مليكة العشق.. و طوق الهيام

يقول بيتشر: “قلب الأم مدرسة الطفل”.. ونقول: من بين رياح الدنيا وركام مشاغلنا، ورغم أعيادنا الدائمة بحضور أمهاتنا.. علينا ألَّا نغفل بهمسة كلمة حب صادقة في حقها يوم عيدها.

هكذا كنت وما زلت أمي، وأنا عندما أوشك على نهاية بناء سفينتي أخشى أن يجفَّ بحر أوردتي، أو تنضب معين أوصالي.. لذا أريد أن أبحر معك ليبتل خاطري بوابل من فيض حنانك وجميل عطائك..

إليك يا نبض قلبي المتعب

إليك يا شذى عمري المزهر

إليك يا نور فجري المشرق

إليك أمي في يومك

باقة ورد جوري أحمر..

وطوق ياسمين ندي أبيض..

إليك وحدك في يومك.. وكل يوم

فعذرا للطبيعة.. أمي هي الأبهى.. أمي هي الأسمى..

وعذرا للكون.. فحب أمي سرُّ الجاذبية الذي يقودني إلى طرق الأمان

وعذرا لكم جميعا.. فأمي هي حبي الأبدي.. أمي هي عشقي السرمدي

***

على البسيطة من هذا الكون ثَمَّ مخلوقة جميلة، تغلب عليها العاطفة الحانية، وتزينها الرقة الهاتنة، لها من الفضائل ما قد يتجاهله، ممن لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، هي جندية حيث لا جند، وهي حارسة حيث لا حرس، لها من قوة الجذب ومَلَكة الاستعطاف ما تأخذ به لبَّ الصبي والشرخِ كلَّه، وتملك نياط العاطفة دقّها وجلِّها، وتحل منه محل العضو من الجسد، بطنها له وعاء، وثديها له سِقاء، وحجرها له حِواء، إنَّه ليملك فيها حق الرحمة والحنان، لكمالها وحسنها، وهي أرق خلق الله إنساناً، إنها مخلوقة تسمى الأم، وما أدراكم ما الأم؟!!

وكون الشيء أصلاً وعماداً، فهذا دليل بارز بجلائه على المكانة وعلو الشأن وقوة المرجعية، ألا ترون أن أم البشر حواء، وأم القوم رئيسُهم، وأم الكتاب الفاتحة، وأم القرى مكة، وفي ثنايا العلوم كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله؟!

حتى كلّ شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة :
فالشمس هي أم هذه الأرض ترضعها حرارتها، وتحضنها بنورها، ولا تغادرها عند المساء إلَّا بعد أن تجعلها غافية ناعمة على نغمة أمواج البحر، وترنيمة العصافير، وخرير السواقي.
وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار، تلدها وترضعها ثم تفطمها، حتى تصير بدورها أمهات حنونات للأثمار الشهية والبذور الحية .
وأم كل شيء في الوجود هي الروح الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال الجذَّاب، والمحبة السرمدية.
عن لفظة الأم تختبئ في قلوبنا ترنيمات شادية بالحب مثلما تختبئ النواة في قلب الأرض.
وتنبثق من بين شفاهنا ترتيلات منادية في ساعات الحزن والفرح كما يتصاعد العطر من قلب الوردة في الفضاء الصافي الممطر.

***

فليس غريبا أن يحتفل العالم مع إطلالة فصل الربيع وما يحمله من اعتدال ربيعي وتوازن بين الحرارة والبرودة، فهناك علاقة بين الربيع والأرض والمياه، فلو لم يكن الماء لما ارتوت الأرض وأزهرت بعطائها، ولما أشرقت الطبيعة وابتهجت بجمالها، وما كان هناك ربيع واخضرار وحياة ونماء على وجه الكرة الأرضية. وهذا ما تؤكده الآية الخامسة من سورة الحج في قرآننا الكريم: “وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج”.

إنَّه ربيع الدنيا نرى فيه اهتزاز الأرض وفرحها بالعطاء، وبهجتها بالجمال، وسعادتها بالحياة، بعد أن كانت هامدة جافة خامدة قبل نزول المطر، فإذا بماء المطر يحيي أوصال جنباتها لتحيا من جديد.. هكذا أنت أيتها الأم كالأرض يوم ربيعها.. كالأرض التي نسكنها ونطمئن إليها، تمنحينا كل شيء جميل: الحب والحنان والأمل والأمان بلا مقابل وبلا حساب، فأنت الواحة الخضراء المشرقة حين تحتضني أسرتك.

***

ترتسم أمام ذاكرتي الصور لتطرز لوحة عيد من بقايا صور بعثرها الزمان؛ لتطوف هامسة حولي وكأنها لغز يذكرني بحضنك الحاني، وعبق أنفاسك الدافئة. لذا مهما توقفت بوصلة الكتابة مع زحمة الحياة أراني أعود إليك لأقطف زهرة حب فأضعها بين يديك.. فوجدتني أنا الكائن الليلي الأرق القلق دوما ممنوعة من تعاطي استنشاق مداد الحبر لحين.. ولا أملك إلَّا أن أدعوك من بين سطوري المهشمة لتحيها أنت من جديد.. فأرنو بحب وأحلم بنور فأبوح بأسراري. لكأنني على يقين أن النهار له أقنعة تحجب الضوء لكنها تتوارى بفعل رونق حضورك المشع في ناظري والحاني على نفسي.

أمي ما كنت أحتاج للتفكير فعالمي معك يصلح أن يخترق جميع الحواجز للكتابة إليك.. فأدعوك لأحلق بأملي مرفرفة ببهائي، وأطير مغردة بانتشاء بين أحضانك وعبق أنفاسك يا من تحتوين عالمي وتنتشليني من انهزام مرادي وضياع دنياي.

***

ذلك المخلوق الذي اسمه أمي أعشقه دم عطري زكي طاهر جميل يسري بأوردتي، فيمنحني الحياة الآمنة، والرؤى العذبة.. أحبك كلمة حروفها نابضة بجراح جبرت بالعشق حين تناثرت السطور وردا جوريا منثورا من شظايا وجدانك.. حتى عجزت روحى ولسانى الكف عن ندائك
فأنا التي ترعرعت بجانبك وتعلمت منك وتقمصت دورك في عالم ألعابي وما زلت تسمعين أصوات تنهداتي
أحتاج إليك.. أريد أن أعود طفلة لأرتمي بين حضنك، وأتنفس من رحيقك

اشتقت أن أجلس بين قدميك لتمشطي لي شعري، وتمسحي على هامة رأسي وتنثري عليَّ قبلاتك.
أشتقت لمشاكستك لأحظى بنظره حنان تنظرينها لي في قمه عتابك لي وأعود لارتمي بين يديك فأغضب واستسمحك
أشتقت لحبوري و براءتي الطفوليين لأرى فقط نظرة فرح وبسمة انتصار على سمات وجهك فأنتشي وأعانقك

خذيني أمي لأعود إلى دفء رحمك في ظلماته الثلاث
أحبك أمي.. أحبك حد الموت.. وأعشقك حد الهيام

فأنا منك وإليك يا قداستي ورونق حياتي

أدب العدد الثالث والعشرون

عن الكاتب

عزيزة الطائي

كاتبة عمانية