التربية على الوطنية والمواطنة

ولئن بدت المواطنة هي المحرك الذي يُعنى بتفعيل حقوق الأفراد وتحويلها من منظومة قانونية مجردة إلى منظومة سلوكيات، وأفعال تمارس طبيعيا وبشكل محسوس، فلا جدوى لهذه الحقوق في غياب دينامية المواطنة لأنها أكثر الآليات صدقا لتأكيد عالمية هذه الحقوق وترابطها، وأوضحها نهجاً لترجمة قيمها ومبادئها إلى واقع ملموس يعيشه الأفراد وتسلكه الجماعات على كافة المستويات. فالمواطنة لا تعني فقط الاستفادة من الحقوق، لكنها تعني أيضا القيام بالواجبات اتجاه الوطن والمجتمع والاستعداد للتضحية من أجل تقدمه وازدهاره وسلامته.

   يقال: “حب الوطن يبدأ من حب الأسرة” وهو حب أوثق من أي منطق في الوجود كونه هاجس وطني جميل… وتُعبِّر الوطنية عن ارتباط مجموعة من البشر بأرض محددة؛ يجمع بينهم رمز وعلم ونشيد وطني، ويربطهم هدف ووفاق ووئام وجداني. والوطنية في اللغة تعني أرض الآباء وفيها إشارة إلى اعتبارات عاطفية، وتأريخية؛ فالوطنية انتماء وولاء لقيم ومبادئ، واعتزاز وافتخار بأرض وتراث.

ومن المتعارف عليه أن برامج التربية على الوطنية والمواطنة تأخذ أشكالاً متعددة وصوراً شتى لتصل إلى أهدافها؛ فمنها برامج ومناهج دراسية تغطي كافة المراحل التعليمية وتتطور بتطور النضوج العقلي للنشء لتصل إلى عمق الشباب فتداعب خيالهم وتلامس وجدانهم وتصاحب تطلعاتهم، ومنها ما يكون برامج توعية وإرشادات إعلامية، ومنها ما يكون قدوة ومثلا وأنموذجا حياتيا داخل الأسرة وخارجها.

ومن الجميل التأكيد على دور الأسرة في تأصيل ذلك كله؛ كونها الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها المجتمع في تشكيل أبنائه لما لها من دور فريد في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، فالأسرة هي المصدر الأول لإشباع حاجات الفرد النفسية، والاجتماعية ليكتسب منها مشاعره الانتمائية بما تمنحه من حب ورعاية ومكانة وأمن. والطفل يعيش في دوائر من البيئات الاجتماعية تبدأ بذاته ، ولذلك يجب على الأسرة أن تنمي فيه شعور التقدير لذاته؛ كي يشب وهو فخور ومعتز بوجوده في هذه الأسرة مما يجعله يشعر بالانتماء إليها، ثم تبدأ الأسرة بتوسيع دائرة المعارف لدى الطفل ولكن ليس بالوعظ والإرشاد والشعارات، وإنما بالسلوك والتصرفات من خلال تحميله مجموعة من المسؤوليات والواجبات وأيضا الحقوق لتنمي فيه القدرة على إيجاد توازن نفسي لمنظومة القيم بداخله، وإدراك ما عليه من واجبات وما له من حقوق ، ويستمر دور الأسرة في تعزيز الإحساس بالمواطنة داخل الطفل حتى سن متأخر، وذلك بحثه على المحافظة على نظافة المرافق العامة وأي مكان يذهب إليه مثل: الحديقة أو المجمع التجاري فيشعر بأن هذا المكان يخصه؛ وبالتالي يشعر بالانتماء إليه، كما أن احتكاك الطفل بزملائه في المدرسة يجعله يشعر بذاته من خلال الآخرين، وشعوره بأنه جزء من الجماعة يخلق توازنا نفسيا داخله مما يجعله ينتمي إلى مجتمع المدرسة التي تعدُّه وتعرِّفه مكونات قيمة الانتماء في أبعاده الأساسية وهى : الولاء للوطن ، المحافظة على الهوية ، الاعتزاز بحضارة الوطن وتاريخه ، المحافظة على الآثار، والانتماء للرموز الوطنية المتمثلة في العَلم والخريطة والسلام الوطني؛ فعندما يطلب من الطفل أن يحترم العَلم يفهم بطريقة مبسطة معنى العَلم، ويدرك قيمة الوقوف عند عزف السلام الوطني.

إن غرس المبادئ الأولى للمواطنة لدى الأطفال الصغار ؛ يكون بتزويد الأسرة بمهارات غرس المواطنة المسؤولة المبدعة المفكرة وتنشيط دورها في تدريب الناشئة على الالتزام بقواعد النظام ، واحترام القوانين ، وتحمل المسؤولية، ودعوة مؤسسات المجتمع (المدارس – أجهزة الإعلام – المساجد…) إلى استثمار التراث العربي والإسلامي في توعية وتوجيه السلوك نحو الولاء للوطن والعطاء للإنسانية .

كما أن إعداد الأبناء ليكونوا مواطنين صالحين يتطلب اغتنام كل فرصة للحديث المباشر معهم حول مقومات المواطنة الصالحة بتعويدهم على العادات الصحية للمواطن المخلص لوطنه، واحترام قواعد وأنظمة الأمن والسلامة، وأن يبين لهم بالأمثلة والشواهد المقربة إلى عقولهم حسب مرحلتهم العمرية بأن هذه الأنظمة والقوانين إنما وضعت لحفظ سلامتنا والحفاظ على مصالحنا وحقوقنا لتيسير شؤوننا الحياتية. فالتربية الوطنية تستطيع أن تنشئ المواطن المتزن الصالح القادر على الانطلاق بكل طاقاته وقدراته لترسيخ عقيدته وخدمة أمنه، ولكن ذلك مرهون بحسن البرامج ، وإحكام الخطط ووعي حضاري وإدراك متطور لتنفيذهما؛ فالتربية على المواطنة عمل يهدف إلى ترسيخ ثقافة تدافع عن الإنسان، وعن حقوقه في الوجود والتفكير والممارسة، وهو أمر له مشروعيته في عالم مليء بمظاهر انتهاك حقوق الإنسان ، دوليا ووطنيا.

إن الأمر يتعلق بتكوين شخصية الطفل المتعلم تتأسس نظرتها إلى الحياة ووجدانها ومشاعرها على ما تقتضيه ثقافة حقوق الإنسان من ممارسات وعلاقات بين الأفراد، ثم بين الفرد والمجتمع، ولعل ذلك ما يسمح باستنتاج أن التربية على حقوق الإنسان تهدف إلى تنشئة الطفل على قيم الديمقراطية، حتى يستطيع ممارستها في سلوكه اليومي من خلال تمسكه بحقوقه واحترامه لحقوق غيره.

ولئن بدت المواطنة هي المحرك الذي يُعنى بتفعيل حقوق الأفراد وتحويلها من منظومة قانونية مجردة إلى منظومة سلوكيات، وأفعال تمارس طبيعيا وبشكل محسوس، فلا جدوى لهذه الحقوق في غياب دينامية المواطنة لأنها أكثر الآليات صدقا لتأكيد عالمية هذه الحقوق وترابطها، وأوضحها نهجاً لترجمة قيمها ومبادئها إلى واقع ملموس يعيشه الأفراد وتسلكه الجماعات على كافة المستويات. فالمواطنة لا تعني فقط الاستفادة من الحقوق، لكنها تعني أيضا القيام بالواجبات اتجاه الوطن والمجتمع والاستعداد للتضحية من أجل تقدمه وازدهاره وسلامته.

ولكي نستطيع أن نرقى بذلك كله؛ نسأل أنفسنا لماذا تغيب مادة التربية الوطنية بـ”تسميتها الجميلة ودلالتها المعنوية” لتعرفنا ما لنا من حقوق، وما علينا من واجبات من مناهجنا التعليمية؟ ولماذا لا تعزز مدلولاتها الواثقة مؤسساتنا الإعلامية؟ ثم لماذا يجهل الموظف حقوقه حتى يتمكن من ممارسة واجباته؟! فأينما وجد وطن فلابد من وجود مواطن، فالوطن بلا مواطن كالشجرة الخاوية على عروشها، والمواطن بلا وطن، إنسان بلا هوية.. تائه في الأرض.

 

العدد السادس عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

عزيزة الطائي

كاتبة عمانية