الدولة المختلة

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

“بسبب جهل هذا العالم وضيق أفقه فشل في إدراك أن ازدهارنا يضعف من يهوديتنا ويمحو خصوصيتنا، وأن الضغوط فقط هي ما يجعلنا نعود إلى جذورنا، والكراهية التي تحيط بنا من كل جانب هي فقط ما يجعلنا غرباء مرة أخرى” تيودور هرتز، الدولة اليهودية، ٦٣ ت. محمد فاضل.

ما الذي يمكننا استخلاصه من كل هذا العدوان الوحشي الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة؟ ماذا يعني استهداف الضحايا المدنيين بهذه الأعداد الهائلة ومن النساء والأطفال خصوصًا؟ ولم يجري تدمير المنشآت السلمية كالمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس ومراكز الإيواء والمخيمات وغيرها، واستهداف المنازل السكنية، وتدمير البنية التحتية من شبكات مياه وكهرباء وخدمات، واستهداف الصحفيين والانتقام منهم عبر استهداف عائلاتهم وأهلهم ومساكنهم، وسيارات الإسعاف، وكل الأفعال التي تابعناها ونعرفها جميعًا والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم أمام سمع وبصر العالم أجمع؟ وبكلمات أخرى لماذا تندفع إسرائيل بهذا الاتجاه ولا تخشى شيئًا من عواقب أفعالها هذه أمام سمع وبصر العالم؟ وهل هذا فعل عاقل سليم أم مختل؟

من الطبيعي عادة أن من يقدم على أفعال بهذا القدر من الوحشية السافرة يحاول أن يبررها، ويخفيها، وقد شاهدنا ما كانت القوات الأمريكية تفعله في أفغانستان والعراق، حيث كانت حتى وهي ترتكب مثل هذه الجرائم تنسبها للخطأ، وفي بعض الأحيان كانت تضحي ببعض أفرادها للمثول أمام محاكم خاصة، كفضيحة سجن ابو غريب، لكن لماذا لا نجد إسرائيل وهي تلميذتها العسكرية تلقي بالًا لذلك كله، حتى الحجة الأمنية التي تلوكها دومًا صارت مفضوحة لأن حجم الجريمة أكبر من التبرير المقدم، وانتهاجها لسياسة العقاب الجماعي، يفضح الكثير من دوافع تلك الأفعال، والتي تجلت في عدوان هذا العام على غزة وفضحت سياسة الإبادة الممنهجة والتطهير العرقي فضلًا عن ممارسات التهجير والتضييق المتعمد والمضايقة والسجن ضد الفلسطينيين، بهدف سرقة الأرض ظاهريًا، لكن الممارسة الممنهجة والاستهداف الصريح يقول أن هناك ما هو أعمق نفسيًا من ذلك، فكيف يمكن أن يكون هدف الاستيلاء على الأرض مبررًا لقتل واستهداف الأطفال؟ وكيف يمكن أن نفهم لماذا تقوم إسرائيل باستهداف الأطفال وسجنهم، وقتل الرضع والنساء، وهل في الأرض كلها منطق يمكننا من استيعاب ما تقوله إسرائيل من أن هذا الطفل سيكبر ويصبح إرهابيًا؟! ولهذا في نظرها من المبرر قتله منذ الآن؟! ومؤخرًا شاهدت تسجيلًا للصحافي جدعون ليفي المناهض للاحتلال وهو يستعيد فاضحًا مقولة قديمة لجولدا مائير: لن نسامح العرب أبدًا لأنهم اضطرونا لقتل أطفالهم. أليست هذه نفسها نبرة ومنطق هتلر؟!

الإرهاب الحقيقي

حجة الإرهاب ليست حجة جديدة، وفي كتاب نهاية عملية السلام لإدوارد سعيد، وهو كتاب مهم جدًا عن القضية الفلسطينية عبارة عن مقالات كتبها ادوارد سعيد لجريدة الحياة في بداية فترة مرضه، ويشير إلى أن حجة الإرهاب استخدمتها بريطانيا الاستعمارية في وصف العصيان الهندي عام ١٨٥٧م فقالت عنه أنه هجوم إرهابي همجي على النساء والأطفال، وجرى تحويل شخصية الهندي آنذاك إلى بربري متوحش لا يفهم سوى لغة القوة. ادوارد سعيد، نهاية عملية السلام، ص٤٦؛ وهذه هي نفسها الحجة التي تستخدمها أمريكا وإسرائيل ليس ضد حركة المقاومة الإسلامية حماس وحدها، بل ضد كل من يعاديها ويقاومها، في حين أن المقاومة حق مشروع وقانوني للإنسان، وحين فاوضت حكومة الفصل العنصري في الثمانينات نيلسون مانديلا على إطلاق سراحه مقابل توقف العمل المسلح رفض، ولا يمكننا أن ندين حركة المقاومة الإسلامية وهي وبقية حركات المقاومة آخر الجدران المتبقية لحماية البقية الباقية من أصحاب الأرض من دولة عدوانية كإسرائيل، بإثبات تاريخها المعاصر.

بالمقابل فإن سجل إسرائيل في حقوق الإنسان سجل أسود، فمنذ إنشاء مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عام ٢٠٠٦م إلى عام ٢٠١٦م وجه ٦٨ إدانة لانتهاكات إسرائيل ضد حقوق الإنسان، وهي أكثر من بقية دول العالم مجتمعة التي أدينت ٦٧ مرة، وفي الفترة الأخيرة التي انتهت هذا العام كان مجموع الإدانات العالمية ١٣٥ إدانة، ٩٥ إدانة منها لإسرائيل، بنسبة ٧٠٪، وهو ما جعل مندوب إسرائيل للأمم المتحدة جلعاد الوان حينها يمزق التقرير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة مدعيًا أن التقرير معادٍ للسامية، في تصرف أرعن يخلو من أدنى مقتضيات الدبلوماسية والتهذيب، ومؤخرًا استقال مدير مكتب المندوب السامي لحقوق الإنسان بنيويورك احتجاجًا على جرائم إسرائيل في غزة. 

لكن لماذا يمزق المندوب الإسرائيلي تقرير حقوق الإنسان؟ ألا يعبر المندوب الإسرائيلي بذلك ليس عن احتقاره الضمني واحتقار بلده، بوصفه ممثلًا لها، لمجلس حقوق الإنسان والهجوم عليه، وهو ما يحدث فعلًا من منظمات موالية لإسرائيل منها منظمة مراقبة الأمم المتحدة UN Watch، وغيرها، ألا يعبر ذلك أيضًا عن احتقار إسرائيل للمجتمع الدولي برمته؟ أو ليس ذلك بالتالي احتقارًا للنظام الدولي وبالتالي للإنسانية المعاصرة كلها؟ وهل لنا أن نبصر في مفهوم إسرائيل عن حجتها التاريخية “معاداة السامية” أنها ليست شيئًا آخر غير أي انتقاد يوجه لها هي ولسياساتها كدولة تدعى إسرائيل، تحاول بعد حدث المحرقة الشهير، ولا ننسى أن المحرقة هي فعل غربي، وإسرائيل متهمة بأنها تتكسب وتتاجر في النهاية بجريمة بشعة، وبالملايين الذين أحرقوا، لكن بعد حرقهم، والذين يتبرأ اليوم أعداد متزايدة منهم ومن أبنائهم من إسرائيل وسياساتها.

معاداة السامية والمحرقة

حين نصل لمعاداة السامية فإننا نصل إلى البنية الأساسية للحركة الصهيونية الحديثة، لأنها هي الفكرة المحركة المحورية للمؤتمر الصهيوني من قبل تأسيسه، ويمكننا العودة لكتاب الدولة اليهودية لثيودور هرتزل، الأب الروحي لإسرائيل، لنرى ماهي جذور الفكرة فهو يقول منذ السطر الأول: “إن العالم يدوي بالصيحات العالية ضد اليهود، وهذه الصيحات هي ما أيقظ الفكرة من سباتها” هرتزل، دولة اليهود، ت. محمد فاضل، ص٣٩.

كتب هرتزل كتاب الدولة اليهودية في باريس، على أصداء صيحات الفرنسيين (الموت لليهود)، إثر محاكمة ديفوس، وهو ضابط يهودي اتهم بإفشاء أسرار الدولة الفرنسية إلى الألمان، وانقسم المجتمع الفرنسي آنذاك، ويرصد لنا مارسيل بروست بعض تلك الأجواء في روايته البحث عن الزمن المفقود، هكذا فإن تلك الصيحات العالمية التي يقصدها هرتزل هي صيحات مضادة، عدوانية، تنادي بموت اليهود، وهي التي أيقظت فكرة هرتزل ووحيه بضرورة العمل للصهيونية، بالتالي فإن كتاب هرتزل والمؤتمر الصهيوني الأول ولدا في المقام الأول كردة فعل على صيحة عدائية، فهي بالتالي ردة فعل عدوانية مضادة،، وهذا ما يؤكد عليه هرتزل بتأكيده على الخطر الذي يحيط باليهود، ففكرته نتاج الخطر، وحين يتحدث عن القوة الدافعة التي يعتبرها هي القوة التي ستدفع بمشروعه الصهيوني فإنه يركز على مأساة اليهود، ومعاداة السامية:

كل شيء يعتمد على تلك القوة الدافعة، ..فما هي؟ إنها مأساة اليهود. من يجرؤ على إنكار وجودها؟.. يعرف الجميع ظاهرة قوة البخار التي تتولد من غليان المياه، حتى يرتفع غطاء الغلاية، وظاهرة غليان الشاي هذه هي محاولات المؤسسات الصهيونية وعشائرها لكبح معاداة السامية. وأرى أن هذه القوة إذا تم توظيفها على النحو الصحيح، سيكون لها من التأثير ما يكفي لإدارة محرك ضخم، ولتحريك المسافرين والبضائع، أيًا كان شكل المحرك الذي يختاره الرجال” السابق، ص٤٠

نعرف اليوم أن ذلك المحرك البخاري الضخم لغليان معاداة السامية أصبح دولة اسمها اسرائيل، لكن لنتوقف أكثر عند المثال الذي يضربه هيرتزل إن مأساة اليهود تغلي ونتيجة لها يرتفع غطاء الإبريق، ذلك الغطاء هو المؤسسات الصهيونية، التي تحولت اليوم إلى دولة، وهذا يختصر لنا الكثير، إن المحرك الوجودي الأول للصهيونية هو مأساة اليهود، الغضب هو محرك هرتزل نفسه لكتابه كتابه، والذي سعى لاستثمار مأساة اليهود وغليانهم لإقامة محركه الضخم، نشر هرتزل كتابه وأثار ضجة، وبعدها بعام دعا لإقامة المؤتمر الأول للصهيونية في بازل بسويسرا١٨٩٧، وانتخب رئيسًا وكتب في يومياته ولادة دولة إسرائيل منذ المؤتمر الأول، لكن المشروع نفسه لم يرى النور إلا بعد موته المفاجئ بالقلب عام ١٩٠٤م بعقود، وكانت صورته حاضرة إعلان قيام دولة إسرائيل ١٩٤٨م، وفي ١٩٤٩م نقل رفاته من فيينا إلى  جبل هرتزل غربي القدس، وهو المقبرة الوطنية لإسرائيل.

لا شك أن للانتداب البريطاني على فلسطين دوره في قيام إسرائيل، لكننا نحاول فهم إسرائيل ذاتها اليوم من خلال محركاتها الذاتية، وهنا نجد الحدث المحوري المهم الآخر في قيام إسرائيل، فإذا كانت فكرة هرتزل عن القوة الدافعة هي مأساة اليهود فإن ألمانيا النازية قامت في الفترة ١٩٤١-١٩٤٥ بأكبر عملية إبادة جماعية لليهود يبلغ عدد ضحاياه حسب التقديرات ٦ ملايين يهودي، وهذا ما سرّع القوة الدافعة الغليانية لهرتزل، وهو حدث مهم في النفسية اليهودية عمومًا، لكنه أهم في تاريخ إسرائيل وقد بذلت إسرائيل كل جهدها لتبني المحرقة بوصفها قضيتها هي وحدها، وقامت بملاحقة الجناة ومحاكمة بعضهم وطلب التعويضات، وتعتبر نفسها دولة الناجين من المحرقة، ولا أبلغ من أن مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة الذي ذكرناه سلفًا، قام مؤخرًا هو والبعثة بوضع النجمة الصفراء التي فرض النازيون على جميع اليهود ارتدائها، في تذكير بالمحرقة، في الوقت الذي كان فيه العالم يستنكر فيه جرائم إسرائيل في غزة، فكأنه يرد بذلك على من ينتقده، ولا يمكن فهم النقطة التي ينهض عليها رده، إلا إذا افترضنا أنه يقول بأننا نحن الذين قامت أوروبا بارتكاب جرائم في حقنا، نحن الضحايا، فيما يسميه ادوارد سعيد احتكار الضحية في الهوية الإسرائيلية، إنها مجددًا المأساة اليهودية وحدها التي لها الاعتبار أما بقية المآسي فليست كذلك، لهذا ففي نظر إسرائيل أن كل ما تمارسه هو الحفاظ على أمنها وأمن شعبها.

إذا عدنا لاستعراض تاريخ إسرائيل منذ ما قبل الانتداب إلى اليوم وتأملنا نهج مؤسسي إسرائيل لإنشاء دولتهم، نجد دائمًا استخدام القوة، أيًا كانت، وكانت القوة الأكبر التي استخدمتها إسرائيل بفعالية هي الإرهاب، إرتكاب المجازر وتخويف السكان، والاستحواذ على الأرض بالقوة، هكذا تأسست إسرائيل، إن الخوف التأسيسي والغليان الهرتزلي ما يزال حيًا حتى اليوم في هذا المحرك الإسرائيلي، الذي ولد من معاداة السامية ومن رحم المحرقة، وقام باستغلال وجود المعاداة وحدوث المحرقة للحصول على الدعم السخي اللامحدود لإقامة دولة يجري تهجير اليهود إليها بكل الأساليب، ودون أن ينتبه بقيت تلك الدوافع في كينونته وهويته وأصبح يعيد إنتاجها لتصبح مصيره.

هكذا صار دافع المأساة شرط وجود إسرائيل، ولم تتمكن بل وفشلت حتى من تخيل نفسها خارجها، طبعًا دون تعميم فهناك بين الإسرائيليين المعاصرين قلة قليلة ممن أبصرت هذه الدوامة الجهنمية وأدانتها بشجاعة، لكن هذا هو الجحيم الحي الذي يستغرق اليوم نتانياهو وحكومته ويجعلهم يقدمون على مجازرهم المخزية أمام أعين العالم أجمع، متشفعين بنصوص توراتية، ووسواس أمني قهري، وشبح إرهاب ليس إلا ظلهم، دون أن يشعروا بتاتًا بأنهم بذلك يهددون أمن مواطنيهم ويسقطون الدولة التي يدعون الحفاظ عليها، وأن هذه الحفلة الشيطانية التي تسكرهم بمزيد من الانتقام والتنكيل تخرجهم خارج حدود الإنسانية، ولا تنتجها إلا أنفس مريضة، وعقول فاسدة.

هذه سقطة إسرائيل وخطيئتها المميتة، عجزت إسرائيل عن تجاوزها، لأنها الأساس الذي قامت عليه واعتمدت في بقائها على إدامته، لذلك فإن حال إسرائيل اليوم يدعو للرثاء أكثر من حال اليهود قبلها، لأنها تمثلت دور الجلاد النازي والغربي الذي كان يعاديها، وجعلت من العرب الفلسطينيين ضحيتها، وهم ساميون أيضًا بمنظور السامية، وقامت تعاديهم بشكل ممنهج لا يمكن فهمه إلا كانتقام سيكولوجي، جاعلة من غزة أقرب لمعسكر اعتقال، وممثلة دور الانتقام المختل، صانعة من ماضيها مأساة حية وحاضرة بمختلف أشكالها الممكنة، ومنتجة لكارثة إنسانية لا يمكن محوها من ذاكرة الإنسان.

أدب سياسة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد