سوسة كتب

في تلك اللحظة دارت في بالي أسئلة كثيرة منها مثلا ما هي الفائدة التي يجنيها في إهداء الناس كتبا عن عمان بهذا المبلغ الكبير ، إذ قارنتُه بقيمته في تلك الفترة ثم قارنته براتبي الذي كان يصل إلى 88 ريالا فقط ؟ وتساءلت مع نفسي كيف لهذا الرجل أن يتحمل هذه المبالغ من جيبه وهناك وزارة للإعلام وهناك وزارة للثقافة وهناك وزارة هو يمثلها وهي التربية والتعليم ؟ ثم تساءلت – وهو تساؤل مبكر واستمر معي وسيستمر حتى دخولي قبري مرضيا عني بإذن الله – لماذا لا يتم تعيين شخص مثل الأستاذ أحمد الفلاحي وزيرا للثقافة أو وزيرا للإعلام ؟ ودارت بي الأسئلة لأصل إلى سؤال آخر وليس أخير : هل هناك من يحب وطنه كما يحبه الفلاحي ؟!

 

 

” 1 “

في بداية الثمانينات قال لي زميلنا الراحل كمال الشلقامي إن الأستاذ أحمد الفلاحي ” سوسة كتب ” ، وفي الحقيقة استهجنت ذلك القول لأني لم أعرف مغزاه أو معناه وهل هو مدح أو ذم؟ لكني رأيتها كبيرة في أن يوصف شخص محترم مثل الأستاذ أحمد الفلاحي بأنه سوسة … وعندما لاحظ الشلقامي امتعاظي شرح لي المعنى وقال هذا مدح معناه أن الفلاحي عاشق للكتب وكلما فتحت كتابا سوف تجده هناك ، قلت له وهل الرجل يوصف بأنه سوسة ؟! قال هذا تعبير مجازي مثلما نقول مجازا عن أي رجل قلبه متعلق بالمساجد ولا تفوته صلاة الجماعة ، حمامة المسجد .

وربما كان من الأشياء التي تربينا عليها أننا لا يمكن أبدا أن نطلق كلمة عجوز للرجل، فقد كنا نظنها خاصة بالنساء، فكيف إذن برجل يوصف بأنه سوسة ؟

المهم بعد هذا الحديث بفترة وجيزة انتقل الأستاذ أحمد الفلاحي من الإذاعة العمانية والتي ساهم في تأسيسها ووضع لبناتها الأولى مع مجموعة جيدة من الإعلاميين العمانيين ، انتقل إلى العمل في وزارة التربية والتعليم ومن هناك عين ملحقا ثقافيا بسفارتنا في دولة البحرين ( حينها ) ، وفي فترة الاستعداد للسفر ذهبنا معا إلى مكتبة الإستقامة في روي ، وأخذ الفلاحي وقتا طويلا في انتقاء الكتب التي تتحدث عن التاريخ والأدب العماني وعن المذهب الإباضي رغم قلتها في تلك الفترة، وعند خروجنا دفع مبلغا من المال عن قيمة الكتب بلغ 94 ريالا وكسور ، وفي السيارة قال إن هذه المجموعة لا تكفي إذ أنه سوف يزور وزارة التراث القومي والثقافة لشراء المزيد ، وسوف يعود ثانية للمكتبة لاختيار مجموعة أخرى من الكتب لأنه ينوي أن يهديها للناس والمهتمين بالثقافة والتاريخ العمانيين.

في تلك اللحظة دارت في بالي أسئلة كثيرة منها مثلا ما هي الفائدة التي يجنيها في إهداء الناس كتبا عن عمان بهذا المبلغ الكبير ، إذ قارنتُه بقيمته في تلك الفترة ثم قارنته براتبي الذي كان يصل إلى 88 ريالا فقط ؟ وتساءلت مع نفسي كيف لهذا الرجل أن يتحمل هذه المبالغ من جيبه وهناك وزارة للإعلام وهناك وزارة للثقافة وهناك وزارة هو يمثلها وهي التربية والتعليم ؟ ثم تساءلت – وهو تساؤل مبكر واستمر معي وسيستمر حتى دخولي قبري مرضيا عني بإذن الله – لماذا لا يتم تعيين شخص مثل الأستاذ أحمد الفلاحي وزيرا للثقافة أو وزيرا للإعلام ؟ ودارت بي الأسئلة لأصل إلى سؤال آخر وليس أخير : هل هناك من يحب وطنه كما يحبه الفلاحي ؟!

” 2 “

لقد مرت سنوات وسنوات وتوثقت علاقتي بالأستاذ أحمد الفلاحي وعرفت خلالها صدق قول كمال الشلقامي عندما قال إن الفلاحي سوسة كتب ، فعلاقته بالكتب ليست علاقة هاوٍ يقرأ بل هي علاقة تسمو وترقى إلى مرتبة العشق الذي ينسى فيه العاشق كل شيء وكل أحد إذا كان مع معشوقه في محراب حبه وعشقه ، لذا فإنك إذا أمسكت بكتاب قرأه العاشق الفلاحي فإنك سوف تجد المتعة الكاملة في قراءته  فأنت لن تقرأ كتابا واحدا بل إنك سوف تنعم بقراءة أكثر من كتاب ، فأنت تقرأ الكتاب الأصلي أولا  ثم تقرأ رأي الفلاحي وتعليقاته وتعقيباته على ما في متنه ، مما يفتح لك آفاقا جديدة  وتعيش نقاشا عقلانيا هادفا عكس النقاشات التي نعيشها في القنوات الفضائية من الصراخ المؤدي إلى الصداع ، وأني كثيرا ما أميل إلى قراءة نقده وتعليقه على ما جاء في الكتاب أكثر من متعتي لقراءة الكتاب نفسه.

إن ميزة الأستاذ أحمد أنه لم يركز على جانب واحد فقط في القراءة ، فهو قاريء موسوعي يقرأ أي شيء ومستعد أن يناقش في أي شيء ولا يتعصب لرأي أبدا على حساب رأي آخر ، وإن كان يقول رأيه وما يؤمن به صراحة حتى وإن كان هذا الرأي يمكن أن يُزعل الآخرين لأنه يؤمن أن لكل إنسان الحق في أن يقول رأيه ويقول ما يؤمن به ، وهو بالمقابل يسمح بأي رأي ويتقبله بهدوء وإن لم يكن يوافق عليه إنما لإيمانه أن من حق أي أحد أن يقول رأيه.   

إن اهتمام الفلاحي بالكتب جعله يقيم علاقات جيدة مع العديد من الكتاب في الوطن العربي وفي مصر بالذات الذي عشقها وعاش فيها فترة من عمره ، كما أنه أقام علاقات طيبة مع الكثير من أصحاب دور النشر في الوطن العربي ، وهو الحريص دائما على الالتقاء والاحتفاء بهم في كل معرض كتب يقام سواء في مسقط أو الشارقة أو أبوظبي أو القاهرة .. كما أنه أخذ بيد الكثير من الشباب العماني الذين نشروا كتبهم في السنوات الأخيرة وأمدهم بما يحتاجون وشجعهم على الكتابة والتأليف والنشر باعتبار أن الكتب هي لسان حال أي أمة ولأن التاريخ العماني المحكي يندثر مع اندثار الآباء والأجداد الذين أهملوا جانب التأليف والتوثيق والتأريخ.

إن ما شاهدته في بداية الثمانينات من شراء الأستاذ الفلاحي للكتب وإهدائها للناس أصبح فيما بعد عادة أصيلة لديه تعودت عليها ، وبالمقابل تضاعف مبلغ ال94 ريالا أضعافا كثيرة ، إذ أنني أرى سعادة بالغة في وجه الأستاذ الفلاحي وهي يهدي كتابا إلى أحد ، ولا يكاد يذهب أي معرض للكتاب حتى معرض مسقط السنوي إلا ويشتري كمية كبيرة من الكتب يعرف سلفا لمن سيهديها ! وليس أدل على حب الفلاحي للكتب أكثر من الإشارة إلى أنه عاش طوال حياته في ضيق ذات اليد ولكنه كان لا يتوان عن صرف كل ما لديه لشراء الكتب له ولغيره ، وكما قال لي كاتب مصري إن الفلاحي كعادته كان يشتري كتبا من دور نشر لبنانية ويهديها لأصدقائه من الكتاب المصريين أثناء معرض القاهرة الدولي لأن أسعارها تكون كبيرة عليهم.

وقد تجددت الأسئلة في ذهني كثيرا من يوم ذهابنا – الفلاحي وأنا – إلى مكتبة الاستقامة في روي كلما مر بي موقف من مواقف الفلاحي : ألا يحق لهذا الإنسان المهموم بالكتاب والمهموم بالثقافة العمانية والمهموم بعمان كلها بتاريخها ووتراثها وشعبها والذي يتكلم بغيرة شديدة عن كل ما هو عماني .. ألا يحق له أن يتولى منصبا قياديا يخدم من خلاله الثقافة العمانية ويخدم فيه عمان ؟ لأني ما شاهدته طوال هذه السنوات هو أن جهده – وهو فرد – في التعريف بعمان عند الأدباء والكتاب والمثقفين في الوطن العربي يفوق ما تقوم به بعض الوزارات ، كما أن حبه لعمان يفوق كل الوصف لدرجة أن يصل إلى ” الشوفينية ”  !

إن قيمة أحمد الفلاحي تنبع من ذاته لا من أي منصب يتولاه أو لقب يناله ويسبق أو يعقب اسمه ، إلا أن ذلك كان تساؤلا بريئا من مواطن بريء ، بل تساءل عنه غيري الكثيرون ، ولكن هكذا هي الدنيا ، وهذا هو الوضع في الوطن العربي … ولي أن أذكر هنا موقفا مرّ بي إذ أن وزارة الإعلام أقامت دورة تدريبية للعاملين في الإذاعة والتلفزيون ، وكان من المحاضرين فيها د. رياض نعسان آغا ، وقد انبهرنا جميعنا بثقافته وسلاسته في الحديث وإلمامه بكل صغيرة وكبيرة ، كما انبهرنا بأجوبته الجاهزة .. فقلت لبعض الزملاء : هذا الإنسان أقصى ما وصل إليه هو مدير البرامج في التلفزيون السوري ، وهذا يدل على أننا نعيش في الوطن العربي خللا مّا ، فهل منصب وزير الإعلام أو وزير الثقافة قليل على مثل آغا ؟! وبعد فترة بسيطة إذا به يعيّن سفيرا لسوريا في السلطنة ثم وزيرا للثقافة في سوريا.

إن علاقة الفلاحي بالكتاب لم تقتصر على الشراء والقراءة والإهداء والتشجيع بل تعدت ذلك ، ومن ذلك فإن من يراجع مقالات الفلاحي فإنه سيجد أنه كان من الأوائل الذين نادوا وعملوا على تأسيس جمعية  أو رابطة أو اتحاد للكتاب العمانيين وهو ما تحقق في السنوات الأخيرة حيث حمل الفلاحي العضوية رقم 1 بجدارة، كما ذكرت ذلك جريدة الشرق الأوسط.

ومن المواقف الطريفة في علاقة الفلاحي بالكتب أنه اكتشف يوما ما في مكتبته مجلدين كبيرين باللغة الكورية عن زعيم كوريا الشمالية الراحل فقرر أن يتخلص منهما وعندما قرر ذلك لم تطاوعه نفسه لأن هذا في النهاية كتاب ، فأعادهما إلى مكتبته إلى يومنا هذا !

” 3 “

حول الكتاب العماني يرى الأستاذ أحمد الفلاحي أن حاله الآن أحسن بكثير عن الأعوام السابقة حيث  بدأنا نرى الكثير من الكتب العمانية تصدر في بيروت والقاهرة وغيرهما عن أمهات دور النشر العربية، وهذا ربما سيفتح المجال أمام الإبداع العماني للوصول إلى القارئ العربي وإن كان الأمر حتى الآن في طور البدايات، وما زال أمام الأدب العماني فترة طويلة ليستطيع البروز والظهور ولفت الأنظار إليه ، فثمة معوقات وصعوبات تقف أمام ذيوعه وانتشاره مادية وإعلامية وتسويقية ، ويرى أن على العمانيين بذل جهد أكبر لتسويق أدبهم والدفع به للظهور في العواصم العربية كي يتمكن أشقاؤهم العرب من قراءته والتعرف عليه وأن على الجهات الرسمية لدينا السعي لذلك والقيام للمبادرة فيه.

في حديث عن المشهد الثقافي العماني في جريدة الشرق الأوسط يرى الأستاذ أحمد الفلاحي أن أبرز التحديات التي تواجهها الحركة الثقافية العمانية، ضعف الإمكانات المادية، وقصور الإعلام في التعريف بها، وإسنادها، وعدم استطاعة الهيئات الرسمية والأهلية القيام بالأدوار المنتظرة منها ماديا وتقنيا، وقلة المباني المؤهلة لاحتضان الأنشطة المختلفة، وندرة الدعم اللازم والكافي لأن الجانب المادي هو الأساس في أنشطة المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقية والكتابية، ولعل إنجاز المجمع الثقافي المنتظر وافتتاح دار الأوبرا في العام القادم وإنشاء الأبنية الموعودة لبعض الجمعيات الثقافية وقيام وسائل الإعلام بدور أكبر وتنشيط الجانب الثقافي المهمش في الأندية الرياضية وفي غيرها من المؤسسات ذات الصلة، لعله سيخفف من حجم المشكلات التي تواجه الثقافة العمانية في غدها القادم خاصة مع تنامي وعي الناس وتفتح أذهانهم للفكر والفن والأدب والإبداع.

” 4 “

وبعد استعراضي لعلاقة الأستاذ الفلاحي بالكتب ، قد يتساءل البعض : إذن والحالة هذه ، أين هو إنتاج الفلاحي من الكتب ؟ وهذا سؤال هام.

هناك أوجه تشابه وقاسم مشترك بين الأستاذ أحمد الفلاحي وسماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة ، وهو أن الإثنين أضاعا وقتهما سدى ربما في مجاملة واستقبال الناس على حساب تنظيم الوقت ، وهذا بالتالي أدى إلى أن نخسر الكثير مما كان يمكن أن يقولاه من خلال الكتب ، والإثنان لديهما الكثير ليقولاه وإنما المسألة تحتاج إلى تنظيم الوقت وتحتاج إلى الابتعاد عن المجاملات ، ولنا في الشيخ محمد الغزالي رحمه الله رحمة واسعة مثل ، فقد حكى لي سعادة الشيخ زاهر بن عبد الله العبري أن مجموعة من العمانيين كانوا في سفر إلى تونس ، وبما أن فترة التوقف في القاهرة كانت طويلة ، فقرروا أن يذهبوا للسلام على الشيخ الغزالي ، وبعد وصولهم إلى البيت ، سألوهم هل لديكم موعد ؟ قالوا لا ، فكان الرد إن الشيخ الغزالي يعتذر ولا يستقبل أحدا بدون موعد مسبق .

كان تعليق الشيخ زاهر ، إن الشيخ الغزالي لو لم ينظم وقته ولو أنه يستقبل كل أحد في كل لحظة كيف كان له أن يؤلف تلك المؤلفات القيمة التي تملأ مكتبة كاملة ؟

لا زال الوقت مبكرا وسنظل ننتظر من الأستاذ أحمد الفلاحي الكثير والكثير، فلديه ما يقوله عن تجربته ولقاءاته وسفراته وكل ما وثقه ولم ينظمه حتى الآن ، وأعلم سلفا أنه سيقول عن مقالي هذا – كما هي عادته دائما – سيقول عنه إنه ( كلام حوَس) وهي التي أفهم منها دائما أنه كلام معوج ، كما كنت أسمع من أبي دائما وهو يمتدح الشيخ هاشل بن راشد المسكري رحمهما الله ويقول عنه إنه كان رجلا ( مُهَنجَما ) والتي أفهم منها أنه كان جريئا وشجاعا وكريما ..!

 

 

 

العدد السادس عشر سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com