في ذكرى استشهاد الحسين : الخلط بين العلم بالغيب و الإعلام بالغيب

أما ما روي من أن السماء صارت تمطر دما أو ما يرفع حجر إلا و يوجد تحته دم ، أو ما يذبحون جزوراً إلا صار كله دماً فهذه كلها روايات ليس لها أسانيد صحيحة عندنا أهل السنة. و كذلك الروايات التي تقول إن نساء آل بيت النبي أخذن إلى الشام مسبيات فهي روايات لا أساس لها من الصحة .

لفت انتباهي في مقالة “الرؤية البشرية” للثورة الحسينية للكاتب صالح البلوشي في هذه المجلة الالكترونية و بعض من علق عليها الخلط الواضح بين علمه صلى الله عليه و سلم بالغيب و إعلامه كنبي يوحى إليه بالغيب. حيث ذهب الكاتب و بعض المعلقين إلى الاستشهاد بآيات من القران المجيد. لا شي جديد: المزيد من الالتباس كأن الذين يصدقون بان إخباره صلى الله عليه و سلم بأمور غيبية (و هو من دلائل نبؤته) لا عقل لهم. فكما قال أستاذ الفلسفة الأمريكي (دل راتزتش) في كتابه Nature, Design and Science (الطبيعة، القصد و العلم ) من انه إذا كان هناك خالق فلا يوجد مانع عقلي أو منطقي من أن يعرف خلقه بنفسه و مراده عن طريق اتصال، أي وحي (ص 55 طبعة 2001). و هي الحجة التي يشير إليها قوله تعالى في أول الآية 91 من سورة الأنعام ” وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ“. فلا يوجد مانع عقلي من أن يعلم الله نبيه بأمور غيبية عن طريق نوع من أنواع الوحي. لا يوجد مانع عقلي.

فعليه لا شك عندي كمسلم انه صلى الله عليه و سلم بشر و لا شك انه لا يعلم الغيب فلا يعلم الغيب في السموات و الأرض إلا الله. لكن قبل السخرية المبطنة من القائلين بان أحاديث الأخبار الغيبية من دلائل النبوة علينا أن نعرف أن الأمة طورت علما هو علم الحديث ضبط مسألة الرواية و قبولها. لذا – من ناحية مصادرنا نحن أهل السنة و على الأخوة الشيعة أن يتحدثوا عن أنفسهم إذ أني غير مطلع على مصادرهم – صح لدينا حديث واحد فقط (و ليس الكثير) من شواهد يقوي بعضها بعضا بعلمه صلى الله عليه و سلم بأن الحسين رضي الله يقتل عند شط الفرات. و الحديث هو (قام من عندي جبريل قبل ، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ) قال الألباني في السلسلة الصحيحة ( قلت : بالجملة فالحديث المذكور أعلاه و المترجم له صحيح بمجموع هذه الطرق و إن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف و لكنه ضعف يسير ، لاسيما و بعضها قد حسنه الهيثمي ، و الله أعلم) .

و أما ما روي من أن السماء صارت تمطر دما أو ما يرفع حجر إلا و يوجد تحته دم ، أو ما يذبحون جزوراً إلا صار كله دماً فهذه كلها روايات ليس لها أسانيد صحيحة عندنا أهل السنة. و كذلك الروايات التي تقول إن نساء آل بيت النبي أخذن إلى الشام مسبيات فهي روايات لا أساس لها من الصحة .

فإخباره صلى الله عليه و سلم بأمور ستحصل في المستقبل هذا من دلائل نبؤته و ليس قولا بأنه يعلم الغيب. الم يقل العبد الذي علمه الله علما من لدنه لموسى عليه الصلاة و السلام: ” و ما فعلته عن أمري” (الكهف: 9) . طبعا الماديون الذين يعتقدون أن المادة أو الطبيعة هي الحقيقة النهائية التي لا حقيقة وراءها يسخرون من الاستشهاد بالنص لأنهم حقيقة ينكرون الوحي رأسا. لكن كما أن اعتقادنا المسبق بالله و الوحي غير ملزم لهم فاعتقادهم المسبق بالطبيعية غير ملزم لنا كذلك. فمدار الإيمان إنما على الإيمان بالغيب: ” الم (1) ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5 ) (البقرة:1-5).

ما قبل الإدراك: جزء من ست و أربعين جزء من النبوة؟

لكن هناك نكتة علمية لطيفة لا بد من التعريج عليها تتعلق بالإدراك الاستباقي تحدث للناس بما فيهم غير المسلمين فما بالك بمقام النبوة و تتعلق هذه النكتة العلمية بالأحلام الإستباقية التي يدرسها احد فروع علم النفس و هو علم (الباراسايكولوجي) Parapsychology ، علم الظواهر النفسية الشاذة، التي تستعصي على التفسير المادي و تدخل ضمن ظاهرة ما قبل الإدراك precognition. و لكن أولا أحب أن أشير إلى أن النبوة لا تكتسب فإنما هي من الخالق يختار من يشاء من خلقه و أن النبي محمدا صلى الله عليه و سلم هو خاتمهم. و عليه فاني أرى أن الأحلام الإستباقية و هي احد ظواهر الوعي غير الموضعي داخله في قوله صلى الله عليه و سلم عن الرؤيا في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم ” رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة”. و يشرح ابن حجر ذلك بقوله ” إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء، وهو الإعلام لغةً، فعلى هذا فالمعنى أن الرؤيا خبر صادق من الله لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة نبأ صادق من الله لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر” ( فتح الباري12\363). أما القرطبي فنبه إلى أن إنكار رؤية المستقبل في الأحلام إنما جاء من قبل الماديين و الذين غالوا في القول بهيمنة العقل على النقل. فيقول ” ولا خلاف بين أهل الحق أن الرؤيا الصادقة حق وأنها من الله لا ينكرها إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة” (تفسير القرطبي9\124).و كما قلت يسمى العلم الحديث الأحلام التي ينكشف فيها أمر مستقبل بالأحلام الإستباقية precognitive dreams و الرؤيا منها أي رؤيا المؤمن و هي التي تقع كفلق الصبح حسب تعبير النبي صلى الله عليه و سلم. لأن الأحلام الإستباقية تقع للمسلم و غير المسلم.

و تعد ( لويسا راين) من مختبر الباراسايكولوجي في جامعة (ديوك) الأمريكية أول من جمع اكبر شهادات أحلام في العصر الحديث حيث جمعت و فهرست 7000 شهادة تنطوي على إدراك مسبق أو إدراك فوق حسي ESPو اغلب هذه الشهادات متعلقة بأحلام ذات طبيعة استباقية. أما عالم النفس الأمريكي (ديفيد رئباك) فقد خلص في دراسة له عن أحلام الطلاب إلى أن نحو 9 % من السكان تحصل لهم أحلام إستباقية .

و لعل أشهر حلم استباقي في الأدبيات الغربية هو حلم القس (جوزيف ليني) الذي رأي في منامه حادثة اغتيال الأمير الدوق (فرانسيس فرديناند) ولي عهد الإمبراطورية النمساوية في احد شوارع (سراييفو) و هي الحادثة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى عام 1914. فقد رأي القس الذي كان يوما أستاذا للأمير رأي الأمير يقتل في مكان مزدحم في سراييفو (حاليا عاصمة البوسنة و الهرسك) صباح 28 يونيو 1914. عندما أفاق القس من نومه أدرك أن اليوم هو صباح 28 يونيو فما هي إلا ساعات حتى جاءت برقية بنبأ اغتيال الأمير صباح ذلك اليوم على الوجه الذي رآه!

و أنا كاتب هذه السطور كانت تحصل لي رؤى استباقية تقع لاحقا كما رأيتها و ذلك خلال تلك الأيام التي كنت أمارس فيها ممارسات في السلوك الإسلامي وردت في صحيح السنة أو ما اسماه ابن قيم الجوزية في شرح منزلة العلم في كتابه (مدارج السالكين) ” بمدد الرياضة الشرعية النبوية المحمدية”. السلوك بالمعنى التراثي لا بالمعنى العلمي الحديث. و قد رأيت رؤيا و أنا صغير لم ابلغ التاسعة بعد و قد تحققت عام 1994! و الرؤيا المتعلقة بوفاة والدي وقعت بعد ثلاث سنوات. كما خبرت قوة الحدس (الفراسة) بسبب تلك الممارسات خبرة يستعصي علي شرحها. و قوة الحدس هذه هي مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : ” إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه” .و قد فصل ابن القيم تفسير هذه الظاهرة نفس – فوق طبيعية في منزلة الفراسة في كتابه مدارج السالكين حيث قال ” إنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثب على القلب كوثب الأسد على الفريسة” و أن سببها ” نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق بين الحق و الباطل و الصادق و الكاذب”. كما أن له شرحا جيدا لما اسماه العلم الخفي في منزلة العلم من الكتاب نفسه. و مما قاله الشوكاني في (الفتح الرباني) عن هذه الظاهرة نفس- فوق طبيعية:
” اعلم- وفقني الله وإياك- أن معنى التصوف المحمود هو الزهد في الدنيا، حتى يستوي عنده ذهبها وترابها، ثم الزهد فيما يصدر عن الناس من المدح والذم حتى يستوي عنده مدحهم وذمهم، ثم الاشتغال بذكر الله- سبحانه- وبالعبادة المقربة لله، فمن كان هكذا فهو الصوفي حقا، وعند ذلك يكون من أطباء القلوب فيداويها مما يمحو عنها الطواغيت الباطنية من الكبر، والحسد، والعجب، والرياء، وأمثال هذه الغرائز الشيطانية التي هي أخطر المعاصي، وأقبح الذنوب، ثم يفتح الله له أبوابا كان عنها محجوبا كغيره، لكنه لما أماط عن ظاهره وباطنه الذنوب الذي يصير بها قلبه وحواسه في ظلمة، بل يصير بها جميع ظاهره وباطنه في غشاوة صار جسدا صافيا عن شوب الكدر، مطهرا عن دنس الذنوب، فيبصر ويسمع ويفهم بحواس لا يحجبها عن حقائق الحق حاجب، ولا يحول بينها وبن درك الصواب حائل”.

و هذه منافع تتعلق بالوعي و هناك منافع نفسية و سلوكية.على سبيل المثال من فوائد قيام الليل النفسية انه يحسن المزاج كما جاء في قوله صلى الله عليه و سلم ” فأصبح نشيطا طيب النفس”. و من فوائده السلوكية انه يمنع المرء من اقتراف السيئات ” عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم و مقربة إلى ربكم و مكفرة للسيئات و منهاة عن الإثم “. بل إنه صلى الله عليه و سلم أشار بأمور تحصل بها الرؤيا الصالحة كالمحافظة على سنن الفطرة مثل قص الأظافر و تعود الصدق و تجنب الكذب فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ” إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا “.

و تبرز ظاهرة الأحلام الإستباقية الفجوة المعرفية (الأبستيمية) أو الفجوة التعليلية في التفسير المادي للوجود و هي أي الأحلام الإستباقية المطابقة للرؤيا التي تقع كفلق الصبح هي عندي دليل على وجوده سبحانه و تعالى و دليل على القدر و دليل على الوعي غير الموضعي. و الفجوة المعرفية هي الفجوة التي يعبر عنها العجز عن تفسير كيف أن الخبرة الواعية و هي شيء غير مادي تبرز من الدماغ و هو شيء مادي. بمعنى آخر كيف تبرز الخبرة الذاتية من العمليات الكهروكيماوية في الدماغ. و لم يتمكن أي عالم من تفسير كيف تظهر الخبرة الذاتية و لماذا لأنه بإمكاننا تصور كائن حي يستجيب للإشارات الخارجية و المنبهات بدون أن يكون واعيا بها.

لذا قد كتبت في مقالات سابقة أن الأحلام الاستباقية قد تكون مفيدة لدراسة ظاهرة الوعي. لكن للأسف فان أبحاث علم النفس و الطب النفسي عندنا نحن المسلمين حاليا تتبع ليس فقط أجندة غربية بل مفاهيم غربية كذلك. رغم إن هناك دعوات حاليا في الغرب نفسه خاصة في الولايات المتحدة إلى توسيع المفاهيم الحالية لتشمل مفاهيم غير غربية بغية مقاربة ظاهرة الوعي.

كلمة حق أريد بها باطل

رضي الله عن السبط الحسين ريحانة رسول الله و لا رضي عن قاتليه. و لم يعلمه الرسول بمقتله عند شط الفرات لأنه صلى الله عليه و سلم مات و الحسين ابن ست سنوات و بضعة أشهر و ليس لدينا – نحن أهل السنة – اثر صحيح بأنه اعلم بذلك أي الحسين و لو علم لم يكن علمه هذا بمانعه و هو المعدود من أشجع العرب أن يمضي فالتضحية لا تصادم العقل البتة.

و اختم بهذا الاقتباس من كتاب سماحة الشيخ احمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة (العقل بين جماح الطبع و ترويض الشرع) (ص 212-214 الطبعة الأولى):

” و كثيرا ما يتذرعون في رد أخبار النبي صلى الله عليه و سلم الغيبية بدعوى أن النبي صلى الله عليه لا يعلم الغيب و ما هذه إلا كلمة حق أريد بها باطل فالنبي صلى الله عليه و سلم لا ريب انه لم يكن يعلم الغيب الذي لم يطلعه الله تعالى عليه فهو من هذه الناحية كسائر البشر و لكن علينا أن لا ننسى انه رسول يوحى إليه و قد استثنى الله سبحانه و تعالى رسله إذ يظهرهم على ما شاء من غيبه الذي لم يظهر عليه غيرهم كما نص عليه قوله ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول) و قد حكى الله في كتابه عن النبيين من قبل أنهم اطلعوا على ما أظهرهم الله عليه من غيب فقد حكى عن يوسف قوله لصاحبي السجن ( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) و حكى عن المسيح عليه السلام قوله ( و أنبئكم بما تأكلون و تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين) فكيف يقصر مقام النبي صلى الله عليه و سلم عن مقام هؤلاء؟! على أن الرسالة كلها إنما هي صلة بين الشهادة و الغيب و قد أمرنا أول ما أمرنا بالإيمان بالغيب و هل يأتينا ذلك الغيب إلا من طريقه عليه أفضل الصلاة و السلام؟ على انه من البدهيات أن رد السنة إنما هو رد للقران لان القران هو أصلها فإنما أمرنا بإتباعه صلى الله عليه و سلم و طاعته بدلائل القران فأنى يكون أحد متبعا للقران و قد اعرض عما دعا إليه من إتباعه عليه أفضل الصلاة و السلام؟”. انتهى

مراجع مفيدة:

في عقيدة الماديين في نص القران: كتاب محمد عمارة (التفسير الماركسي للإسلام).

في القرآنيين: كتاب سماحة الشيخ احمد بن حمد الخليلي (العقل بين جماح الطبع و ترويض الشرع).

في إخباره صلى الله عليه و سلم بالغيب: كتاب الشيخ الزنداني ( الآيات البينات) .

في منزلة العقل في الإسلام و الأصول العقلية للفقهاء و أهل الحديث: كتاب الشيخ القرضاوي ( البابا والإسلام رد علمي على البابا بنديكت السادس عشر).

في الظواهر نفس ــ فوق طبيعية (باراسايكولوجي) : كتاب

Chris Carter, Parapsychology and the Skeptics, Paga books:2007

العدد العشرين ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA