ناصر بن جاعد (1) … أسطورة أطلانطس

“الحمد لله الذي أوجد أجل وأشرف وأعلى وأفضل من كل ما أوجده … العقل” ناصر بن جاعد.

الإبداع يولد من رحم المعاناة، لا شك في ذلك ولكن أن يسيل نهر الإبداع مُصّاعدا في فلك العروج من محطة عظمى إلى محطة أعظم فإن ذلك لا يقرأ إلا في زبر الأولين في تاريخ داود وابنه سليمان الملك الأمين. ذات المشهد الإبداعي يتكرر مع جاعد بن خميس الخروصي حبر الزمان وأعلم أهل عمان وابنه ناصر بن أبي نبهان، الذي استطاع التوفيق فيما اختلف فيه ابن رشد والغزالي، ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري.

ليس بدعا أن يولد ناصر بن جاعد في بيت علم ومجد، ولكن البديع أن يولد والبيت يعيش حالة تحول وحرب، وكفى بالحرب ومعاناتها صاقلا لمعدن الإنسان، ومختبرا لتجارب العقل، وميداناً لتقلبات الوجدان. وهل ولد النبي موسى إلا في كنف تذبيح فرعون لأبناء الإسرائيليين، وألم يولد النبي محمد في عام الهجوم الكبير على البيت العتيق، عام الفيل والطير الأبابيل وحجارة السجيل.

من السهل جداً أن يتوارى الصغار أمام عظمة الأب الكبير، خاصة حين يكون هذا الأب بمثل حجم جاعد بن خميس الخروصي الذي يصفه البعض بأنه إمام الدين ومحي تراث المسلمين وباعث أمجاد الأولياء الصالحين، إن الأقزام يكفيهم التسلق على أكتاف مثل هذا العملاق ليراهم الناس نقاطاً صغيرة أو ربما لا يرونها بسبب ظله الهائل، أما شأن العظماء والمجددين النجباء فهم وإن ظهرت صورتهم في قعر مياه الأب العملاق المنسابة أنهار كارزميته، إلا أن تلك الصورة ليست سوى انعكاس لتألقهم كالنجوم في السماء وكالشموس في الفضاء. وهذا هو شأن ناصر بن جاعد الذي حلق بفكره عاليا حتى صعب على أصحاب الأعين الكليلة رؤيته، وأنى لهم، وقد عُدم ذاك الزمان وسائل إبصار النجوم والأفلاك العظيمة خارج دائرة المألوف.

ولما طم بحرُ معارف الابن، وفار تنور عرفانه، وفتحت أبواب السماء بعلمه المنهمر، وتفجرت أرض الفكر عيونا، فالتقى الإبداع على أمر قد قدر، إنه عهد جديد، وميلاد مجيد، وكل عظيم له مخاضه الأعظم، ومخاض بروز المجدّدين يستلزم تهيئة الأرواح، وقلب الصفحات، ومسح الألواح. هنا وقعت الواقعة، حيث النفس للقديم تعشق وبتراثه تتشبث وتعلق، هي تأنس العتيق لأنها ألفته، وتخاف من الجديد غير المجرب لأنها تجهله، وكان أثر ذلك على حراس هيكل الأرثذوكسية المنغلقة أدهى وأمر، فقرروا المقاطعة، ومن ورائها مؤامرة، ظلمات بعضها فوق بعض، حتى إذا أخرجت فكرة للابن يدها لم يكد الباحث يراها، إنها الرغبة الدفينة لدى سدنة الرجعية منذ ذلك العهد إلى هذا الأمد في طمر تراث الابن وجعله هباء بدد، ولكن هيهات هيهات فطائر الفينيق لا يموت احتراقا وإنما يتجدد، وهكذا هي الأفكار المخترقة لحجب المكان والمتجاوزة لأبعاد الزمان.

انفرد ناصر بن جاعد بآراء فلسفية وكلامية وفقهية غير مسبوقة في تاريخ الأمة جمعاء فضلا عن تاريخ عمان وفقهاءها، فهو أول فكك إيديولوجيا صدام الحضارات وأبطل أسباب صراع المذاهب، وأول من جعل الروح جزء من العقل، وأول من اعتبر العبادة التي خُلق الإنسان من أجلها هي العلم، وأول من اعتبر أن الإلهام الرباني ليس سوى إنتاج عقلي، وأول من قال بأن العقل معصوم، وأول من قال بأن العقل بيت الرب ومسجده، الشيخ ناصر ببساطة هو ابن رشد أهل البرهان وغزالي أهل العرفان وفراهيدي أهل البيان، إنه أسطورة عمان الضائعة، إنه أطلانطس التي حلم بها أفلاطون ولم يراها، وأضاعها العمانيون، فغاب عنهم ذكرها وسناها.

لقد كان ناصر بن جاعد شاهدا على عصر ابتدأ فيه الكهنوت بالتوسع على حساب النظر في الملكوت، لقد حاول جهده نفخ الروح في جسد أمة ابتدأت في التلاشي وفقدان الأطراف، كان شاهدا على المد السلفي الجارف، والمد الاستعماري الزاحف، لقد كان ناصر بن جاعد منارة علم اخطئتها سفائن طلبة العلم، فتحطمت عقولهم على صخور الخرافة والجمود والتخلف.

الأمة في تيهها الأكبر هذه الأيام حيث تباع الأفكار والذمم في سوق النخاسة السياسي، محتاجة إلى روح ناصر بن جاعد، اليوم وليس بعد اليوم، إن لم يبرز العمانيون هذا العلم الجبار فلن تبقى للأمة ديار، وستتحطم الأقلام وتتلاشى الأفكار، فلهذا شددنا العزم على قصر باع، وقلة متاع أن نركب الصعب، ونقدم ناصر بن جاعد الخروصي فخر عمان والعرب، في مقالات قصيرة من خلال دراسة كتابه الأوحد الذي اسخترجته أيدي القدر من براثن الإهمال والنسيان والقطيعة، إنه كتاب “إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك” الذي حققه الباحث العراقي الدكتور وليد محمود خالص، وطبعته هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، سنتعرض في الكتاب لبعض مما حواه من جواهر الأفكار التي لم تحتملها عقلية أهل زمانه التي لم تعتد الخروج من حواف الجمجمة بحسب تعبير معاوية الرواحي أو التفكير خارج الصندوق.

 

ملاحظة: ينشر بالتزامن مع ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان.

العدد الثاني والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. زكريا بن خليفة المحرمي

باحث وكاتب