سيرة المسلمين: دستور عُمان عبر التاريخ (القسم الأول: تاريخ سيرة المسلمين)

في نظري لا يمكن لهذه البلاد أن تنهض نهضة حديثة دون أن تستصحب أجود وأحسن ما في تجاربها السياسية والدستورية، وهذا هو حال كل الشعوب المتحضرة، فعُمان لديها مخزون حضاري امتد لحوالي 1300عام في تجارب سياسية ودستورية نوقشت نظرياً وطبقت عملياً، عرفت فيه البلاد معاني العدل والشورى والحفاظ على الهوية الوطنية، المهم أن نستطيع أن نستخلص من كل هذه الوثائق والتجارب ما ينفعنا في حاضرنا، مع التأكيد على ضرورة تفعيل حركة اجتهاد مستمرة ترفد وتمد هذا الفقه بالاجتهادات الدستورية المعاصرة والتي تتفق مع طبيعة المجتمع وحاجاته، وهذا ما عبر عنه النظام الأساسي لسلطنة عُمان الصادر عام 1996م المادة (10) الفقرة (ج) عند الحديث عن المبادئ السياسية لسلطنة عُمان: (إرساء أسس صـالحة لترسيخ دعائم شـورى صحيحة نـابعة من تـراث الوطن وقيمه وشريعتـه الإسلامية، معتـزة بتاريخه، آخذة بالمفيد من أساليب العصر وأدواته).

النظام الأساسي لسلطنة عُمان

المادة  (10) : المبادئ السياسية…

ج.  إرساء أسس صـالحة لترسيخ دعائم شـورى صحيحة نـابعة من تـراث الوطن وقيمه وشريعتـه الإسلامية، معتـزة بتاريخه، آخذة بالمفيد من أساليب العصر وأدواته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سيرة المسلمين

دستور عُمان عبر التاريخ

(القسم الأول: تاريخ سيرة المسلمين) 

خالد بن مبارك الوهيبي

 

 

قال حسين عبيد غباش يوماً في كتابه (عُمان الديمقراطية الإسلامية) إن التجربة الديمقراطية في عُمان والتي أرستها تقاليد المدرسة الفقهية الإباضية تعد أطول تجربة ديمقراطية في التاريخ الإنساني([1])، وقد نبه المؤلف ذاته على أن الدستور في عُمان هو الأول من نوعه في العالم العربي والإسلامي، بل من الأوائل في العالم كله، فالأسس الأولى لهذا الدستور وضعت في النصف الثاني من القرن الهجري الأول([2])، وجهد حسين غباش في كتابه (عُمان الديمقراطية الإسلامية) تركز بشكل رئيس على رصد التجربة السياسية لنظرية الإمامة في عُمان، وبشكل أساسي على القرون الثلاثة الأخيرة، دون التطرق بشكل تفصيلي إلى تفاصيل هذا الدستور المعمل به.

والدستور المعمول به في تاريخ البلاد طوال هذه القرون عرف بـ(سيرة المسلمين) وهو التعبير الذي شاع للدلالة على تقاليد الحكم والسياسة وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ وهي وثائق مكتوبة وملزمة وجدت طريقها إلى ممارسات السلطة وعلاقتها بالمجتمع، وتستتبع مخالفة هذه السيرة من قبل السلطة التنفيذية المتمثلة في الإمام العزل من قبل أعلام المسلمين([3])، فهي بهذا التوصيف تعد أطول تجربة دستورية عرفتها الإنسانية.  

 

وهذه السيرة تعرضت لتراجع كبير في القرون المتأخرة سواء على المستوى الشعبي أو على مستوى النخبة؛ ويرجع ذلك لعوامل عديدة سنتعرض لبعضها في هذا المقال، وتسبب التفريط في هذه السيرة في تعرض الوطن للعديد من الأزمات الداخلية والخارجية وتعريض وحدته واستقراره للخطر.

ولعل من أهم أسباب تراجع سيرة المسلمين على المستوى التطبيقي في المجتمع هو جمود السيرة وعدم استجابتها لتطورات الحياة ومتطلباتها، وهنا يكمن سر عدم صمود دول الإمامة المتأخرة وانهيارها السريع.

في نظري لا يمكن لهذه البلاد أن تنهض نهضة حديثة دون أن تستصحب أجود وأحسن ما في تجاربها السياسية والدستورية، وهذا هو حال كل الشعوب المتحضرة، فعُمان لديها مخزون حضاري امتد لحوالي 1300عام في تجارب سياسية ودستورية نوقشت نظرياً وطبقت عملياً، عرفت فيه البلاد معاني العدل والشورى والحفاظ على الهوية الوطنية، المهم أن نستطيع أن نستخلص من كل هذه الوثائق والتجارب ما ينفعنا في حاضرنا، مع التأكيد على ضرورة تفعيل حركة اجتهاد مستمرة ترفد وتمد هذا الفقه بالاجتهادات الدستورية المعاصرة والتي تتفق مع طبيعة المجتمع وحاجاته، وهذا ما عبر عنه النظام الأساسي لسلطنة عُمان الصادر عام 1996م المادة  (10) الفقرة (ج) عند الحديث عن المبادئ السياسية لسلطنة عُمان: (إرساء أسس صـالحة لترسيخ دعائم شـورى صحيحة نـابعة من تـراث الوطن وقيمه وشريعتـه الإسلامية، معتـزة بتاريخه، آخذة بالمفيد من أساليب العصر وأدواته).

 

مرحلة التأسيس

ترجع الأصول الأولى لسيرة المسلمين إلى الجهود الجبارة التي بذلها أهل الدعوة أو جماعة المسلمين كما كانوا يسمون أنفسهم، أو الإباضية كما سماهم معارضوهم([4])، وكان أساس تكوين الحزب السياسي الذي تسمى باسم المسلمين هو إعادة مؤسسة الحكم إلى تقاليد الخلافة الراشدة وبخاصة عهدي أبي بكر وعمر، بعد أن افتئت على القيم الحاكمة للدولة الإسلامية من قبل حزب الأمويين، الذين اتخذوا عباد الله خولاً وماله دولاً كما عبر عن ذلك أبو حمزة الشاري([5]) في خطبه بالمدينة المنورة، وهي عبارة تكشف عن لب المعارضة السياسية للأمويين، فهناك:

– انتهاك لكرامة الإنسان (اتخذوا عباد الله خولاً) أي عبيداً.

– وحرمان الناس حقوقهم المالية (وماله دولاً) أي جعلوه متداولاً بينهم فقط وحرموا المسلمين منه.

واستمر الحال في عهد المؤسس للدعوة السياسية جابر بن زيد مقتصراً على متابعة الأوضاع وإعداد أبناء الدعوة، وفي عهد الرجل الثاني في الدعوة أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة؛ توسع نشاط الدعوة ليغطي عدداً كبيراً من البلدان شملت العراق وعُمان والحجاز واليمن وخراسان والمغرب ومصر وتوج نشاط هذا الإمام بإقامة الدول النموذج التي كانت الدعوة تطمح لها في كل من المغرب والحجاز واليمن ثم عُمان.

وهذا النشاط السياسي رافقه عمل فقهي، إذ أن إدارة الدولة تقتضي وضع نظريات موضع التطبيق لإدارة دفة الحياة، وفيها تختبر النظريات ومدى جدواها، ومن أوائل الوثائق التي بدأت تضع اللبنات الأولى للتوافق على المبادئ الحاكمة للنظام السياسي والاجتماعي لجماعة المسلمين رسالة أبي عبيدة عبد الحميد الجناوني إلى الإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، التي نص فيها على أن البيعة هي على إقامة كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام واتباع آثار المسلمين([6])   وسنجد من بعد أن تعبير (آثار المسلمين) سيصير تعبيراً شائعاً في الأدبيات السياسية بجانب مصطلحات أخرى كـ(سيرة المسلمين)، وألف أبو المؤرج عمر بن محمد القُدمي -وهو من تلاميذ أبي عبيدة مسلم- كتاباً فريداً من نوعه وهو كتاب العمال، وهو عبارة عن مسائل في كيفية تولية الإمام لعماله على الولايات ومما نقله عن ابن عبد العزيز: (وقد أعلمتك أن القاضي يجب أن يكون أفهم الناس وأورعهم وأعلمهم بالكتاب والسنة والآثار بعد الإمام)([7])، والآثار هنا هي العمل الفقهي والسياسي المرتبط به في إدارة شؤون الحكم من قبل الولاة الذي يعينهم الإمام، وهذا الكتاب المبكر في تأليفه يدل على الحضور الذهني لتلاميذ جماعة المسلمين في ذلك الوقت بأهمية هذه المباحث الفقهية التي ستكون من بعد البذرة الأولى لسيرة المسلمين.

ومع قيام الدولة التي قامت بها جماعة المسلمين في عام 129هـ في اليمن والحجاز، نجد وثيقة في غاية الأهمية تكشف تاريخ السيرة وهي خطبة أبي حمزة الشاري بالمدينة المنورة، وهذه الخطبة وضح فيها معالم اعتراض الدعوة منذ نشأتها على كافة ما رأوه انحرافاً عن نهج الإسلام في الحكم، وكذلك وضحت أهم وأبرز معالم رأيهم السياسي من:

–         تصغير ما عظمته الجبابرة

–         الدعوة للعدل والعدالة الاجتماعية “ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها”.

–    الإدانة للظلمة ومن تبعهم أو رضي بعملهم، “الناس من ونحن منهم إلا ثلاثة:حاكماً بغير ما أنزل الله، أو متبعاً له، أو راضياً بعمله”.

–    الثورة للحق والعدل، “تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشراً ولا بطراً ولا عبثاً، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا؛ ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط: ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله…”([8])

 

ومع قيام دولة الإمامة الأولى في عُمان عام 132هـ وانتخاب أول إمام وهو الجلندى بن مسعود؛ بدأت تتبلور  إلزامية سيرة المسلمين منهجاً يحدد العلاقة بين السلطات والعلاقة بين هذه السلطات والناس، وتجد ذلك في العديد من النصوص المأثورة عما قاله أعلام المسلمين من  العلماء عن الأئمة الأوائل:

– قال أبو قحطان خالد بن قحطان عن الإمام الوارث بن كعب وهو الإمام الثالث في عُمان: (فوطئ وارث أثر السلف الصالح من المسلمين وسار في عُمان بالحق)([9])، وقال أبو الحسن: (بايعوا وارث بن كعب على ما بويع عليه أئمة العدل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشرى في سيبل الله وإظهار الحل وإخماد الباطل)([10]).

– قال منير بن النير الجعلاني سيرته التي وجهها إلى الإمام غسان بن عبد الله (192هـ/207هـ) وهو الإمام الرابع في عُمان: (…والمناصحة لله والحجة على من شك وارتاب أو عرض إلى شيء من الباطل، مع إظهار السنة وإطفاء البدعة، ونشر المعروف ونسب الدين الذي أنزل الله به الكتاب وأرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم ومضى عليه أئمة المسلمين وقادتهم…)([11]).  

– سيرة هاشم بن غيلان إلى الإمام عبد الملك بن حميد (207هـ/226هـ) وهو الإمام الخامس في عُمان، يقول هاشم: (اعلمك رحمك الله أنه كان من قبلك من أئمة المسلمين، أدركنا من أدركهم وأخبرونا أنه أول شيء ساروا به في الناس أن علموهم دينهم وأظهروا لهم نسب الإسلام وبينوا لهم ما يأتوا مما أمرهم به من طاعته ومما يتقون مما نهاهم عنه…)([12]) فهاشم بن غيلان يذكر الإمام بسيرة الأئمة قبل الإمام عبد الملك وينبهه إلى ضرورة اقتفاء سيرتهم.

–  سيرة محمد بن محبوب رأس أعلام المسلمين في زمانه إلى أهل المغرب: (القول من المسلمين في ذلك أنه ليس من سيرتهم حرق منازل أهل القبلة ولا غنيمة الأموال، فإن ركب ذلك راكب من جنده وصح عليه ذلك أخذ الراكب لذلك بجنايته في ماله دون بيت مال المسلمين، فإن لم يصح وكان جنده هم الذين ركبوا ذلك بلا رأيه وصح ذلك عليهم كان ذلك على الفاعلين له، وإن كان ذلك بأمره وإذنه وهو يعلم أن ذلك خلاف سيرة المسلمين ضمِن ذلك، فهو ومن فعل ذلك بأمره وإذنه دون بيت مال المسلمين، وإن فعل ذلك بإذنه ورأى أن ذلك حلال له فذلك خطأ وهو في بيت مال المسلمين، وعليه أن يتقدم على جنده ويعلمهم بما يحل ولا يخفي ما يجوز عليهم ويأمرهم وينهاهم، فمن ركب بعد هذا النهي ضمن ما ركب في ماله)([13]).

ومن هذه السير وغيرها بدأت سيرة المسلمين أو آثار المسلمين في الحكم تسيِّر عملية تنظيم العلاقة بين السلطات، وهما سلطتان: السلطة التنفيذية وتتمثل في الإمام وعماله وولاته على الأقاليم بالإضافة إلى الجيش العقائدي المعروف بالشراة، والسلطة القضائية وتتمثل في قضاة الإمام وعلى رأسهم قاضي القضاة، وتجمع السلطة القضائية كذلك إلى أعمالها سلطة سن القوانين التي تطبقها السلطة التنفيذية.

 

مرحلة النضج

بتراكم الخبرات والتجارب الإنسانية لدى المجتمع والسلطات؛ ما إن كاد ينقضي القرن الثالث الهجري حتى صارت سيرة المسلمين مبادئ حاكمة في وجدان المجتمع: حاكمين ومحكومين، وبدأت توضع في شكل وثائق يُذكر بها رأس السلطة التنفيذية –الإمام- عند تولية الحكم أو يذَّكر بها في أثناء تولية المسؤولية، وتصدر غالباً عن كبار أعلام المسلمين، وهم كانوا من الفقهاء في القرون المتقدمة، أو تضمن هذه المبادئ رسائل الإمام إلى عماله وولاته على الأقاليم.

وسنختار وثائق عصر الإمام الصلت بن مالك نموذجاً لدراسة بعض من مبادئ سيرة المسلمين، وجاء هذا الاختيار بناء على ملاحظة درجة معينة من النضج لسيرة المسلمين، كونه الإمام السابع منذ إمامة الجلندى بن مسعود، ولأن العهد الذي سيليه سيكون بداية لمرحلة جديدة من سيرة المسلمين؛ بدخول البلاد أتون صراعات فكرية وانقسام سياسي حاد.

  1. 1.     سيرة أبي عبد الله محمد بن محبوب لأهل المغرب:

وهذه السيرة تمثل نقلاً للتجربة في المشرق إلى المغرب، وتتمثل الأهمية لهذه السيرة أنها صادرة عن رأس أعلام المسلمين في زمانه، يقول محمد بن محبوب: (كتبت إليكم رحمنا الله وإياكم وأنا ومن قبلي من الخاصة والعامة من المسلمين بأحسن حال وأتم نعمة، وأجمع كلمة والحمد لله على ذلك وعلى كل حال، وقد وصل كتابكم بالسار لي من خبر سلامتكم…)([14]) فالسيرة تمثل في نظر محمد بن محبوب توافقاً مجتمعياً بين الخواص والعوام من المسلمين.

ومبادئ سيرة المسلمين لها مصادر تستند إليها، وتفهم على ضوئها، ووفقاً لسيرة أبي عبد الله؛ فإن مصادر سيرة المسلمين ثلاثة هي: الكتاب والسنة وآثار القولية والفعلية للعلماء والأئمة من أهل الدعوة، وهذه الآثار تشمل:

         ما قرره العلماء والقضاة في سيرهم إلى الأئمة

         سير الأئمة إلى الولاة وغيرهم، وغالباً ما يتولى صياغتها أحد كبار العلماء، كمحمد بن محبوب في سير الإمام الصلت.

         والممارسات السياسية العملية للأئمة والقضاة في إدارتهم لشؤون الدولة.

ومن خلال كتابات السيرة المختلفة عبر التاريخ لم تخرج السيرة عن أحد هذه العناصر.

 

 

يقول أبو عبد الله في سيرته:

– (وعلى هذا مضى أوائلنا وأسلافنا من لدن افتراق أهل قبلتنا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، قبلناه عن أئمتنا وقادتنا العلماء وبما مضى عليه أوائلنا ودانوا به في أئمتهم وغيرهم ولم ينزل بين أحد منهم اختلاف)([15]).

– (إنما الحكم والقضاء إنما يجوز لمن كان عالماً بكتاب الله وأحكامه وأقسامه وحدوده وفرائضه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار أئمة الهدى)([16]).

– (فإذا ورد عليه أمر نظر أمره من كتاب الله، فإن وجد فيه حكماً من الله حكم به، وإن لم يكن له حكم في كتاب الله ووجده في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجده في آثار أئمة الهدى حكم به وإن لم يجده في آثارهم شاور فيه أهل الرأي من المسلمين، فما أجمع عليه رأيه ورأيهم حكم به إذا رأوه أشبه بالحق وأقرب إليه، وإن رأى هو وبعضهم أخذ برأيه ورأي من رأى رأيه، وإن خالفوه جميعاً ترك الحكم فيه برأيه)([17]).

– (فاعلموا رحمنا الله وإياكم أن الإمامة إنما هي باتباع آثار أئمة العدل على طاعة الله ورسوله والقدوة بهم في آثارهم بالقول والعمل)([18]).

 

  • ومن المبادئ السياسية التي تضمنتها السيرة:

– ص 225: (والذي مضى عليه المسلمون ليس بينهم فيه اختلاف ولا تنازع أن من ظلم حبة فما فوقها متعمداً ثم أصر عليها كفر([19])).

– ص 225-226: (فهذا الإمام والوالي والساعي على ما وصفتموه عندنا جائر عن حكم الله حاكم بغير ما أنزل الله وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) والظالمون والفاسقون، ولا حكم إلا لله ولا حكم لمن حكم بغير ما أنزل الله، فهذه دعوة المسلمين التي دعوا الناس إليها وفارقوا على تركها؛ العدل والعمل).

– ص 226: (فإن فعل ذلك إمام استتيب، فإن تاب ورجع قبلت توبته ولم يعجل على براءته، وإن أبى وأصر وامتنع زال اسم الإمامة وحقها عنه، وصار عدواً للمسلمين يستحلون خلعه من الإمامة. وإن امتنع قوتل حتى يفيء إلى أمر الله لأن ما أحل له من البراءة من أهل القبلة وتحريم ما حرم الله منهم وذلك ما لا يذهب عليكم علمه وسيرة المسلمين فيه إن شاء الله).

– ص229: (وإن المسلمين قالوا في سيرهم إن من دينهم ولاية أهل طاعة الله على طاعتهم، وعداوة أهل معصية الله على معصيتهم، وخلع أتباعهم الذين شدوا على أعضادهم ونفذوا لهم جورهم الذي عملوا به في عباد الله وبلاده).

– ص235-236: (فإن الإمام أمين الله والمسلمين، وليس له أن يولي شيئاً من أمر الله في عباده إلا من يعرف عدله…ولا يجوز له أن يولي الحكم بين الناس إلا من يحسن الحكم بينهم. فإذا ولى عليهم في دمائهم وأموالهم وحرمهم من لا يعرف العدل فيهم فقد رد أمرهم إلى من لا يدرى، ولا يأمن العدل عليهم).

– ص237: (فعليهم العدل والإنصاف من أنفسهم، وعلى الإمام أن ينصفه من نفسه وعماله وجميع رعيته، فمن انتصف إليه من ولاته فعليه أن ينصفه فيهم، فإن صح للشاكي حق على واليه أنصفه منه، وإن لم يصح له عليه حق لم يمنعه النظر في إنصافه).

– ص 238: (فإن الذي أخذنا عن أسلافنا العلماء أن الإمام والقاضي والوالي لا تجوز لهم الهدايا ولا يقبلوها إلا ممن كان بينه وبينهم الخلطة متقدمة قبل الإمامة والقضاء والولاية).

– ص244: (وعن الإمام أيجوز له أن يستعمل على رعيته من لا يتولاه، فإن ذلك لا يجوز له ولا يحل ه أن يولي من لا يعرفه بالثقة أمته ورعيته، وقلتم فإن فعل ذلك فهل يزيل ذلك إمامته؟.

فإن فعل استتابه المسلمون، فإن تاب وإلا زالت إمامته وولايته، وحل للمسلمين عزله بعد إصراره ورد نصائحهم)

– ص254: (فالذي أدركنا عليه عليه أسلافنا وأئمتنا في ديننا إذا عقدوا لأئمتهم بايعوه على طاعة الله وطاعة رسوله وعلى الشراء في سبيل الله واتباع آثار أئمة الهدى ومشاورة أهل العلم في أمر الله، وله الطاعة على المسلمين ما أطاع الله ورسوله من بعد أن يكون عندهم أهلاً للإمامة ، أميناً على ما قلدوه من أمر الله وائتمنوه عليه من أمانة الله وعلى الرعية والذين يلون عقد الإمامة؛ خاصة المسلمين أعلامهم أهل العلم وأشياخ المسلمين وليس ذلك لعامتهم، إنما يتولى ذلك الخاصة، وكذلك هو عندهم أن أمر عقد الأئمة للخاصة العلماء والأشياخ دون العامة). 

 

 

  • ومن المبادئ الاجتماعية والمالية:

– ص 224/225: (فالذي بلغنا وقبلناه عن أوائل المسلمين وفقهائهم الذي تمسكوا بدين الله واستقاموا على سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم واعتصموا بحبل ربهم، ففارقوا أهلها على أحداثهم بإنزالهم إياهم بحيث أنزلهم الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ائتماماً بالقرآن واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين المباركين أبي بكر وعمر رحمهما الله من بعده حين أديل المال بين الأغنياء وحرم أهله الذين فرضه لهم، وذلك قوله “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” فأنكر المسلمون إدالة المال على من أداله وأخذه دون أهله بخلاف الكتاب النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم).

– ص 228: (أن قول المسلمين المأثور عنهم عن أوائلهم أنه ليس للإمام أن يجبي قوماً ولا يأخذ صدقاتهم وهو لا يمنعهم من أن يجار عليهم).

– ص 229:  (ولا يحل لرجل من المسلمين أن يجبي صدقات المسلمين الذين لا يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه وآثار أئمة الهدى، ولا تجرى هذه الصفات على المسلمين؛ لأنها إنما أخذها الظالمون ولا يقبل هذا أحد من المسلمين الصادقين في إيمانهم).    

– ص249: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان على كل مسلم في نفسه ما سواها، والمؤمن أخو المؤمن وينصحه في دينه، والاجتهاد في أمره ونهيه نصحة له ومعونة على البر والتقوى، وعليه لله الاجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه ذلك وكان الحال الذي عذر الله عباده فيها بالتقية).

– ص242: (من ضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من إمام فلا ولاية له والبراءة منه منه بعد أن يستتاب).

– ص 261: (عن الإمام إذا كان في رعيته قوم يقتلون على الحمية والعصبية ويدعوا في ذلك بالقبائل والعشائر…على الإمام أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بلسانه وعقوبته، فإن سمعوا وأطاعوا وتابوا مما يدعوا سلما بالسمع والطاعة، وإن أبوا وامتنعوا استحل جهادهم حتى يقروا إلى أمر الله).

 

 

  • ومن مبادئ الحرب:

1. ص 252: (القول من المسلمين في ذلك أنه ليس من سيرتهم حرق منازل أهل القبلة ولا غنيمة الأموال، فإن ركب ذلك راكب من جنده وصح عليه ذلك أخذ الراكب لذلك بجنايته في ماله دون بيت مال المسلمين، فإن لم يصح وكان جنده هم الذين ركبوا ذلك بلا رأيه وصح ذلك عليهم كان ذلك على الفاعلين له، وإن كان ذلك بأمره وإذنه وهو يعلم أن ذلك خلاف سيرة المسلمين ضمن ذلك…).

2. ص 255: (عن الإمام أله أن يجبر رعيته على الغزو…وكيف سيرة العدل في ذلك؟.

فأما من شرى نفسه لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يلزمه الخروج إلى عدوه الخارج على المسلمين، فأما من لم يخرج فإنما يريد الإمام أن يندبه بالحرب، فليس بمجبور على الخروج إلا أن يحب ذلك. وأما من لم يكن في الشراة فليس للإمام جبره على الجهاد).

3. ص 255: (ليس من العدل عندنا أن يحلف أحد بالطلاق على هذا ولا يجبر أهل الدعوة على الجهاد، لأن المسلمين قد يخرجون في القليل ويتولون قعدتهم ما لم يشرون أنفسهم. ومن شرى ولم يجاهد فقد قصر وعليه الجهاد، ومن لم يشر نفسه وشاء أن يأخذ بالفضل فهو له، وإن فعل لم يكفره القعود).

 

  • ويترتب على مخالفة السيرة الجزاءات المترتبة على مخالفة سيرة المسلمين، وهي كما بينها أبو عبد الله:

– ص243: (فإذا رضي به وهاود عليه ولم ينكر فقد خالف سيرة المسلمين ويستتاب، فإذا تاب وإلا زالت إمامته عن المسلمين).

– ص 256 : (ومن لم يكن له سلاح ولا كراع فليس للإمام عليه أن يحلفه بشيء من الأيمان، فهذا عندنا من الفعل مخالف لما مضى عليه أئمة العدل الذين كانوا يدعون إلى الله يجاهدون في سبيل الله، إلا أن يكون عندهم كراع أو سلاح من مال الله فأنكروه، فإن اتهمهم الإمام بإنكاره فكانوا متهمين؛ كان له أن يستحلفهم لأنه يلي عدة المسلمين لهم).

– ص260: (فإن خالف الحق ولم يتبع آثار أئمة الهدى؛ لم يكن إماماً تلزم إمامته، وكان الضلال أولى به، وليس كل من انتحل دعوة المسلمين وتسمى باسمهم له إجابة إلى ما دعى إليه).

 

  1. 2.     عهد الإمام الصلت إلى قادة حملته إلى سقطرى:

وهي حملة وجهها الإمام الصلت بعد أن غزا نصارى الحبشة جزيرة سقطرى العمانية فنهبوا وسلبوا ودمروا، فبعث الإمام جيشاً من الشراة والمدافعين بقيادة محمد بن عشيرة وسعيد بن شملال، ووصى الجيش: قادة وجنداً بعهدمكتوب([20]) ، من أبرز ما جاء فيه([21]):

– أمر الجيش قادة وجنداً بتقوى الله وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فألزموا تقوى الله في الغيوب وداووا بها داء العيوب… وغضوا أبصاركم عن مواقعة الخيانة واحفظوا فروجكم عن الحرام, وكفوا أيديكم وألسنتكم عن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم بغير الحق, واجتنبوا قول الزور وأكل الحرام ومشارب الحرام وجماعة السوء ومداهنة العدو، وأدوا الأمانات إلى أهلها ).

–  التناصح بين الجيش والتعاضد والتكاتف بين أفراده: (فانصحوا لواليكم ووازروهما وتكنفوهما وانصروهما على الحق, ولا تخذلوهما وأجيبوهما ولا تخلفوا ولا تبطئوا عن دعوتهما؛ وتناصحوا فيما بينكم ولا تغاشوا، ولا تباغضوا، ولا تغضبوا، ولا تحزنوا ولا تكاذبوا، ولا تكالبوا، ولا تحاسدوا، ولا تكايدوا، ولا تماكروا، ولا تضاعنوا، ولا تطاعنوا في الأحساب، ولا تفاخروا في الأنساب).

– في حالة اشتباه الأمر عليهم في مسألة من المسائل فالأمر على النحو التالي:

يُرجع أولاً إلى آثار المسلمين على اعتبار أنها تمثل المتوافق عليه من تقاليد الحكم والسياسة، فإن لم يجدوا ففي أحكام الكتاب والسنة، فإن لم يجدا فيها نصاً في المسألة بعينها ففي العهد الذي بعثه، فإن لم يجدوا في كل ذلك رفعوا الأمر إلى الإمام: (وما اشتبه عليكم من الأمر الذي أنتم فيه فلم تجدوه في الآثار ولا في الكتاب ولا في السنة ولا في كتابي هذا فقفوا عنه حتى توردوه إليّ).

–  السيرة في الحرب: (وإذا التحمت الحرب بينكم وبينهم فلا تقتلوا صبياً صغيراً ولا شيخا كبيراً ولا امرأة ؛ إلا شيخاً أو امرأة أعانوا على القتال, ومن قتلتموه عند المحاربة فلا تمثلوا به فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة).

– السيرة في النصارى: (… فتدعوهم عن لساني وألسنتكم إلى الدخول في الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع حقوق الله والانتهاء عن معصيته, فإن قبلوا ذلك فهي أفضل المنزلتين لهم؛ وذلك يمحو ما كان من حدثهم، وإن كرهوا أن يقبلوا الإسلام ويدخلوا فيه فلتدعوهم إلى الرجعة عن نكثهم والتوبة من حدثهم إلى الدخول في العهد الأول الذي كان بينهم وبين المسلمين, على أن لهم وعليهم الحق بحكم القرآن وحكم أهل القرآن من أولى العلم بالله وبدينه من أهل عمان ممن نزل إليهم أمر المسلمين).

– تعيين قائدين للحملة العسكرية، فإن حدث بأحد القائدين حدث فالباقي منهما يقوم مقام صاحبه, فإن حدث بهما جميعا حدث فيقوم مقامهما حازم بن همام وعبد الوهاب بن يزيد وعمر بن تميم.

 تحديد مهام قادة الجيش: (واعلموا إني وليت عليكم يا معشر الشراة والمدافعة على جميع سقطرى أهل السلم منها وأهل الحرب ؛ وعلى الصلاة وقبض الزكاة والجزية والمصالحة والمسالمة والمحاربة لأهل النكث من النصارى أو من حاربكم من المشركين في سفركم أو في مستقركم على الأمر والنهي وإعطاء الحق ومنع الباطل وإنصاف المظلوم من الظالم ووضع الأمور في مواضعها وإعطاء كل ذي حق نصيبه من العدل من قريب الناس…).

– مجموعة من الأحكام الخاصة بالجيش: (ومما أوصيكم به أن تتقوا الله ولا تبيعوا شيئا من الأسلحة بسقطرى؛ ولا تشربوا نبيذا ولا يحدثن أحدكم امرأة خالياً، ولا يشتمن بعضكم بعضاً؛ ولا يكونن في مجلسكم لهو ولا لعب ولا هزل ولا كذب , فمن ظفرتما عليه أنتما – أعني محمد بن عشيرة وسعيد بن شملال –  أو صح معكما عليه أنه شرب نبيذا حراماً أو خلا بامرأة يحدثها غير ذات محرم منه ممن تسبق إلى قلوبكم فيه التهمة , أو يكون منهم اللهو باللعب أو بالغناء أو بشيء مما يكره الله والمسلمون، أو آذى أحداً من المسلمين، أو والى أحداً من عدوهم، أو باع سلاحاً في أرض الحرب؛ فقد أذنت لكما في قطع صحبتهم وإخراجهم من عسكركم وقطع النفقات والإدام عنهم… إلا من تاب منهم واستغفر ربه وراجع ما تحبون منه فاقبلوا توبته).

 

مرحلة ما بعد الصلت (ع: 272هـ)

وهي من أصعب المراحل التي مرت بها سيرة المسلمين، إذ ترتب على عزل الإمام الصلت بن مالك –الإمام السابع في عُمان- انقسام سياسي حاد وحروب طاحنة، وعبر الفقهاء عن مواقفهم تجاه كل أصحاب الاتجاهات السياسية في ذلك الوقت بمصطلحاتهم في الولاية والبراءة والوقوف، ثم لم يقف الحال عند هذا الحد، بل حصل انقسام حول الفقهاء الذين أدلوا بمواقفهم في الولاية أو البراءة أو الوقوف من أصحاب الأحداث والصفات، وعلى إثر كل ذلك نشأت مدرستان فقهيتان داخل القطر العُماني في إطار المدرسة الفقهية الإباضية، وهما المدرسة الرستاقية والمدرسة النزوانية، ولكل من المدرستين رموزها وطرحها الخاص بها، بل وصل الحال في بعض الفترات أن ينصب إمام من الرستاقية وآخر من النزوانية، ورغم كل هذه السلبيات التي أحاطت بهذه المرحلة إلا أن الإنتاج العلمي المرتبط بسيرة المسلمين كان قوياً، فقدمت اجتهادات ومحاولات فقهية لسد ثغرات في بناء سيرة المسلمين من قبل فقهاء كبار كأبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي وعبد الله بن محمد بن بركة البهلوي وأبي الحسن علي بن محمد البسيوي وأبي سعيد محمد بن سعيد الكدمي وأبي بكر أحمد بن عبد الله الكندي.

فأبو المؤثر الصلت بن خميس –وهو ممن أدرك مرحلة ما قبل عزل الصلت- يقدم عدة اجتهادات لتلافي أخطاء يمكن أن تؤدي إلى تهديد أمن الوطن واستقراره:

1. التنبيه على أن أقل ما يمكن أن يكون لدى الإمام والوالي من علم النظر في الولاية والبراءة، وذلك حتى يستطيع اختيار الأكفاء والأمناء لتولي الولايات([22]).

2. دل القرآن وسيرة المسلمين على وجوب الشورى، سواء في نصب الإمام أو في تسييره لأمر الدولة، والشورى تمثل توافق بين أعلام المسلمين ولا يجوز أن تعقد الإمامة بعقد رجلين من المسلمين([23])، وهذا الكلام من أبي المؤثر ينبه فيه على خطورة ما قام به موسى بن موسى وراشد بن النظر من استئثارهما بالأمر دون سائر المسلمين.

3. أن الإمام إذا أحدث أحداثاً استتيب؛ فإن تاب قبلت توبته مع رد المظالم إن ظلم وجار، وإن أصر على حدثثه وامتنع عن التوبة أظهر حينئذ المسلمون حدثه حتى يكون عامة الناس شهوداً عليه، ولا يقتلونه خلسة ولا يعزلونه خلسة، فإن شاعت أحداثه في رعيته ساروا إليه واستتابوه، فإن تاب قبلت توبته، وإن كابر عزلوه إن قدروا، وإن قاتلهم قاتلوه حتى يقتلوه([24]).   

فكل هذه الإجراءات الطويلة والتي تمنح الإمام وأعلام المسلمين وعامة الناس فرصة لدراسة الحدث والتثبت منه، دون استئثار أحد بحق عزل الحاكم أو نسبة الحدث إليه؛ يعد جديداً مقارنة بالمبادئ المقررة في سيرة محمد بن محبوب إلى أهل المغرب، وما ذلك إلا بسبب تجربة موسى بن موسى وراشد بن النظر من ادعاء أحداث على الإمام الصلت وعزله بناء عليه، ثم دخول البلاد في أتون صراعات سياسية وفكرية.

ولعل الجهد الذي قام به كل من محمد بن إبراهيم الكندي (ت:508هـ) في كتابه “بيان الشرع” وأحمد بن عبد الله الكندي (ت: 557هـ) في كتابيه “المصنف ج10″ و”الاهتداء” في جمع وترتيب سيرة المسلمين والفقه المتعلق بها؛ يعد من أوفى الأعمال التي خدمت بها السيرة في هذه المرحلة والمراحل التي تلتها، فمحمد بن إبراهيم الكندي في الأجزاء (68، 69، 70) من بيان الشرع قد رتب الأبواب بحسب قواعد السيرة، بحيث يبتدئ بقواعد السيرة من مصادرها نقلاً عن الوثائق المكتوبة عن أعلام المسلمين ورجال السلطة القضائية والأئمة إلى عمالهم، ثم يعرض في ذات الباب الفقه المتعلق بها من مناقشات فقهية لأكثر من أربعة قرون.  

 

مرحلة التراجع

يصعب تحديد بداية دقيقة لمرحلة التراجع لسيرة المسلمين، لكن بالتقريب نستطيع القول إنه بنهاية القرن الخامس الهجري بدأ منحنى التراجع يظهر على سيرة المسلمين متمثلاً في قيام دول تخص المدرسة النزوانية أو المدرسة الرستاقية([25])، بالإضافة إلى حالة من الجمود التي لفت التفكير الفقهي، بحيث لم يعد قادراً على تطوير منظومة سيرة المسلمين ورفدها بالاجتهادات التي تستجيب للمتطلبات الزمنية، وصار الأمر قاصراً على الاكتفاء بنتاج السيرة التي نضجت في نهايات القرن الثالث والإضافات والتعديلات عليها في القرنين الرابع والخامس، ومن الواضح أن هناك علاقة طردية بين النظر الفقهي وحالة سيرة المسلمين، فهي تنتعش وتزدهر في فترات الصعود والتنوير الفقهي، وتتراجع  في حالة دخول الفقه غياهب مظلمة.

ولعل من أبرز خصائص هذه المرحلة هو الصراع بين فكرتي الملكية والإمامة، وهذا ما حصل منذ صعود نجم النباهنة في عُمان إلى قيام دولة اليعاربة، وبقيام الأخيرة توقف هذا الصراع مؤقتاً لكون الدولة الناشئة قد أُسست على نظرية الإمامة التاريخية، لكنها تحولت في لحظة معينة إلى حالة من التعايش بين الإمامة والملكية، وفي عهد الدولة البوسعيدية التي قام رائدها الأول الإمام أحمد بن سعيد بتوحيد البلاد بعد الحرب الأهلية الطاحنة وطرد الغزاة الأجانب، وهذه الدولة أُسست في بدئها على أساس نظرية الإمامة ثم تحولت هي أيضاً إلى ملكية، ومنها عاد الصراع مرة أخرى بين فكرتي الملكية والإمامة وذلك خلال فترة تولي الإمام عزان بن قيس البوسعيدي الإمامة بدعم من الفقهاء في الفترة (1869-1871م)، وانقسمت البلاد إلى سلطنة وإمامة في الفترة من 1913م إلى منتصف الخمسينيات، ولم تتوحد إلا قرب نهاية الخمسينيات.

ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى قسمين:

أ‌-       المرحلة الأولى: وتمتد من نهاية القرن الخامس الهجري إلى أواخر عهد اليعاربة: وتميزت هذه المرحلة ببقاء العديد من تقاليد الحكم والسياسة في سيرة المسلمين موضع التطبيق، مع جمود في الارتقاء بالسيرة من حيث تلبية المتغيرات الزمانية والمكانية، والاكتفاء بما أنتجته التجارب السياسية والدستورية في القرون الخمسة الأولى.

ب‌-   المرحلة الثانية: وتمتد من أواخر عهد اليعاربة إلى نهاية خمسينيات القرن العشرين الميلادي: وهي فترة تراجع كبرى لسيرة المسلمين في الوجدان المستوى الشعبي والنخبوي، وحلت محلها في الأهمية ثقافة أخبارية مستوردة، ساهمت في مزيد من التراجع للنظر الفقهي في عُمان.

وأحد أهم أسباب هذا التراجع الكبير حالة التردي الثقافي للبلاد خلال المائتين والخمسين سنة الأخيرة، التي طوحت بالمجتمع العُماني بعيداً عن دائرة الزمان والمكان، ولم تعرف عُمان بداية لعهد جديد ينهض بها من كبوتها التاريخية إلا مع بداية حكم صاحب الجلالة السلطان قابوس، الذي استطاع إغلاق ملفات شائكة كملف الصراع بين فكرتي الإمامة والملكية سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، واستطاع توجيه كافة الطاقات لتحديث البلاد ونقلها إلى العصر وثقافته.

وبصدور النظام الأساسي لسلطنة عُمان عام 1996م تكون البلاد قد أكملت تاريخاً طويلاً من سيرة مكتوبة، ظلت البلاد تكافح طويلاً من أجل بقائها في حيز الوجود، وفي هذا العام وعد جلالته الشعب العماني بإدخال تعديلات على النظام الأساسي ليستجيب لمتطلبات المرحلة القادمة.

وبهذا القدر أرجو أن أكون قد أعطيت القارئ لمحة عن سيرة المسلمين التي مثلت دستور عُمان عبر التاريخ، وفي القسم الثاني من هذه المقال-والذي لا أتصور أن أكتبه قريباً لوجود مشاغل كثيرة- سوف أتناول فيه تطور قواعد سيرة المسلمين، ودور فكرتي الإمامة والملكية في هذا التطور والحراك الزمني.

 ولا بد من التنبيه على أننا في سياق رصد بعض مظاهر التطور والحراك لسيرة المسلمين لن نقتصر تراث نظرية الإمامة فقط، بل سنتعرض كذلك لنظرية الملكية، لكن ستكون نظرية الإمامة هي الأصل ونظرية الملكية المكملة لها، على اعتبار أن نظرية الإمامة هي المؤسس الحصري لسيرة المسلمين والمدافع عنها باستمرار، والملكية لم تتخذ منها موقفاً عدائياً على طول الخط-كما سنرى لاحقاً- مع وجود بعض حالات استثنائية في بعض الفترات فرضتها حالة الاشتباك القائم، ويرجع انتقاد كثير من الفقهاء للنظام الملكي على اعتبار أنه لا يلتزم التزاماً صارماً بسيرة المسلمين، وهذا أمر مرجعه فيما أرى لما لطبيعة النظام الملكي من اختلاف في جوهره عن نظام الإمامة، لكن ظلت الدول الملكية المختلفة في عُمان تلتزم باحترام سيرة المسلمين إجمالاً، مع تطبيقها لرؤيتها الخاصة في إدارة شؤون الدولة. 

ولذلك لا يمكن إهمال تراث الملكية في عُمان وشطبه من التاريخ بجرة قلم، فالتراث الملكي متأصل في التجربة السياسية العمانية، بدءاً من عهد النباهنة الذي امتد خمسة قرون مع بعض الانقطاع والضعف، وصولاً إلى عهد اليعاربة الذين ابتدأوا الدولة وفقاً لنظرية الإمامة، لكنها لم تلبث إلا أن تحولت في جوهرها إلى دولة ملكية وإن حمل قادتها لقب إمام، وكذلك الحال بالنسبة لدولة البوسعيد التي قامت هي الأخرى في بدايتها وفقاً لنظرية الإمامة، ثم تحولت إلى ملكية وراثية، ولم يعد قادتها يحملون لقب إمام، بل صاروا يحملون لقب سُلطان، وكذلك فإن التجربة الإباضية بالجزائر وبلاد المغرب ممثلة في الدولة الرستمية كانت تقوم على نظام أقرب ما يكون إلى النظام الملكي الوراثي، الذي يحمل فيه الحاكم لقب إمام، وكان العلماء في الدولة يختارون “الإمام” من أحد أبناء بيت عبد الرحمن بن رستم، وهذه الدولة لقيت الاحترام والتقدير من كافة فقهاء الإباضية بالمشرق والمغرب.        

 

 


[1] حسين غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث،  ط3، دار الفارابي، لبنان، 1999م، ص20.

[2] حسين غباش، المرجع السابق، ص23.

[3] هذا المصطلح طرحه ابن بركة، وطرح غيره مصطلح علماء المسلمين أو أهل العدل أو أهل العلم، وذلك للدلالة على المجموعة التي تتولى عملية تأسيس الشرعية للإمام وانتخابه، ويمثل الفقهاء كل أعضاء هذه الهيئة، فهم الذين يتولون نصب الإمام وعزله، ويمثلون في الوقت ذاته معظم أركان النظام القضائي، ويتكون من الفقهاء الكبار ذوي النفوذ الاجتماعي والعلمي، وللعلم فإن الوثائق المتوافرة المنقولة عن الأئمة والفقهاء إلى القرن الخامس لا تستعمل مصطلح (أهل الحل والعقد) والذي سيستعمل في مراحل لاحقة. انظر: محمد بن إبراهيم الكندي، بيان الشرع، ج68، ص226-231.

[4] كان التسمية السائدة والمعتمدة لدى المجموعة السياسية التي كونها التابعي جابر بن زيد هي جماعة المسلمين أو أهل الدعوة، ولم يستعملوا في المراحل المتقدمة مصطلح الإباضية إلا نادراً، واعتماد هذه التسمية لأنه الاسم الذي ارتضاه لعباده الذين يشهدون له بالوحدانية عبر التاريخ، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 128.

[5] هو المختار بن عوف السليمي الأزدي، من مدينة صُحار  بعُمان.

[6] السير والجوابات لعلماء وأئمة عُمان، تحقيق وشرح: سيدة إسماعيل كاشف، ج2، ط وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان، 1406هـ/1986م،  ص321.

[7] عمر بن محمد القدمي، كتاب العمال، ص9.

[8] الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ط دار المعارف، القاهرة، ص268-269.

[9] عبد الله السالمي، تحفة الأعيان، ج1، الناشر: زاهر وزهير ابنا حمد بن عبد الله السالمي، سلطنة عمان، 1993م، ص114.

[10] عبد الله السالمي، مرجع سابق، ص114-115.

[11] السير والجوابات لعلماء وأئمة عُمان، ج1،  ص230.

[12] السير والجوابات لعلماء وأئمة عُمان، ج2،  ص37.

[13] السير والجوابات لعلماء وأئمة عُمان، ج2،  ص252.

[14] المرجع السابق، ج2، ص 224.

[15] المرجع السابق، ج2، ص 227.

[16] المرجع السابق، ج2، ص 233.

[17] المرجع السابق، ج2، ص 233-234.

[18] المرجع السابق، ج2، ص 258.

[19] في اصطلاح فقهاء الإباضية يعنون بالكفر في العمليات هو كفر النعمة أو المعبر به عند غيرهم بكفر دون كفر.

[20] قال السالمي : (ووجد بخط الشيخ أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان مكتوبا في بعض الكتب أنه عن أبي عبدالله محمد بن محبوب) اهـ وهذا يدل على أنه قد جرت أعراف الحكم أن يتولى أكبر العلماء كتابة أحكام الإمام وعهوده إلى ولاته، ومحمد بن محبوب كان أكبر العلماء في زمانه.

[21] انظر نص العهد: عبد الله السالمي، تحفة الأعيان، ج1.

[22] الصلت بن خميس الخروصي، كتاب الأحداث والصفات، تحقيق: جاسم ياسين محمد الدرويش، ط 1، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان، 1417هـ/1996م، ص61-62.

[23] الصلت بن خميس الخروصي، مرجع سابق، ص52.

[24] الصلت بن خميس الخروصي، مرجع سابق، ص64.

[25] على سبيل المثال يحسب الإمام راشد بن علي على المدرسة النزوانية، في حين أن الإمام محمد بن أبي غسان كان محسوباً على المدرسة الرستاقية.

العدد السابع عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي