“ادفَع دولاراً تَقتُل عربياً “… الكتاب الذي صادرته إسرائيل، وأتلفت جميع نُسَخه عبر سفاراتها بالخارج، للصحفى والكاتب الأمريكى “لورانس غريزوولد”، الصادر للمرة الأولى عن دار “العلم للملايين” في عام 1954، والذي أعيد طبعه للمرة الثانية فى عام 2000 تزامناً مع انتفاضة الأقصى..
واقع يأبى الانقضاء.. وهو ما يشهده العالم من سرقة فجة للأرض بمباركة أمريكية وصمت عالمي، ليبقى نزيف الشهادة الذي لا يتوقف بين الحين والآخر يعيد التذكير بمجازر التهجير وسرقة الأرض. بالطبع لم يكن الوقت كفيلًا بإهدار الحقائق، ولم تكن السنوات قادرة على طمس التاريخ أو تزييف الواقع. وفي محاولة للتوثيق والتذكير على حد سواء، آثرت أن أستعرض محتوى الكتاب الذي أرق دولة الاحتلال منذ 80 عاماً ومازال يؤرقها؛ كي يصبح متاحاً لأكبر عدد ممكن من القُراء، فهو باختصار “كتاب يهم كل عربي” ويضاهي في أهميته وخطورته كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون”.
ونظراً لهذه الأهمية والجرأة التى جرى بها توثيق فصول الكتاب، سعت السفارات الإسرائيلية، فور صدوره عام 1954، إلى مصادرته وإتلاف جميع نُسخه عن طريق سفاراتها وقنصلياتها بالخارج، لكونه شاهد عيان على سيناريو التلفيق الصهيوني الطامِع في انتزاع القدس “وطناً” بالإكراه، غير أن هناك العديد من التفاصيل والكواليس المتعلقة بالكتاب جديرة حقاً بالحكي.. يكفي أن عنوانه هو شعار الحملة الصهيونية، التى نُظِمَت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1948 لجمع تبرعات لصالح اليهود من أجل إبادة عرب فلسطين.
هذا الشعار، وما حَمله من اقترانات تاريخية تشي بتآمُر أمريكي أزلي على الأرواح العربية لصالح الحليف الصهيوني، إنما يكشف حقيقة ذلك الكيان الصهيوني وكونه نِتاجاً للوجود العشوائي تماماً كما النبتة الشيطانية المُتسلِقة، التي لا جذور لها.. ربما نبعت أيضاً كراهيته المتأصلة نحو العرب من شعوره الدفين بأفضلية الآخر؛ فنحن العرب أعرق الشعوب.. نحيا على إرثنا الثمين.. أصولنا تضرب بجذورها في جوف الأرض وتُطاوِل عنان السماء السابعة، لذلك يسعون دوماً لمحو أسطورة العراقة وإخفاء وصمة شتاتهم بين جنبات وطن مسلوب بالقوة النكراء.
ربما كان مبعث الغرابة أن هذا الكتاب جاء وليداً لهذه الفكرة المتأصلة فى ذاكرة الكاتِب العميقة، الذي يؤكد على نظرته التي يعرفها جيداً عن العرب، إذ يروي في فصله الأول والثاني شواهده التاريخية على “عربية” فلسطين والأجواء الشيطانية التي سمحت للصهيونية العالمية بالتمدد وإغواء الغرب لمساندتها.
بدأت القصة عندما اجتاحت مُكبرات الصوت شوارع وميادين “مانهاتن” في مدينة “نيويورك” عام 1948، مُردِدة ذلك الشعار الصهيونى (ادفع دولاراً تقتُل عربياً) لِحَث الأمريكيين على التبرع لمساعدة اليهود في إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم من أراضيهم. فكان لهذه الواقعة أثرها الكبير على الصحفي الأمريكي “لورانس غريزوولد”- الذي كان يعمل آنذاك فى المعهد الآسيوي بـ “نيويورك”، لتصبح شرارة البدء، التي اتخذ على إثرها قراره بالشروع فى كتابة هذا العمل. والواقع، لم يكن “لورانس” متحيزاً لطرف على حساب آخر، بل كان يلهث خلف الحقيقة. أراد حياكة رؤية متوازنة من قلب الحدث ومن داخل الجبهات العربية، نظراً لكون الرؤية الصهيونية هي الوحيدة، التي سادت آنذاك في أمريكا، لذلك قرر أن يرصد في كتابه وجهة النظر الموازية من واقع رحلة شرق أوسطية، كلفته الكثير من التضحيات، حيث كان قراره غير مُرحبٍ به، واستجلب له المزيد من الهجوم والتقصد، لتبنيه فكر مناوئًا للسياسة الأمريكية، إلا أنه عقد عزمه على مغادرة نيويورك، بعد أن تعرض للفصل من الجريدة التى يعمل بها، حتى لا يتم اعتقاله أو تتزعزع قناعاته. ثم بدأ رحلته المثيرة صوب الشرق، كي يسجل ويدون كل ما يصل إليه من حقائق لم يكثرث العالم لمعرفتها، وإنما سعت إسرائيل لطمسها كالعادة أمام العالم.
يقول “لورانس” في مطلع كتابه: “ما أعرفه عن العرب أنهم حافظوا على حضارات متعاقبة، بل أبدعوا حضارت، أما اليهود فلم يوفقوا إلى شيء من ذلك البتة.. ونظراً لكون صوت إسرائيل قوي جداً في الولايات المتحدة الأمريكية- بينما خَفُت صوت العرب- أعلنت عن وجهة نظري بأن العرب ينبغي أن يكون لهم وجهة نظر خاصة في المشكلة، ومن ثَم ثارت حولي ضجة تصُم الآذان. وعلى الرغم من الدعاية الظمأى للدم في بلادي، أبيت على نفسي التعصُب لأي من اليهود أو العرب. كنت شغوفاً لمعرفة الحقيقة، كما كنت قليل الثقة بالمستقبل الهادىء الوادِع كما صوره الساسة الأمريكيون. كذلك لم تَترُك خطب اليهود في شوارع نيويورك سوى القباحة في نفسي؛ حيث كان الاستماع لهؤلاء البرابرة قليلاً ما يخلق تعاطفاً مع قضية إسرائيل.. على أية حال، لقد عقدت عزمي أن أتحسس خيوط الحقيقة بنفسي واتخذت سبيلي نحو الشرق…”
بدت لي مقدمة الكتاب أشبه بتمهيد مثير، يجعل القارىء متحمساً لما قد يكشفه صحفي أمريكي، قرر أن ينأى بنفسه عن سياسة بلاده؛ كي يقف عن قناعة شخصية، على حقيقة ما يحدث في تلك البقعة العربية البائسة، فيما ظلت هناك مسحة قوية تعكس وعيه المنطقي بحجم الفارق الحضاري والمعرفي ما بين تاريخ وحضارة العرب وبين دولة نشأت من عدم، وهو الفارق الذي يتناساه العالم أو ربما لا يتجرأ على الاعتراف به في ظل لصوصية جديدة يفرضها الكيان “الصهيوأمريكي”.
يتكون الكتاب من تسعة فصول، تتناول التتابع الزمني لرحلة “لورانس”، وكل التدوينات التي سجلها أثناء رحلته، بما فيها انطباعاته الشخصية حول كل ما توافر لديه من معلومات خلال محطاته المثيرة على الجبهات العربية المشتعلة، حيث جاء الفصل الأول تحت عنوان “مع موكب الحضارة”، الذي استعرض خلاله الحقائق التاريخية التي تثبت أحقية العرب في أرض فلسطين، علاوة على تفنيد الأكاذيب الصهيونية استناداً إلى أدلة تاريخية وجغرافية.
يستهل لورانس هذا الفصل بعبارة شديدة الإلهام قائلاً: “إن تاريخ الحضارة يبدأ مع العرب- حيث جنة عدن- وفقاً للكتاب المقدس”. ثم يتتبَع وجود العبرانيين في الأراضي العربية منذ انتشار القبائل السامية عام 2500 ق.م. بمنطقة “وادى عُربَة”، وخلال هذة الفترة تشرذم أسلاف اليهود، حيث كانوا أقل ميلاً من سائر العرب نحو الاستقرار، ومن ثَم عبروا شبه جزيرة سيناء وصولاً إلى مصر، وهبطوا إلى دلتا النيل الخصيبة، وأخرجوا منها الفلاحين المصريين، وبعد أن نجحت مصر في طرد الهكسوس، هرعت الفلول إلى بيت المقدس وأسسوا مملكة “يهوذا”، حيث عاش اليهود هناك حياة مضطربة، حتى بسط الرومان سلطانهم على فلسطين. وفي عام 70 بعد الميلاد، كان العرب الأيدوميون يشكلون، منذ زمن طويل، أقوى شعوب فلسطين غير اليهودية. وبتدمير هيكل “هيرودوس” لم يبقَ لليهود مركز ديني يجمع شملهم، واستمرت حرب العصابات في بلاد الرافدين. وبعد قرابة قرن من الزمان شهدت فلسطين عهداً جديداً، وحُظِر على اليهود المتبقيين دخول “فلسطين” مهما كانت الظروف. وفي مطلع القرن الثالث الميلادي لم يبق من يهود فلسطين سوى قلة قليلة، حيث وجه آلاف منهم وجوههم إلى بابل، ابتغاء التجارة والتماساً للأمن،
يؤكد “لورانس” أن تَتبُع الخلفية التاريخية للاحتلال اليهودي لفلسطين يدحض الادعاءات الصهيونية بأن ذلك القُطر وطناً قومياً لهم .. تلك الأكذوبة تستند إلى عهد شفهي خرافي، حيث “لا يوجد في فلسطين أي آثار يهودية ترجع إلى ما قبل العهد الروماني الأنطوني”، وفقاً للبروفيسور “ألبرت” – أحد كبار الباحثين العالمين في تاريخ فلسطين القديم .. وفيما يخص مزاعم الصهاينة حول ما يُسمى “حائط المبكى”، فهو زَعم باطل، لأن الحائط الموجود “جرانيتي”، أما هيكل سليمان، فقد بناه الفينيقيون من خشب الأرز. ووفقاً لرؤى غالبية العلماء الجيولوجيين، فإن الجدار الموجود ما هو إلا جزء من الهيكل، الذي بناه “هيرودوس” الأيدومي عام 20 ق.م. بعد اعتناقه اليهودية، بينما لم يكن هناك سوى المسجد الأقصى وقبة الصخرة وقبة السلسلة – وهي وحدها من آثار فلسطين – التي ترقى إلى ما قبل الاحتلال الصليبي للبلاد.
ينتقل “لورانس”، في الفصل الثاني إلى تتبُع فكرة نشاءة الصهيونية في محاولة لفهم أبعاد ذلك الوهم المستشري بين اليهود، والزاعم أن “فلسطين” هي أرض الميعاد لجميع اليهود في بقاع العالم، وفقاً لتعاليم توراتية مقدسة، حيث يقول: “إن تواجد العبرانيين لفترة قصيرة في فلسطين لا يمنحهم حقوقاً إضافية تتعلق بالسيادة على الديار المقدسة، بل الحقيقة الأكيدة هي أن فلسطين كانت آهلة بالعرب، الذين ترجع ملكيتهم للأراضي إلى القرن السادس عشر، والواقع أن الإنكار المفاجىء للحقوق الطبيعية للشعب الأصلي إنما هو من التواء سياسي يهدف إلى التصرُف في ملكية الخرين”
ينطلق “لورانس” نحو اقتفاء بداية ظهور الحركة الصهيونية، التي دعا لها صحفي وناشِط يهودي نمساوي يُدعى “ثيودور هرتزل”، حيث دعا في أواخر القرن التاسع عشر إلى إنشاء مستعمرات يهودية في كندا وجنوب أفريقيا وغيرهما، بينما اقترح “جولد سميث”- أحد أنصار الحركة- إنشاء ميليشية يهودية لاستعمار فلسطين. ومع تصريح “بلفور”، عام 1917، خطت الصهيونية خطوات واسعة في مشروعها عقب السماح لليهود بدخول الولايات المتحدة الأمريكية حتى بلغ عددهم في نهاية عام 1950 ما يقرب من 7 مليون يهودي. ومما لاشك فيه أن “تصريح بلفور” كان مَهد الكارثة الراهنة، والتي كانت أولى جمراتها تشكيل “ميليشيات يهودية” وإيفادها إلى “فلسطين” عام 1918، فكانت اللبنة الأولى لما عُرِف تاريخياً بـ “عصابة شتيرن”، التي دشنت عهداً جديداً من الإرهاب. وخلال عامين لم تتوقف سلسلة العنف والترهيب إلا بعد أن تشكلت المقاومة العربية فى عام 1920. ثم اندلعت الثورة في عام 1936، حيث غدت “فلسطين” لعبة يَعبث بها البريطانيون واليهود وحلفاؤهم دون مراعاة مصالح العرب.
وفي عام 1939 أصدرت الحكومة البريطانية ما يُعرَف بـ “الكتاب الأبيض” لاسترضاء العرب، لكنه في الواقع لم يزد الأمور إلا تعقيداً، حتى تعاظمت موجة الإرهاب اليهودي في عام 1947 وأعلنت الحكومة البريطانية إخفاقها في إيجاد حل للقضية وإحالتها إلى الأمم المتحدة، التي أساءت أيضاً التصرف عندما قسمت “فلسطين” بين العرب واليهود، ومن ثَم أطلقت العصابات اليهودية العنان لسيناريو الترهيب واعتزموا ترويع العرب، وللأسف نجحت هذه العملية، التى عُرفت داخل الأوساط غير الرسمية بـ “عملية الذعر”، حيث أخرجت ما يقرب من نصف مليون عربي، ممن نجوا من المذابح المُتعاقِبة، من أراضيهم.
والواقع لم تكن هذه المجازر عشوائية، بل كانت مدروسة وبمباركة سياسية من المسئولين في تل أبيب. وتعد مجزرة “دير ياسين” بمثابة النصر الأول فى سلسلة الفظائع الصهيونية، حيث كانوا يبقرون بطون النساء الحوامل ويقطعون رؤوس الأجنة ويغتصبون النساء ويخصون الصِبية قبل قتلهم أمام ذويهم. فظائع ربما تحتاج الكثير من الخيال الأسود، كي تتماهى مع مدى الوحشية الفعلية التي شهدتها قرية “دير ياسين”، ليتبعها عدد من القرى الأخرى، والواقع أن لائحة الفظائع الصهيونية مكتظة وطويلة، وتسير جميعها على ذات النهج غير الآدمي، وهو ما يفسر نجاح العصابات اليهودية في تهجير ما يقرب من 900 ألف عربي من أراضيهم بفضل “عملية الذعر” التي نجحت نجاحاً عظيماً من وجهة النظر الصهيونية.
تلك الوحشية الإسرائيلية لا تختلف كثيراً عما يحدث الآن في قطاع غزة، وإنما يبدو استكمالاً لسيناريو بدأ منذ 75 عاماً، ولكن الشعب الذي لم يمت أو يخنع أو يهرب على مدار كل هذه الأعوام غير قابل للإبادة بلغة المنطق والواقع….. وللحديث بقية.