ناصر بن جاعد (4) … الانفجار العظيم

 (أن للمرء اختيارا وإرادة وأنه لابد أن يكون أول الطلب باختياره وإرادته) ناصر بن جاعد.

في لحظة تبرم وانكفاء انفجر إمام المتكلمين وشيخ علماء الدين أبو حامد الغزالي كالانتحاري المشدود إلى قنبلة ذرية في وجه الفلاسفة متهما إياهم بالكفر والزندقة والإلحاد، وانتصر للتصوف وأهل الحلول والاتحاد، ونشر كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”، فقامت قيامة ابن رشد ولم تقعد، فرد التهافت ب”تهافت التهافت”، ولكن تهافت ابن رشد لم يستطع أن يقشع الضباب الذي أقامه الغزالي على العقل العربي والمسلم، فانحدرت الفلسفة إلى أن صارت سفسطة المتكلمين، وهرطقة الملحدين، حتى قيل أن ابن رشد هو آخر الفلاسفة.

لم يتأثر ناصر بن جاعد وهو يأسس لعلم العرفان بكل الدعاية الهجائية ضد الفلسفة والبرهان، فلهذا نجده يقول: (علم الفلسفة حق، وهو يطلق على علم حقائق الموجودات كلها، علمها الظاهر كالعلم الطبيعي والتكويني والجواهر والأعراض وما يزول وما هو ثابت وما هو مفارق إلى غير ذلك، ولكن كل علم فيه بعض المتكلمين محق وبعضهم ضال، ليس علم الفلسفة بهذا مخصوص من سائر العلوم).

من بين أهم القضايا التي اختلف فيها كل من الغزالي وابن رشد هي قضية العالَم هل هو مخلوق من لا شيء كما يقول الغزالي أم هو مخلوق من مادة أخرى أزلية كما يقول ابن رشد تبعا لقول أرسطو المؤسس على فكرة أزلية الصراع بين الآلهة والإنسان.

وقد استنفد ابن رشد جميع حجج الفلاسفة في رده على اعتراض الغزالي الأشعري القائل بأن إثبات قدم العالَم يؤدي إلى تعدد القدماء وبالتالي نفي الإلوهية عن الله، وحين أدرك ابن رشد أنه غارق في لجة الاعتراض الأشعري، خلع ثوب العقلانية الإغريقية ولبس ثوب العقلانية الإسلامية المتمثل في المعتزلة، واضطر ابن رشد إلى الاستعانة بالفكرة المعتزلية القاضية بـ”شيئية العدم” أي اعتبار العدم شيئا مناظرا للوجود، وتعلق بها في إثبات فكرة الإغريق أن العالَم مسبوق بمادة ولكنها ليست مادة موجودة، وإنما عدم!.

مسألة بداية الخلق ليست منفصلة في وعي ناصر بن جاعد عن حرية الإنسان

بحسب علماء الفيزياء، ظهر الكون الذي نعرفه قبل 13.7 مليار عام، لكنه لم يكن مسبوقا بمادة كما يقول الفلاسفة الإغريق، وإنما كان مسبوقا بطاقة مضغوطة في مساحة لا تتعدى حجم البروتون الموجود في النواة، ومن ثم انفجرت تلك الطاقة فيما سماه فريد هولي عام 1949م بـ”الانفجار العظيم”،وأخذت تلك الطاقة تتجمع مكونة البروتونات والنيوترونات والإلكترونات ومن ثم الذرات والجزيئات وبالتالي المادة التي نعرفها.

دخل ناصر بن جاعد في لجة هذا الصراع الفلسفي الكلامي حول هذه المسألة الفيزيائية الدقيقة، وقال مبينا تعقيداتها: “هذه مسألة عظيمة في التوحيد، وقلّ من يفهم لها، ولم يأت إيضاحها كثيراً في الكتب، وإنما يأتي غالبها مجملا”.

 

وافق ناصرُ بن جاعد الغزالي على أن الكون لم يكن مسبوقا بمادة، بيد أنه لم يعتمد طريقة المتكلمين التي انتهجها الغزالي الذي ارتكز في موقفه من الفلاسفة على ما يسمى بـ”الإرادة الإلهية الأزلية” قائلاً: “إن العالم حدث بإرادة قديمة، اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه”. وإنما اعتمد ناصر بن جاعد على المنهج المعتزلي الذي استنجد به ابن رشد سابقاً!.

ينتصب المنهج المعتزلي على التفريق بين الإرادة الإلهية، وبين العلم الإلهي، فلهذا قال ناصر بن جاعد: “إن الله تعالى أوجد الأشياء ولم يزل بها من قبل عليما … من حين أوجدها علماً مثالات، فهو لم يزل يراها بعد ذلك كما أوجدها علماً قبل أن يوجدها ظهورا، ولا يصح إلا ذلك”.

إن هذا الانفصال عن مفهوم “الإرادة القديمة” الأشعري الذي يؤسس للجبر ويصادر حرية الإنسان هو الذي دفع ناصر بن جاعد إلى التوفيق بين مقولتي الأشعرية الغزالية والفلسفة الرشدية من خلال الرؤية المعتزلية العقلانية التي تمايز بين العلم الإلهي، وبين الإرادة الإلهية، والتي تثبت حرية الإرادة للإنسان، وتعطيه كامل الحق في حرية الاختيار.

لم يكن انفصال ناصر بن جاعد عن المقولة الأشعرية انفصالا اعتباطيا، وإنما كان انفصالا واعيا وهو ما يؤكده قوله: “فإن قلت: حيث انتهيت إلى هذا المقام في التوحيد الخفي: أليس يدخل فيه علم القدر… ولكن حيث انتهينا في علم التوحيد إلى هذا المحل، فلا بد أن نتكلم في القدر”.

إذن فمسألة بداية الخلق ليست منفصلة في وعي ناصر بن جاعد عن حرية الإنسان. ثم يؤكد على هذه الحرية وأصالتها بالقول: “كان الإقرار والتصديق بعدل الله تعالى، وإن عدل الله في كل شيء، وأنه لم يجبر العباد على معصيته، ولا على طاعته، وأن للمرء قدرة على اختياره لأحد الطريقين، وأنه إن عصاه فباختياره، وإن أطاعه فباختياره”.

وما ينبغي التأكيد عليه في هذا المقام هو أن هذا التوفيق الرائع من قبل ناصر بن جاعد بين مقولات الفلاسفة والمتكلمين من خلال العقلانية المعتزلية لم تكن منتصبة على تحرير عقلاني مجرد من المشاعر، بل هي معتمدة في الأساس على دراسة الظاهرة الشعرية عند الحريري الذي استشهد به ابن الفارض، ومن شعر الحريري ينتقل ناصر بن جاعد إلى سورة الفاتحة، ومنها مباشرة إلى قضية الوجود وخلق العالم ليعود مجددا إلى شعر الحريري ليستشهد به في ذات القضية الفلسفية المعقدة قائلاً: “مثلاً تدبير ذاتك بمظاهرها، وإبداع الحريري لمقاماته التي هي مثال وعلم، هل كانت قبل أن يبدعها مثالاً يراها بذاته”.

هذا الموقف المؤنسن للفلسفة يشير إلى وحدة الخطاب العقلاني عند ناصر بن جاعد، ومزجه الواعي بين الأنسنة القائمة على المشاعر والوجدان وبين البرهان المتمثل في الدليل الفلسفي، وهو ما سنرى تجلياته في الحلقات القادمة.

 

ملاحظة: ينشر بالتزامن مع ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان.

 
العدد الثالث والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. زكريا بن خليفة المحرمي

باحث وكاتب