تجاه الكيان، متابعته قضائياً وحصار مجرميه بالدعاوى القضائية، والضغط الجادّ على داعميه المصرّين على دفن هذه البقعة الجغرافية الضيّقة بمن فيها، والصراخ الصادق برواية رسمية موحدة تعترف بحق الفلسطينيين في الكفاح والتحرر كأي أمة سبقتهم تعرضت لاغتصاب – وكل مسلمّات المنطق والقانون الدولي والإنساني وقبلها السنن الكونية تكفل للضحية أن يأخذ حقه كاملاً من الجاني عليه- وكذلك رسم الخطوط الحمراء لوقف النزيف المستمر مع التلويح بإجراءات صارمة على صعيد الاقتصاد، وأوراق الاقتصاد متعددة لمن صدق العزم على الدفع بها، وكذلك فتح الفضاء الشعبي للناس للتعبير عن تضامنهم بشتى الصور التي تضمن إيصال الصوت، وكسر الحصار المطبق على القطاع بجرأة ودونما تردد، ورعاية الحملات الإغاثية الملحّة التي تقف شاحناتها متململة أمام معبر يحمل صفة سيادية عربية!
ومن نافلة القول أن الأمم التي تحررت من قيودها وتلك التي أعادت توجيه عجلة التاريخ، لم تفعل وأفرادها يكتفون بالمتابعة الحارّة لشريط الأخبار العاجلة على قنوات التلفزة -فحسب-، بل تحررت بتحمّل كل منهم لمسؤوليته الكاملة واستعداده أن يكون رسولَ قضيته وممثلها، برفع وعيه تجاه قضاياه واكتسابه المناعة من التلاعب والخداع، بسعيه للوصول إلى النسخة الأكمل من نفسه ليستطيع خدمة الغايات الكبرى، بتكريسه واستثماره وقته وجهده وماله وعلمه لخدمتها بإخلاص.
باطّراحك سؤال “ماذا سيفعلون؟”، وامتطائك سؤال “ماذا سأفعل؟”، ثم الانطلاق لإيجاد البندقية التي تفلح في إمساكها، المهمة التي تبرع في إنجازها، الكلمة التي تبدع في إيصالها!