رُباعيّة الخُسوف

الرُّباعيّة .. تحملُ أفكارا جميلة عن حياة الصّحراء ، تُنادي _على لسانِ غوما_ بالحُرِّيّة والانعتاق من الماديّات الّتي تشدُّ الإنسان للتّملُّك واللّهثِ وراء الماديّات.تعكس حيوات لأفراد مختلفين ، تبيِّن الجوانب الإنسانيّة، و طبيعة البشر.

الجانب الإنطباعي :

يقولُ أحد الدّارسين لأعمال الكوني … : “يُمارس الكوني في نصوصه لعبة المزاوجات فالمكان (خيالي – تجريدي  (والزمان (أسطوري_ واقعي) ، فيجعل الدُّخول إلى مرويّاتِهِ خياليّا وصعبا .. والخُروج منها انتزاعا وأشدُّ صعوبةً.”

[البِئر ..الواحة ..أخبار الطُّوفان الثّاني .. نداءُ الوقواق ]..عناوينُ الأجزاء الأربعة .. تحمل الأسباب الرّئيسة للأحداث المتتابِعة ،البِئر والجفاف الّذي طالهُ .. وما تتابع بعدها من أحداث هو ما حدا بالقبيلةِ للهجرة..إلى [ الواحةِ] الّتي حوت الكثير من الأحداث .. فهي المكان الّذي تأسّست عليهِ أحدث العمل الثّاني ، وفي الواحة انفجر النّبع .. فجاءت[أخبارُ الطُّوفان الثّاني] أمّا [نِداءُ الوقواق]…فهو نذيرُ موت غوما!

لا يلفت انتباه القارِئ ولا يشدّهُ إلّا ما يشغل ذِهنهُ .. وقد اكتنزت رُباعيّة الخُسوف بالكثير من الهواجِس المُشتركة  ، فثمّةُ قضايا تطرّقت لها الرُّباعيّة تجعل المرء يتدبّر أكثر كحياةِ العربيِّ البدويِّ في الرِّواية ، فهو يُضحِّي برغباتِهِ وتوجُّهاتِه لكي لا ينال منه القوم .. لا يُمكن أن يُخالِف العُرف وإلّا نالت منهُ الألسن ، وهجتهُ الشّاعِرات المتربِّصات. قلّةٌ هُم من استطاعوا خرق العُرف.. كـ آجار في ” نِداءِ الوقواق” الّذي خالف عُرف الصّحراء ، ولم يخضع لتقاليدهم فانتزع زوجهُ من حُضن قبيلتها ، وعاد بِها لـ صحرائِه الّتي لا يُمكنهُ البُعد عنها ، والعادة تقتضي أن يبقى بِها سنةً كامِلةً في مضارِب قبيلتها ، ومن ثمّ يرتحلون أنّى شاءوا ، ومع خرقهم للعادة إلّا أنّ المقرّبين من مُخترِق العُرف يستشعرون العار، فيختبئون عن العالم ، ويتستّرون عن أعين الفُضوليين ؛ لأنّ النّاس تتغامز وتتلامز، وفي عُرفِ الصّحراء إرضاءُ النّاسِ أمرا مُهمّا . كما أنّ الشّائِعات ، وانتشارِها كـ النّارِ في الهشيم ،والمُبالغات الّلاتي تُزاد للأحداث تعكس الحياة الرّتيبة والقاسية في الصّحراء .

وتطرّقت الرُّباعيّة كذلِك إلى توقيف نظرة الدِّين والحُكم على البشر وإنزالُ العُقوبات عليهم ، دونما اعتبارٍ للظُّروف المُصاحِبة ، لكأنّما خوِّل رجالُ الدِّينِ آلهة تسعى على الأرضِ ، يُقيمون حدود الله . إنّ المتمعِّن في فِكرة الوصاية الّتي أوضحتها الرِّواية يرى أنّ حال رِجال الدِّينِ في الرُّباعيّة هو إنعِكاسٌ حقيقيٌّ لواقِعنا المُعاش ، فرجالُ الدِّينِ في الرُّباعيّة بشرٌ مقنّعين… يُقيمون الحدّ دونما أخذٍ بالمُسبِّبات ، ويُطلِقون الأحكام عن جهالة ، فيُشيعون التّحقير ، ويُطعمون السُّذّج الأوراد دونما تدبُّر.. وتدليلا على ذلِك نسوق مثلا العذاب الّذي أنزله بورديللو_أحد جنود الاحتلال_ بـ آجار .. حينما سقاهُ الخُمرة رُغما عنه ، وأوهمهُ بأن من يقف أمامهُ هم الزُّنوج ليُطلق النّار بلا وعي على أُمِّه ، وهو الّذي رأى زوجتهِ تهوي بجسدها البض في النّار المتّقدة ، إلّا أنّ رجال الدِّين أشاعوا أنّهُ قاتِل أمّه.. دونما اعتبار لتلك الظُّروف، فـ أوثقوه بالشماتةِ والاحتقار ، وأرجؤوا كلّ ما يحدُث لهُ للعنةِ الأُم ، حتى ميتته الانتحاريّة.
الرُّباعيّة .. تحملُ أفكارا جميلة عن حياة الصّحراء ، تُنادي _على لسانِ غوما_ بالحُرِّيّة والانعتاق من الماديّات الّتي تشدُّ الإنسان للتّملُّك واللّهثِ وراء الماديّات.تعكس حيوات لأفراد مختلفين ، تبيِّن الجوانب الإنسانيّة، و طبيعة البشر. لا تجعل من البطل خُرافيّا خاليا من العيوب، بل تعكسهُ كإنسان يُخطئ ويُصيب ، من ذلِكَ رفضِه الصّلاة على أماستان أخيهِ المُنتحِر ، بدعوى أنّ الدِّين يُحرِّم ذلِك ، إلّا أنّهُ صلّى على الشّيخ خليل الّذي ماتَ مُنتحِرا ، من هُنا نستطيع الحُكم أنّ الكوني وفِّق في جعل البطل بشريّا غير معصوم.

الجانِب النّقدي :

 

بالعودةِ للرُّباعيّةِ واستنطاقِ زمنِ السّردِ فيها يتجلّى لنا أنّ الرُّباعيّة إنّما انبنت أحداثها على تقنيّة الاسترجاع أكثر من الاستباق ، فقد سُردت الأحداث في الرُّباعيّة بِخلافِ تسلسلِها المنطقِي الافتراضي ، بل جاءت كاستدعاءاتٍ للماضي تارةً وللأُسطورةِ أُخرى ؛ لكشف نتائِج ما كان على الحاضِر ، وقد كانت تِلك الاستدعاءات أو تقنيّة الاسترجاع في كثيرٍ من الأحيان نقلات زمنيّة رئيسة أجلت أسباب اِضطراب الحاضِر، ففي البِئرِ مثلا  تُفتتح الرِّواية بـ ( البارِحة مات أماستان …)، ومنها تأتي استدعاءات ما قبل موتِه ، وأسباب انتحارِه.
الإضمار تقنيّة زمنيّة تقتضي إسقاط فترة زمنيّة من زمن القصّة ، وعدم التّطرُّق لما جرى فيها من وقائِع عن طريق إلغاء الزّمن الميِّت في القصّة والقفز بالأحداث إلى الأمام ، وقد اعتمد الرّاوي على هذِه التّقنيّة كثيرا ، فاختزل الكثير من الأحداث ؛ إذ أنّ زمن الرِّواية ووقوع الأحداث كان طويلا ..يفوق العشر سنوات ، لذا كان الحذف الضِّمني حاضِرا بقوّة ، كما أنّ الإسراع في بعض الأحداث .. و عدم تسليط الضّوء عليها بالإسهاب كان واجِبا .. لكن في الوقتِ ذاتِه مع التّجاوزات الّتي عمد إليها الرّاوي ، والّتي اقتضتها مُدّة زمن الخبر .. مُقارنة بزمنِ الخِطاب فثمّة إبطاء في بعض الأحداث استدعتهُ أهميّة تِلك الأحداث حتّى أنّ زمن الخِطاب فيها فاق زمن الخبر ؛ وما ذلك إلّا استجلاءً لملامِح الموِقف ، واستبطانًا لذوات الفاعلين ، واستقراءً للأحداثِ..وقد تجلّى ذلِك في راوية الأقوال )الحوار).
ثمّة مُزاوجة في الرُّباعيّة حدّ التّماهي بين الزّمانِ والمكان .. ففي الأجزاء الأربعة يعمد الرّاوي للانتقالِ بالقارئ من مكانٍ لآخر .. ومن زمانٍ لآخر دون أن يشعر باختلالِ الزّمانِ والمكان .. ودون أن يُخل ذلِك أيضا بسيرورة الأحداث .. فالرّاوي هُنا عمد إلى إخلالٍ مُصطنع بالزّمانِ والمكان والّذي يدخل ضِمن الاستدعاءات الّتي تأتي في النّص بتقنيّة الاسترجاع الّذي أسّس لأحداث الحاضِر ويُنبئ بما يأتي في القادِم على مدارِ الرُّباعيّة.

وعند دراستنا السّريعة لمظاهِر الخِطاب والرّاوي ووجهة النّظر/ التّبئير نرى أنّ الرّاوي في الرُّباعيّة كان عليما في كثيرٍ من الأحيان لكأنّهُ إله .. يستنطق البواطِن ، ويستقرئ الأذهان .. وقد تجلّى ذلِك في شخصيّة البطل .. فالرّاوي مع غوما كان يرى من الخلف .. ويستقرئ الهواجِس والبواطِن لكأنّهُ الرّب ، أمّا مع بقيّة الشّخصيّات فكانت الرّؤية مُصاحِبة إذ أنّ الرّاوي مُلازِما للشّخصيّةِ ، فهو يروي ما يراهُ بحياديّةٍ تامّة ، ولا يفشي الخبايا ، ولا يسرّد ما تكنّهُ الأنفُس ،  يتحدّثُ وفق ما تعلمهُ الشّخصيّةُ الّتي يُسلِّط عليها الضّوء ، أي أنّه لا يذكر إلّا ما تراهُ الشّخصيّات بصريّا .. ولا يدخل لبواطِنها .. أو استنطاقِ خفاياها .. وهذِه التّقنيّة أعلت من شأنِ الشّخصيّة الفاعِلة الرّئيسة في الرُّباعيّة عملا بشرعِ الصّحراءِ وتمجيدها للأبطالِ.

عمد الّراوي في رُباعيّة الخُسوف إلى توظيف الأُسطورة بشكلٍ يجعل بناء بعض الأحداث قائم عليها ، إذ شكّلت الأُسطورة مادّة سرديّة استطاعت أن تثير التّشويق وشدّ القارِئ ، فالرُّباعيّة كانت مكتنزِة بالعجائِبي والخُرافي الّذي بنى عليهِ أبناء الصّحراء تصرّفاتهم ، وعلى أساسِهِ اتّخذوا بعض طقوسهم.
على الرُّغمِ من بساطة شخصيّات رُباعيّة الكوني إلّا أنّهُ لم يعمد إلى تجفيفِ اللُّغة ، بل عمد إلى تكثيفها على لسان الشّخصيّاتِ الفاعِلة ، وعلى مستوى السّرد .. فجاءت مُتناسِبة وبيئة الصّحراء ، موحية بطبيعةِ الأفراد… أي أنّهُ أعطى على المستوى اللّفظي كل شخصيّة وما يتناسِب ، فلُغة مهمدو السّاحِر ، اختلفت عن لُغة باتا المرأة الفاتِنة اللّعوب ، اختلفت عن لُغة آهر الّذي لا يرى أبعد من الحدث ، كما اختلفت عن لُغة رِجال الِّدين .. وأعيان القبيلة البُسطاء.. ولُغة غوما شيخُ القبيلة الحكيم.

العدد العشرين ثقافة وفكر

عن الكاتب

بدرية العامري

كاتبة عمانية