تنطلق هذه النظرية من مفهوم ان التطورات الاقتصادية العابرة للقارات والحدود الدولية لها انعكاساتها المباشرة والقوية سلبا او إيجابا على علاقات المجتمع المدني او الدولة مع مجتمعات او دول أخرى ومكانتها في السياسة بين الأمم , فالحياة الإنسانية آخذة في التأثر أكثر فأكثر بأحداث ينبع أصلها من الخارج – أي – ان للعولمة الاقتصادية تأثير وانعكاسات خطيرة على الدول والمجتمعات تتجاوز خطورة العولمة السياسية , وكما ان القوة الاقتصادية لبعض الدول تولد الحقد والكراهية لدى دول ومجتمعات أخرى , فكذلك تتأثر الدول سلبا بالأزمات الاقتصادية التي تصيب بعضها البعض.
وبالتالي فان العولمة بجميع أشكالها قضت على مفهوم الانعزالية الحضارية او التقوقع الإنساني والاجتماعي الداخلي , فلا يمكن ان ينشا مجتمع مدني يسعى للتطور ويقوم بعزل نفسه عن العولمة وتأثيراتها , والأصل انه لا يوجد مجتمع مدني لا يرتبط بروابط وعلاقات عابرة للحدود , ومن هنا برزت إشكالية الصراعات الأيديولوجية في الدول والأنظمة السياسية التقليدية قبل تحولها الى دول ذات طابع عالمي , او في تلك الدول التي تسعى الى التحديث والتحول الى المدنية الاجتماعية العالمية .
( ونتيجة لذلك تم تعميم نمط جديد من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية أدى الى تغيير بنية المجتمع المدني وبروز قوى اقتصادية واجتماعية جديدة , ولا يزال القسم الأكبر من مجتمعات العالم التي تعرضت لتحدي التغيير والتحول , ومنها العديد من المجتمعات العربية يعاني جراء ذلك إشكاليات في العلاقة مع نظمها السياسية , الأمر الذي كان باعثا للتنافرات وعدم الاستقرار ) .
خلاصة الأمر – ان العولمة العابرة للقارات هي المرافق الرئيسي للمجتمعات المدنية الحديثة , ولا يمكن بحال من الأحوال عزل أي مجتمع تقليدي يسعى للتحول لمجتمع مدني عن تأثيرات العولمة العابرة للحدود , فمن كان يفكر ان الممارسات المصرفية الطائشة في اقتصاد صغير مثل تايلند في العام 1997م سوف تؤدي الى انهيار الروبل الروسي , او ان القروض الكثيفة سوف تدرأ أزمة اقتصادية في البرازيل , او ان تدخل مصرف نيويورك الاحتياطي الاتحادي سيمنع انهيار شركة استثمارات مغامرة من إيذاء الاقتصاد الاميريكي , – او ان خلالا او أزمة في أسواق المال والعقارات في الولايات المتحدة الاميركية او أوربا سيؤثر في دولة صغيرة في قارة أسيا او أفريقيا
وفي هذا السياق يقول بول كندي في كتابه نشوء وسقوط القوى العظمى ( ان الفائض الكبير في الإنتاج الصناعي والزراعي خلق تخوفا واسع النطاق من عجز الأسواق المحلية على امتصاص هذه البضائع , وهذا ما أدى بالجماعات ذات المصالح بالضغط على الحكومة للمساعدة على التوجه نحو الخارج او على الأقل الإبقاء على فتح أسواق ما وراء البحار و فجاء التحريض على المحافظة على سياسة الباب المفتوح في الصين , وكذلك الاهتمام الجماهيري بجعل اميريكا القوة المهيمنة في اميريكا اللاتينية , ليمثل وجهين فقط لهذه العناية بتوسيع حصة البلد في التجارة العالمية ) .
وهنا نطرح السؤال التالي : ما هو الرابط الفلسفي والسيكولوجي بين نظرية الخوف في التنمية الاقتصادية , وتأثير ذلك سلبا على بناء المجتمع المدني واستقراره وتطوره في دولة ما ؟ وما دخل العولمة الاقتصادية في تحفيز نظرية الخوف الاقتصادية ودفع الأفراد الى الاتجاه نحو خرق القوانين او مواجهة أنظمتها السياسية ؟ وكيف يمكن ان تؤثر تلك النظرية على استقرار المجتمع المدني سلبا , مما قد يؤدي في نهاية المطاف الى انهيار المجتمع بأكمله ؟
ونقول : بانه حيثما حاز مجتمع ما اقتصادا قويا ومتوسعا , شعر الناس فيه بالأمن وبالإحساس بالرفاهية والرحابة وتوفر فرص العمل وإمكانية التطور والتقدم الى الأمام , وسيكون هذا المجتمع واثقا من نفسه , فهو مجتمع لا يسيطر الشك على أفراده , فالاقتصاد القوي يجعل الناس يحسون بالأمان الاجتماعي وبان الأمل موجود أمامهم , وأتصور ان الأمل هو شرط حيوي ومحفز قوي يدفع الناس لاحترام القانون من هذه الناحية .
أما حين يفقد الأمل فان الشك يبدأ بالتغلغل الى النفوس والأفكار والعقول , وحيث يتواجد الشك ينتشر الخوف والقلق , وبكل تأكيد فان الخوف والشعور بالقلق من الناحية الاقتصادية خصوصا من أهم أسباب التحايل على القوانين والسعي لاختراقها , بل ودافع لنزعة بعض الأفراد والمجتمعات الى العنف والفوضى بهدف تغيير الأنظمة والحكومات التي لم تستطع توفير الاطمئنان التنموي والاستقرار الاقتصادي , فالفرد منا حين يشعر بانه مهدد من الناحية المادية والمعيشية يبدأ بالبحث عن وسائل أخرى للوصول الى هدفه الذي حالت الظروف الاقتصادية او بعض القوانين دون الوصول إليه .
وهو ما يؤكده هارولد لاسكي في كتابه – الحرية في الدول الحديثة – في قوله : ( انه حين يبدأ اقتصاد المجتمع بالانكماش , حينئذ تكون الحرية في خطر , فالتقلصات الاقتصادية دائما تعني الخوف , والخوف يولد الشك باستمرار , – وهو ما يجعل أفراد المجتمع – أكثر استعدادا للسماع الى أصوات الجديدة – وخصوصا تلك التي تلامس آمالهم وتطلعاتهم – , وأنهم في الغالب يطالبون بتغييرات جديدة , وفي هذه الحالة لا تستطيع الدولة الاحتفاظ بسلطتها لذلك تلجا إما الى القمع الداخلي او الحرب مع الدول الأخرى )
هكذا نفهم ان ( هناك علاقة تناسب عكسية بين التنمية الاقتصادية والعنف – بشكل عام وخصوصا السياسي منه – , – أي – كلما تزايدت مظاهر الإصلاح الاقتصادي , انحسرت مظاهر العنف السياسي ومعدلاته , – بمعنى – ان العنف ينخفض في النظم السياسية التي تعتمد الحداثة والإصلاح نظرا لوجود مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية وسيطة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم , وتضبط ظاهرة الحراك الاجتماعي ) .
والحقيقة بانه لا يمكن التعامل مع الحراك الجماهيري الناتج كردة فعل على الظواهر الاقتصادية بنفس الطريقة التي يتم التعامل بها مع الظواهر السياسية , وذلك لاختلاف الأسباب الأيديولوجية والنفسية , فأنت في الحالة الأولى تتعامل مع دوافع لا تلامس الأفكار كما هو في الحالة الثانية , بل تتركز على مسالة البقاء الإنساني , وبالتالي ففي الحالة الأولى تدافع الجماهير عن بقاءها ضد النظام السياسي الذي لم يستطع توفير الثقة الاقتصادية والاستقرار المعيشي لمواطنيه , بينما تدافع الجماهير في الحالة الثانية عن حريتها , والحرية في الطبيعة تأتي بعد البقاء .
وعليه فان ثقافة العنف الناتجة عن حراك الجماهير في المسائل الاقتصادية , اخطر بكثير من الحراك الجماهيري الناتج عن التحولات والتطورات السياسية , وقد ساهم التواصل العالمي بين الأمم والشعوب فيما يطلق عليه بعولمة المعرفة على توسيع دائرة الثقافة السياسية والاقتصادية والقانونية للمجتمع المدني , كما أدت مسالة التمايز الاقتصادي والتجاري والفوارق الواسعة في دخل الفرد بين الداخل والداخل في المجتمع , والداخل والخارج بين الدول الى إذكاء ذلك الخوف بطابع الحقد والغل , وهو ما يضيف ثقلا جديدا على مسائل التنمية الاقتصادية , ويزيد من ضعف قدرة السلطة والنظام السياسي في ظل العولمة العابرة للحدود على احتواء دائرة العنف والاضطرابات الاقتصادية والسياسية , نتيجة ضربات العولمة وتوسع ثقافة الجماهير بحقوقها المدنية والسياسية والاقتصادية .
فالحركات السياسية الكبرى كالشيوعية والفاشية كما يقول ذلك – كارل بولانيي – نبعت جزئيا من ردود الفعل الشعبية على حالات انعدام المساواة التي رافقت حرية العمل التجاري , بيد ان ذلك لا يمكن ان يكون عاملا مهددا او مقوضا لسلطة الدولة او استقرار المجتمع في حال تم التعامل مع الأمر بكل عقلانية ورشد , فلا العولمة الاقتصادية ولا السعي لتأسيس مجتمع مدني يمكن ان يقلق الأنظمة السياسية المستنيرة , فهي تدرك ان كل ذلك – أي – العولمة وتأثيراتها والسعي لتأسيس المجتمعات المدنية هو من الحتميات الحضارية والضروريات المعاصرة لمواكبة التقدم الإنساني .
فلا يمكن بحال من الأحوال ان تدمر العولمة الاقتصادية العابرة للقارات دولة المؤسسات والقانون ومجتمعات ما بعد الحداثة , في حال كانت إستراتيجية الأنظمة السياسية الحاكمة فيها تهدف الى ان تكون وحدتها الأساسية المكونة للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي هي المدنية وليس الدولة السلطوية .
فالأنظمة السياسية والحكومات والدول( التي سوف تنجح في تجاوز التقسيم التقليدي الماضي للدول , والوصول الى توحيد المجال او الفضاء الثقافي والحضاري الذي يجمع بين شعوبها ويميزها , هي التي سوف تحظى بالمكانة الفضلى في تقسيم العمل العالمي المتزايد , وتضمن لنفسها أفضل الفرص لدفع عملية التنمية الحضارية في العقود القادمة من معايير المنافسة العالمية المنظورة )
فاستقرار الدولة والمجتمع الوطني رهن برسوخ مؤسسات ذلك المجتمع وخصوصا الاقتصادي منها , وثقافة هذا المجتمع الحديثة في الحياة الوطنية , ولا رسوخ لمؤسسات في ظل أنظمة سياسية لا تملك اقتصادا قويا ومتوسعا يشعر فيه الأفراد بالطمأنينة والأمن والاستقرار , فلا تساورهم المخاوف والشكوك من قدرة حكوماتهم على تحقيق أمالهم وتطلعاتهم المستقبلية , وخصوصا من الناحية الاقتصادية .
النتيجة النهائية هي : ان الخوف يولد الشك , وان الشك يولد عدم الثقة وفقدان الأمن والاستقرار النفسي والاجتماعي , ولا يمكن ان تتقدم التنمية الاقتصادية للدول في ظل شكوك أفراد المجتمع من قدرة النظام السياسي على توفير مساحة مقبولة إنسانيا من الأمن الوظيفي والاستقرار المعيشي , وعليه فان انتشار العنف والاضطرابات السياسية هي مرافق شبه طبيعي لمجتمع تنتشر بين أفراده تلك المخاوف الاقتصادية .