الشحن لمرتين

يربطني بملحق جريدة الثلاثاء علاقة حميمة آسرة ، لهذا سعيتُ إلى المتجر ، عسى أن أحصل على نسخة مازالت تختزن حرارة رحم المطبعة .

أمام المتجر ظهر لي مشهد حركي بامتياز ، اثنان من العمال الأسيويين – معاول الخليج – يخرجان صناديق البضائع من سيارة نقل ، وفي المقابل رجل تتابع أقدامه نزولا من السلم الأسمنتي للمتجر ، يبدو أنه صاحب السيارة الوحيدة التي تقف بجانبي .

بعد خطوات برق أمام عيني شيء ما على الأرض ، أمعنتُ النظر إليه جيدا ، فإذا به بطاقة اتصالات ( شحن رصيد ) من فئة خمسة ريالات .

كانت البطاقة نظيفة جدا محتفظة بالغلاف البلاستيكي الشفاف اللامع ، كثمرة طازجة سَقَطت للتو .

واصلتُ سيري متجاهلا الأمر أو قل غير مكترث به تلك اللحظة .

أثناء صعودي للسلم ، إذ بصوت خفي يصدر من أعماق نفسي يقول لي …

هيه أنت .. ماذا دهاك ؟ أتترك بطاقة ثمينة بهذا المبلغ الكبير ؟ ، أنت أحق الناس بها لأنك أول من رآها . أنه رزق صباحي وهبه القدر لك ، لا تتردد في امتلاكها ، ألم يقل الحكيم إذا هبت رياحك فاغتنمها .

هيا ارجع الآن والتقط البطاقة .

أصغي إليّ جيدا ، تستطيع أن تجري بها اتصالات مهمة ، الأجمل في ذلك أنها مجانية .

لك أن تتصل بزميلك في العمل لتعزيته بوفاة قريبه بدلا من الذهاب إليه متجشما طريقا محفوف بالمخاطر في هذا الزمن المليء بالكوارث المرورية ، كذلك تطمئن على عمك طريح الفراش في تايلند ، بعدما خذلته مستشفياتكم ، قالوا هنا حموضة وهناك سرطان المعدة ! .

كذلك أذكرك الاتصال بالبلدية لمراجعة طلب كاسر السرعة أمام بيتك ، أدري أنه في كل مرة يدوي في أذنك صراخ كوابح سيارة ، تهرول نزقا باحثا عن أطفالك ، فأنت لا تأمن غدر المتهورين .

لا تنس مكتب الإسكان لمعرفة متى ستصل اللجنة المحلية لحصر أملاك ورثة أبيك المُتوفى ، منذ أكثر من سنتين والمعاملة تراوح مكانها ! .

طبعا سترد أن هاتفك على نظام الخط الثابت …

لا ضير .. من الممكن أن تهب الرصيد لمن تحب من أقاربك أو أصدقائك كصدقة جارية ، أليس هذا مرضيا ؟

إن أردت غير ذلك ، فهناك أمرا يمثل صلب اهتمامك ومنبع معارفك إنه الانترنت .

هي فرصة لتعوم ساعات طوال في بحره الخضم ، ابحث فيه كل ما يخطر ببالك ، تصفح المواقع الجادة ، نزل حمّل الكتب المفيدة ، فخدمة ( 3جي ) ستنقلك لعالم رحب . لا يخفى عليّ أن إرسال الشبكة يصل منزلك منهكا ، غير مستقر كميزان الحرارة ، والله أني أعلم أنه محرج لكم .

العالم في عصر وكالة ناسا التي أكرمت رجل البادية بمشاهد حية لمعالم الكوكب الأحمر وهو في عقر خيمته الوبرية ، وأنتم هنا لم تحسموا بعد جودة أجهزتكم الأرضية . أكاد أجزم أنك ستلهج بتلك العبارة العزائية ” يمشي الحال ” التي تشعركم بالرضا على مضض .

ما رأيك في ربيع عربي مختلف ، يكرس فوضاه الخلاقة لفك احتكار القطاع الخاص ؟

… لا تبتسم هذه ليست دعابة ! .

نعم تنبهتُ .. أحب المواقع إليك ( اليوتيوب ) لطالما رغبتَ في تنزيل مقاطع طويلة فأحجمت لكلفة الانترنت ، الآن فرصتك الماسية نزل ما تشاء فقد تم الدفع مسبقا ، نزل حلقات سؤال أهل الذكر التي فاتتك ، برامج الجزيرة المثيرة ، حلقات رياح التغيير لطارق السويدان ، محاضرات التنمية البشرية ، مشروع الحقيقة الذي يكشف المؤامرة العالمية .

الآن اهجُم على البطاقة .. لا تكن جبانا .. ما فاز باللذة إلا الجسور .

إذا أهملتها أتوقع ستكون من نصيب أحد العمال الأسيويين ، بصراحة أنت أولى بها ، ألست ابن الوطن ؟ .

سأعترف لك بحقيقة ، خلف هذا المتجر توجد حانة ، لعلها سقطت من شخص خرج مترنحا بعد ليلة صاخبة ، جزاءً وفاقا .

كن واقعيا … لو أن شخص شاهد هذه البطاقة قبلك لأخذها من أول لحظة ، ربما يكون شاب مراهق سيبدد الرصيد في مكالمات عاطفية فارغة أو تمكر به فتاة لعوب فيرضخ لطلبها في إرسال رصيد لها .

افترض أن الذي التقطها رجل صاحب غواية ، ربما سيستخدمها في دخول الانترنت لتنزيل صور تؤذي الحياء الفطري أو أفلاما تورث الحسرة .

لا تقل لي أنه لا يمكن اختراق المواقع المحجوبة ، أؤكد لك أنه اليوم أسهل من كسر بيضة ! .

عندي اقتراح رهيب ، بِـع البطاقة ثم اشتري رواية ” بن سولع ” للكاتب العُماني علي المعمري ، أتفق معك أنك ستضطر لانتظار معرض الكتاب القادم لأنه لا توجد في بلدكم مكتبة تجارية عامرة تضم الجديد والرصين والمتنوع ، بوضوح شديد بلدكم يخلو من مكتبة تبيع ما يشبع طموح باحث أو قارئ نهم ، وبرهان ذلك البكاء على مكتبة ( بوردرز ) بعد رحيلها المباغت ، والفراغ الذي أعقب ذلك . عفوا … لماذا بدى وجهك ذابلا ؟ ، أقدم إليك اعتذاري فقد جعلتك تشعر بالاستياء لهذه الحقيقة الحنضلية .

الآن ارجع إلى البطاقة وحقق أحلامك ، إني لك من الناصحين ، لا تماطل .. لا للتسويف .. إلى الأمام .. تقدم .

* * * * * * * *

شعرتُ بشيء ما التبسني جعلني التفت للخلف ثم أحدق في البطاقة بعينين شرهتين . مازال الأسيويان منهمكان في عملهم العضلي ، الرجل اختفى ومعه سيارته .

شبهت نفسي وأنا أتناول البطاقة كفارس في مسابقة التقاط الأطباق ، يهوي عليها برمحه الطويل في سرعة خاطفة .

دفنتُ البطاقة في قاع جيبي ثم أطلقت العنان لأقدامي إلى السلم مجددا ، مثقلا بارتباك يكاد يعثر خطواتي ، وإبر الضمير تجرحني بوخزها المتلاحق .

ها هو صوت آخر بنغمة مغايرة ، يحدثني …

ويحك … شُـلت يمينك ، أفعلتها في وضح النهار ؟

هل تعلم أن تلك البطاقة لها قيمة نقدية تساوي خمسة ريالات ؟

بأي وجه حق تمتلك هذه النقود ؟

ألم تحدث موجة غاضبة في هذا المجتمع ضد الفساد المالي ؟ ، لقد ندد الجميع بأصحاب الجيوب الجهنمية التي إذا قيل لها هل امتلأت ؟ تقول هل من مزيد ؟ . هل تقبل أن تُضم إلى قائمتهم الملطخة بالسواد ؟ ، فيعرفك الوطنيون بسيمائك في وجهك من أثر الخيانة .

اربأ بنفسك أن تكون مثلهم ، قبل أن تعَـلَكَ أفواه الغيورين .

لا يغرنك هذا المبلغ فتريق ماء وجهك من أجله و تتحمل وزرا لا طاقة لك به .

إنك تضحكني بحق ، حين تلوث يدك بالمال المشبوه ثم تنفقه في الصدقة أو تنجز به أعمال هادفة ، كمن يبني مسجدا من أموال الحرام .

أنت تذكرني بشخصية روبن هود ، الذي يسطو على أموال الأغنياء ثم يدفعها للفقراء .

هيا راجع فكرك ثم اتخذ قرارا صائبا .

اعلم كل ما وجد ساقطا على الأرض يسمى لقطة في شريعة دينك ، لها أحكاما كحفظها إن وثقت بنفسك الوفاء ثم التعريف بها لمدة عام .

محال أن تعد البطاقة كلقطة الشاه ، فتكون لك أو للذئب .

هل أنت على استعداد للعمل بتلك الأحكام ؟ .

ربما يكون صاحب البطاقة من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ، تكلف شراءها ليقتسمها مع زوجته ، أليس من الظلم أكل عرق جبينه و فجع قلبه بفقدانها ؟ .

وما يدريك لعله يعود هنا للبحث عنها ؟ .

اِإفرض جدلا أن طالبا جامعيا عصر نفسه عصرا في جمع ثمنها ، ليطمئن على أهله بعدما لسعته الغربة أو يستفيد منها في استكمال بحوثه الدراسية من الانترنت . لا شك أن الاستيلاء عليها اعتداءٌ صارخٌ على ممتلكاته .

تخيل أنك أنت الذي ضيع البطاقة ، طبعا ستغشاك غمامة حزن ، ثم تخيل مرة أخرى أنها عادت إليك على يد أحد المخلصين ، بالتأكيد سترقص فرحا ، أليس من العدل أن تحب لغيرك ما تحبه لنفسك ؟

كن إيجابيا في مجتمعك ، مسارعا في الخيرات ، مبادرا في تنفيس كرب الناس .

لا تنكر أنك شاهدت برنامج خواطر لـ أحمد الشقيري ، في إحدى الحلقات أوضح أنه توجد في شوارع اليابان صناديق لوضع المفقودات ، تأتي الشرطة لاحقا لجمعها والاحتفاظ بها ثم تسلمها لمن يسأل عنها . هذا فعل الياباني البوذي ، كيف بك وأنت المسلم العربي ، جاء نبيك الكريم ليتمم مكارم الأخلاق ؟ .

إن كنت لا تقوى على البحث عن صاحبها فسلمها لمن هو أقدر منك .

لن أطيل عليك ، أمامك خياران لا ثالث لهما ، تطبيق حكم اللقطة أو إرجاعها حيث وجدتها ، وذلك أضعف الإيمان .

إلى اللقاء …. .

تملكتني حالة نفسية جعلتني متجمدا كتمثال من الشمع ، الحيرة تعركني عرك الرحى بثفالها ، ما بين صوت يأمرني وصوت يلومني ، فلمن اأستجيب ؟ .

داخلني شعور بالسخرية من فكرة إرجاع البطاقة إلى مكانها السابق ، لذا دفعت نفسي دفعا داخل المتجر ، تناولتُ الجريدة ثم قابلتُ البائع .

كان هرمون البوح يسكب في دمي بغزارةه ، إلى أن تحفزت أعضاء النطق ، فبادرته :

– هل اشترى أحد اليوم ، بطاقة شحن بقيمة خمسة ريالات ؟

رفع عينيه إلى السقف مفكرا …

قبل أن يصلني جوابه ، أخرجت البطاقة من جيبي لأخبره بأمرها …

لحظتها وقع بصري على الوجه الخلفي للبطاقة ، اعتلت وجهي صفرة خانقة حين ظهر لي الرقم المتسلسل وقد كشطت الطبقة الفضية منه ! .

أدب العدد الثالث والعشرون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني