التضليل بين جريان الشمس و دوران الأرض !

ان القول بأن الأرض تدور حول نفسها و تدور حول الشمس شيء و نكران جريان الشمس شيء آخر. المسألتان مختلفتان تماما. فالقول بجريان الشمس دل عليه الكتاب العزيز و لا شك ان تكذيب القران كفر. و علم الفلك الحديث قد كشف لنا انها تجري أي الشمس بسرعة370 كيلومترفي الثانية في مدار حول مركز مجرتنا درب التبانة (التي نظامنا الشمسي جزء منها) حيث تشير الحسابات انها تكمل دورة واحدة كل 250 مليون سنة تقريبا. لذا نصح طالب حديث في موقع معروف على الانترنت طلبة العلم الشرعي و سائر المسلمين بقوله:

 


الارض كما بدت من مدار القمر

“إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم”

الغزالي في إحياء علوم الدين

 

محمد عبدالله العليان

“و انت اضن انك ليس لك علم الا ما تعلمة الي في الجامعات الامريكية فرجع الي الدين او السنة ستعرف انه لا يوجد هته العلوم اصلا وشكرا” هذا ما كتبه احدهم تعقيبا على مقالي في مجلة الفلق (تأملات علمية في ذكرى جونو) عن أنظمة الطقس المتحركة في شمال المحيط الهندي الذي بينت فيه أن الأعاصير مثل  إعصار جونو هي جزء من نظام الطقس هذا المعروف. هل في هذا شيء يخالف الدين او السنة؟ أم ان ما يريد ان يقوله كاتب الاقتباس الآنف  ليس هو إنكار دراسة السنن الكونية التي وضعها الله ( بما في ذلك سنن الطقس) و إنما يريد ان يقول ان  ظواهر الطقس هذه هي عذاب للابتعاد عن الدين و السنة؟ اسمحوا لي ان أقول ان هذا الادعاء يرقى إلى الادعاء بالعلم بما في نفس الله ” تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ” (المائدة:116 ). و  إذا كان الأمر مثل ما قال المعلق ان “الأعاصير ظاهرة قديمة في بلاد الكفار لكنها حديثة في البلاد العربية” بزعمه  فماذا نستفيد من قوله تعالى: ” وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)؟ لكن حيث أن الأعاصير و الفيضانات تسبب الضر فانه لا بد لنا في مثل هذه الأحوال و في كل حال من التوبة و الاستغفار و التوجه إلى الله الذي لا يكشف الضر الا هو. فلا ينافي هذا هذا.

و هذا النوع من تجاوز الحد في الدعوى نراه أيضا عندما خاض علماء شريعة و طلبة علوم شرعية في مسائل لا إلمام لهم بها مثل قولهم ببطلان الكلام في الاكتشافات الفلكية بل القول بكفر من قال بدوران الأرض حول نفسها و دورانها حول الشمس. بل إن عالما جليلا – رحمه الله – كاد ان يكفر من قال بكروية الأرض لولا تدخل الشيخ الزنداني متعنا الله به. و كروية الأرض أمر لم يعد مبني على حدسية هندسية و إنما أمر تمت ملاحظته تجريبيا في ستينيات القرن العشرين و الصورة المرفقة لهذا المقال تكشف ذلك (1).

ان الفاضل عبدالله الدويش في كتيب له بعنوان (المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال) ص: 196-198، يقصد تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب رحمه الله، يشنع على سيد قطب لقوله ” لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار” حيث يقول “يقال هذا القول بناء منه على أن الشمس ثابتة ومعلوم أن هذا القول باطل بل كفر لأن الله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}(يس/38)”. لاحظ الخلط الواضح بين قوله و قول سيد قطب. هل في كلام سيد قطب إنكار جريان الشمس؟ كما نرى هذا الخلط في كتب مثل كتاب الشيخ التويجري رحمه الله (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة) و الهيئة الجديدة هي علم الفلك الحديث.  لذلك لا نستغرب ما قاله احدهم في منتدى الكتروني ان تجربة عالمين قد أثبتت بطلان دوران الأرض! حيث يقول:

” بلا تخطيط مسبق وبحسن نية قام عالمان مختلفان في الغرب بتجربة لقياس تأثير حركة الأرض السريعة في الفضاء على الأثير المحيط بالأرض والذي تنتقل فيه موجات الإذاعة والتلفاز قاما بتجربة بسيطة بجهاز حساس للغاية بقياس حركة الإثير مع اتجاه دوران الأرض ثم عكس الاتجاه وتوقعا أن الاختلاف هو دليل دوران الأرض لكن لم يوجد اختلاف إطلاقا!!!حتى جاء يهودي ألماني وأنقذ ماء الوجه بأن قال: لا يوجد شيء اسمه أثير أساسا فأريحوا أنفسكم.و هو أينشتين وتمت مكافأته على ذلك بجائزة نوبل والشهرة والأموال والسفر للحياة بأمريكا لكن تكرر نفس الحرج مع تجارب أخرى.

و هو قول باطل فان تجربة Michelson–Morley ميكلسون- مورلي التي أجريت لأول مرة عام 1887 كانت أول إثبات جلي على بطلان نظرية الأثير و ليس بطلان دوران الأرض! فلو كان هناك أثير حقا لوجدنا أثره على سرعة الضوء من اتجاهات مختلفة و في أوقات مختلفة جراء دوران الأرض (إذ كان يعتقد حينها ان الأثير المزعوم  هو الوسط الذي يسير فيه الضوء قياسا على ان الهواء هو الوسط الذي تسير فيه موجات الصوت). لكن لم يظهر هذا الأثر قط حتى في كل التجارب اللاحقة الأكثر دقة (1). كما أن هذا الاكتشاف مهد لقبول احد فرضيات نظرية النسبية لاينشتاين  و هي فرضية ثبات سرعة الضوء . كما أن اينشتاين  قد منح جائزة نوبل في الفيزياء نظير كشوفه عن المفعول الكهرضؤئي photoelectric effect ( و ليس لأن اينشتاين أنقذهم بالقول ليس هناك أثير فكافئوه بالجائزة و الأموال و السفر للحياة في أمريكا!). ان قضية الدين لا يمكن خدمتها بتحريف الحقائق و الكذب على اينشتاين و لجنة جائزة نوبل. بل ان هذا ضد صميم الرسالة المحمدية : ” و اصدقوا إذا حدثتم.” و الله يقول ” وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى” (المائدة: 8).

و قد وقع في هذا الخطأ، أي الخلط بين جريان الشمس و دوران الأرض  علماء شريعة أجلاء نعلم نصحهم لله و كتابه و رسوله و المسلمين حتى قال عالم منهم في فتوى ببرنامج إذاعي مشهور: ” أنه يجب علينا في هذه المسألة أن نؤمن بأن الشمس تدور على الأرض وأن اختلاف الليل والنهار ليس بسبب دوران الأرض ولكنه بسبب دوران الشمس حول الأرض.”

ان القول بأن الأرض تدور حول نفسها و تدور حول الشمس شيء و نكران جريان الشمس شيء آخر. المسألتان مختلفتان تماما. فالقول بجريان الشمس دل عليه الكتاب العزيز و لا شك ان تكذيب القران كفر. و علم الفلك الحديث قد كشف لنا انها تجري أي الشمس بسرعة370 كيلومترفي الثانية في مدار حول مركز مجرتنا درب التبانة (التي نظامنا الشمسي جزء منها) حيث تشير الحسابات انها تكمل دورة واحدة كل 250 مليون سنة تقريبا. لذا نصح طالب حديث في موقع معروف على الانترنت طلبة العلم الشرعي و سائر المسلمين بقوله:

و المخطئون في التأويل بالطبع مأجورون لكن العيب أن نعتبر تأويلاتهم الظنية قطعية ونتخذها دينا نعادي ونوالي عليه وربما ضللنا من لم يقبل تأويلهم فنجعل أعداء القرآن يسخرون منا ومن ديننا ومن علمائنا. كما حدث معي في حوار مع أخ قال لي الزنداني ضال ومن أسباب ضلاله قوله بأن الأرض تدور حول نفسها وتدور في فلكها حول الشمس وهذا مخالف للقرآن حسب زعمه... فاتقوا الله في دينكم واتقوا الله في قرآنكم واتقوا الله في علمائكم ولا تكونوا سببا في كفر شريحة من بني جلدنا بكتاب ربنا.”

و قد سبقه إلى ذلك الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله بأجمل ما قرأته في هذه المسألة إذ يقول في كتابه (تهافت الفلاسفة):

” ليعلم أن الخلاف بينهم ( أي الفلاسفة) وبين غيرهم ثلاثة أقسام (…) القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. و هو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل.فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ( ان الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة) ، فكيف يلائم هذا ما قالوه؟ قلنا: وليس في هذا ما يناقض ما قالوه ، إذ ليس فيه إلا نفى وقوع الكسوف لموت أحد أو لحياته و الأمر بالصلاة عنده. و الشرع الذي يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟ فان قيل: فقد روُى انه قال في آخر الحديث: ( ولكن الله إذا تجلىّ لشيء خضع له) فيدلّ على ان الكسوف خضوع بسبب التجلي، قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها فيجب تكذيب ناقلها، و إنما المروى ما ذكرناه كيف ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد.  وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان شرط أمثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه إلى البحث الالهىّ كنسبة النظر إلى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت.الثالث: ما يتعلق النزاع فيه بأصل من أصول الدين، كالقول في حدوث العالم، وصفات الصانع، وبيان حشر الأجساد و الأبدان، وقد أنكروا جميع ذلك. فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه”.

فيلم الغزالي كيميائي السعادة

الفيلم الوثائقي ( الغزالي: كيميائي السعادة )

لذا ليس بمستغرب ان أجد في الكتاب الأخير لعالم الرياضيات و أستاذ الفلسفة المعروف ديفيد برلنسكي (ضلالة الشيطان: الإلحاد و ذرائعه العلمية)(2) انه يستشهد بمقولات هذا المفكر الإسلامي العميق في معرض رده على مذهب الطبيعية  الذي يتولى كبر الدعوة إليه حاليا البريطاني الشهير ريتشارد دوكنز أستاذ علم الحيوان في جامعة أكسفورد (3).

وهذا يقودني إلى الحديث عن فيلم وثائقي هو فيلم (الغزالي: كيميائي السعادة) لمخرج الوثائقيات المعروف الأمريكي المسلم (افيديو سالازار) الذي يصنع أفلاما وثائقية منذ عشرين سنة حيث أنتج للبي بي سي السلسلة الوثائقية (وجوه الإسلام) و صور أفلاما وثائقية عن الحج بثت إحداها قناة الجمعية الجغرافية الامريكية. يقول سالازار عن فيلمه (الغزالي: كيميائي السعادة):” لا يوثق الفيلم حياة الغزالي و نضوجه الروحي و الفكري فحسب. لقد عاش الغزالي في زمن جيشان هائل، و مع ما نشاهده حاليا من اعتناق فئة من المسلمين الرعب، نرى ان هناك تشابها كبيرا مع الوقت الذي عاش فيه. لذا فالمسائل التي انكب عليها الغزالي لا تختلف عن المسائل التي يواجها كل السالكين إلى الله و كل طالب للحق. و ان الأجوبة التي ساقها (حينئذ) ما زالت مناسبة اليوم.” ففي وقته،كما يشير احد الباحثين، اشتد الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة وانتشرت آراء الباطنية و أقوال إخوان الصفا و جادل المتفلسفة أهل الدين و ظهر أمر التصوف.

يستكشف الفيلم الوثائقي كيف قادت الغزالي أزمته الروحية التي فصلها في كتابه (المنقذ من الضلال) إلى الله و اليقين ليس فقط عن طريق البديهة و الحدس ( اللذان يشير إليهما بالنور و الفراسة)  و لكن أيضا عن طريق ما يسمى حاليا بالخبرة الذاتية التي يشير إليها بالذوق و الحال و تبدل الصفات.

لذا يؤكد الفيلم ان  طريقته في تزكية النفس تغلبت على أخطار شراك التدين، في وقته، التي لا يسهل إدراكها. و هي الشراك نفسها التي لا يسهل إدراكها في وقتنا الحاضر التي أدت بأحداث أسنان إلى الكراهية و التبديع و التضليل و التكفير و في النهاية أدت بطائفة إلى استحلال الدماء المعصومة (و حاشا الله و رسوله من الحزبية و الزعارة فضلا عن قتل النفس بغير حق). وكما يقول الفيلم لقد تم التخلي عن مسار الغزالي إلى مسار اكثر حدة و اقل سماحة. و قد عانيت أنا شخصيا كاتب هذه السطور من هذه الحدة و قلة السماحة في مسجدي زهاء عشرين سنة من قبل أشخاص نسبوا أنفسهم  إلى الأثر ( و هي دعوى لا يعلم مدى تطابقها الا الله و مثل ما قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره ليس العلم بالشيء يعني الاتصاف به) حيث عملوا خلال هذه السنين على تفريق الشباب عن الجلوس معي في المسجد في حلقة قراءة الحديث من كتاب رياض الصالحين! و المتأمل يرى انه لا يمكن إسقاط  الأفكار المقولبة من الاصطلاحات على الناس بدون تفصيل و هي واحدة من اخطأ التفكير الكبرى التي وقع فيها أخواننا هؤلاء (4) بل هي نتاج  نزعة أمعية نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ” لا يكونن أحدكم إمعة”. ان هذا الفيلم يحاجج بان طريقة الغزالي في السلوك الإسلامي هي ترياق للعجب بالنفس و الجفاء و اليبس و الزعارة و الهول و الفظاعة والترويع الذي نراه هذه الأيام  و ما يرافق ذلك من عنف فكري و نفسي إلى حد الاختناق الروحي .

 

من هو الغزالي؟  و قبل ان أجيب أريد ان أقول ان تثمين الرجل و انجازه الروحي و الفكري لا يعني موافقته على كل ما قال أو عدم اعتبار قلة علمه بالحديث لكن كما قال أهل الاجتهاد فإن الرجل اجتهد فأصاب واخطأ، فكل يؤخذ منه و يرد الا رسول الله، و لا يستدعي خطأه مثل التشنيع و الازدراء اللذان نراهما ممن ينسبون انفسهم إلى الأثر بسبب صدقه و إخلاصه و نصحه لله و كتابه و رسوله و المسلمين.  فقراءة متأنية للاقتباس أعلاه من كتابه (تهافت الفلاسفة)، على سبيل المثال، تقدح في النفس ليس فقط انه من أكابر الأذكياء و لكن من أعمق الذابين عن الوحي. كما لا يستدعي كلامه عن الذوق كل الحط من القدر الذي رأيته في كتيب لأحد طلبة علم الحديث. إذ ان كلام هذا العبقري يدور حول الحالة التي تسمى بالخبرة الذاتية – كما قلت آنفا – و قد أشار إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا و رسولا”. او قوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان الحديث. فلماذا التشنيع بسبب القول ان من دلائل الحق انه يخبر خبرة ذاتية او القول ان خبرة الحق خبرة ذاتية قد تفضي إلى حالات الوعي المتغير و قد أشار إليها صلى الله عليه وسلم في قوله عن رب العزة: ” و ما زال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها”؟ (وليس المعنى  أن الله هو سمعه ، وأن الله هو بصره ، وأن الله هو يده ورجله تعالى الله العالي على جميع خلقه). فلماذا التشنيع بسبب الألفاظ و الاصطلاحات بدلا من النظر في المعنى؟

ولد الغزالي  عام1058 مفي طوس من أعمال خراسان (إيران حاليا)  لغزال (تشديد الزاء) فقير حيث بدأ تعليمه بحفظ كتاب الله العزيز. ثم انتقل إلى نيسابور حيث تلقى الشريعة عن الإمام الجويني ( إمام الحرمين). يعد من اكثر المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية  إبداعا و أعظم مفكري الحضارة الإسلامية و مؤسس علم النفس الإسلامي بلا منازع. و بالإضافة إلى تأثيره الرئيسي في العالم الإسلامي فان أثره قد بلغ الغرب كذلك. فقد اثر في فلاسفة القرون الوسطى مثل توما الاكويني (فيلسوف نصراني ) و بن ميمون (فيلسوف يهودي أندلسي)، و غيرهما. في حين يؤكد الفيلسوف البريطاني (جورج لويس) و باحثون غربيون أثره الواضح على ديكارت خاصة رسالة ديكارت الرئيسية (مقالة في طريقة التفكير العقلي الصحيح و طلب الحقيقة في العلوم)(5).كما يشير (وليم كريج) في مقال نشرته دورية فلسفة العلم البريطانية عام 1979 أن الفيلسوف الألماني (كانت) اخذ بالجزء الثاني من حجته في إبطال أزلية الماضي (6). بل ما زلنا نشعر بأثره حيث وجدت ، على سبيل المثال، الكتب التالية و المقالات عن أفكاره في منشورات غربية:

* (علم النفس عند الغزالي) في دورية الدين و الصحة ( Journal of Religion & Health).

* (نظرية الغضب و السيطرة عليه: تحليل تاريخي) في دورة علم النفس الأمريكية

The American Journal of Psychology)).

* كتاب Al-Ghazali’s Philosophical Theology  (أصول الاعتقاد الفلسفية عند الغزالي) للبروفسور Frank Griffel  أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ييل  الأمريكية (تاريخ النشر: 2010).

كما أعلنت كل من جامعة (ييل) و جامعة (أوهايو ستيت) اللتان تعدان من كبريات الجامعات الأمريكية أعلنتا عن تنظيم ندوتين عن الغزالي بمناسبة الذكرى المئوية التاسعة لوفاته و ستركز الندوة التي تنظمها ييل في 9-10 ديسمبر القادم على اثر الغزالي على الفكر الإسلامي المعاصر .

ألف الغزالي في حياته القصيرة (1058م– 1111م) عديد الكتب في موضوعات تمتد من العقيدة و الأخلاق إلى ما فوق الفيزياء و الفلسفة في زمن، كما أسلفت، جاشت فيه الفتن فسمي بحجة الإسلام. و كان رحمه الله مستعدا للتخلي عن كل شيء، المال و الجاه و العيش الرغيد، في سبيل الوصول إلى الحق. لذا يقر مؤرخون و علماء انه كان لنحو ألف سنة تقريبا مصدر الهام لتزكية النفس و السلوك إلى الله.

من مؤلفاته المهمة في الشريعة و السلوك : إحياء علوم الدين ،بداية الهدايه،  المنقذ من الضلال، و (كيمياء السعادة) الذي اخذ منه عنوان الفيلم الوثائقي و هو مختصر للإحياء كتبه بالفارسية يجيب فيه الغزالي من بين ما يجيب فيه على شبهات من اسماهم (أهل الإباحة) و هم عنده “الذين ضلوا عن طريق التصوف”  حتى قال قائلهم ” إني بلغت مبلغا ترقيت فيه عن الحاجة إلى العبادة!” و الذين خاضوا في علم الفلسفة حتى قال قائلهم ” و لكني قرأت علم الفلسفة و أدركت حقيقة النبوة و ان حاصلها يرجع إلى الحكمة و المصلحة و ان المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق و تقييدهم عن التقاتل و التنازع و الاسترسال في الشهوات فما أنا من العوام الجهال حتى ادخل في حجز التكليف !” و من مؤلفاته المهمة في العقيدة والفلسفة) :تهافت الفلاسفة) الذي يعد باتفاق أهم عمل في (نظرية المعرفة) الإسلامية epistemologyIslamic ، و الكتاب الذي أنهى فتنة الفلسفة المادية في العالم الإسلامي لمدة ألف سنة ،(الاقتصاد في الاعتقاد(، إلجام العوام عن علم الكلام، فضائح الباطنية، القسطاس المستقيم ، (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) الذي يبين فيه من بين ما يبين فيه ” فساد رأي من يسارع إلى التكفير في كل من يخالف مذهبه”.

و اختم هذا المقال بقول الغزالي في ( المنقذ من الضلال ) في من يرد العلوم الرياضية والتجريبية من المسلمين: ” و لقد عظمت على الدين جناية من ظن ان الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم و ليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي و الإثبات و لا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية”… ” و أصل جملتها أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى لا تعمل بنفسها بل هي مستعملة من جهة فاطرها. و الشمس و القمر و النجوم و الطبائع مسخرات بأمره لا تعمل بنفسها بل لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

 (1) تسبح الأرض في فلكها بسرعة 108 ألف كيلومتر في الساعة أي جزء واحد من مئة جزء من واحد بالمائة من سرعة الضوء مما يبين مطلب الدقة في التجهيزات التي أبطلت نظرية الأثير. اقرب إشارة إلى دوران الأرض قوله تعالى: ” وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (يس:38-40 ) كل: النهار، الليل، القمر، الشمس. أي الليل و النهار أيضا في فلك يسبحان كما يسبح القمر و تسبح الشمس. طبعا الليل و النهار المشار إليهما في الآية العزيزة ظاهرة في كوكب الأرض. فمن حيث النصوص الشرعية لا مانع من القول بدوران الأرض حول محورها و دورانها حول الشمس.

(2) The Devil’s Delusion: Atheism and its Scientific Pretensions 

(3) يحاجج برلنسكي ( و هو يهودي علماني ) بـأن ليس هناك شيء في العلم الحديث science  ما يقوض الإيمان بالله. لذا فان الدعوى بأنه ينبغي فقط تصديق الدليل الطبيعي أو المشاهدة بالعين ليست في ذاتها دعوى تجريبية empirical (العلم بمفهومه الحديث science يقوم على نموذج تجريبي). أشار تعالى إلى هذه المغالطة في قوله العزيز: ” يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ” (النساء : 153). كما انه يؤكد،أي برلنسكي، في هذا الصدد ان جزء من أطروحات العلم الحديث صارت دوغماتية (أي عقيدة مؤكدة من غير بينة) كأنها دين جديد.

(4) الأفكار المقولبة – حسب علماء النفس و الباحثين في الاجتماع – هي صورة عقلية يشترك في حملها أفراد جماعة ما و تمثل رأيا مبسطا إلى حد الإفراط المشوه من شخص أو جماعة أو عرق أو قضية أو حادثة. أشار تعالى إلى هذه المغالطة الفكرية في قوله إخبارا عن قوم نوح “وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ.” (هود:27).

(5) Discourse on the Method of Rightly Conducting One’s Reason and of Seeking Truth in the Sciences

(6) Craig, William Lane (June 1979), “Whitrow and Popper on the Impossibility of an Infinite Past”, The British Journal for the Philosophy of Science

العدد السابع عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA