“اعلم أن من المعاني ما لا يُفهم إلا بمقدمات” ناصر بن جاعد.
كانت مصر مركزاً للفلسفات الباطنية التي مزجت الفكر الفيثاغورثي القديم مع الفكر اليهودي والنصراني، وكان أهم مهندسي هذا المزيج أفلوطين المصري عميد الفلسفة الهرمسية التي تفترض أن الإنسان كائن إلهي أزلي مختلط بمادة مخلوقة حادثة، وعلى الإنسان أن يسعى إلى الطهارة من أوزار تلك المادة، والخلاص من حمولتها المتمثلة في شهوات الجسد ورغباته، كي يرجع إلى صورة الأصل الإلهي، فيتحد مع الله أو أن تحل الذات الإلهية فيه.
يسمى الإله في فلسفة أفلوطين “هرمس”، فلهذا عرفت هذه الفلسفة بـ”الهرمسية”، والهرمسي الخالص هو من يستطيع التطهر من جميع عوالق الجسد ورغباته، فيصير حينها مخلوقا إليها تتجسد فيه ذات الإله، فيتصرف في الكون كيفما شاء، وتنكشف له حقائق الأشياء.
فكرة الخلاص الهرمسية غير مرتبطة بدين، لهذا نجد تمثلاتها حاضرة في أغلب العقائد والأديان، بدءا من المجوسية، مرورا باليهودية، وانتهاء بالإسلام، بيد أن تجليها الأكبر يكمن في النصرانية، حتى أن جان شو فليبي قد وصف التصوف الإسلامي بأنه (مسيحية في ثوب إسلامي). أو بحسب عبارة آسين بلاسيوس التصوف ليس سوى (إسلام متنصر).
ظهر التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري أيام الدولة العباسية معبراً في الأساس عن موقف نفسي من مظاهر الترف والنعيم، والمجون الأثيم، ولم يكن مفاجئا أن يكون أوائل الصوفية المسلمين مصريين، حيث ابتدأ التصوف الإسلامي مع أبي الفيض ذي النون المصري (ت 245هـ).
يتقاطع التصوف الإسلامي مع الهرمسية العالمية في منطقة الزهد، وتطهير النفس من الخبائث، فكلاهما يصدر من موقف نفسي يتسم بتضخم “الأنا” النقية، والهروب من العالم المليء بالشرور والكراهية، وهو ما يعبر عنه جان شو فليي بنداء “الرجوع إلى الينابيع العميقة للشعور تحت طغيان اللاشعور، وإثبات أن علاقة شخصية مع الله يمكن أن تفرض نفسها فوق كل السلطات والإيديولوجيات”.
ابتدأ التصوف في التاريخ الإسلامي سلوكاً في القرن الثالث الهجري قبل أن يظهر كتنظير وفلسفة التي ابتدأت في القرن السابع الهجري حسب سعاد الحكيم. أما في عمان فإذا استثنينا ظفار وما وراء جبالها الغناء من أنوار الحضرات العتيقة الخضراء، فإن التصوف لم يظهر لا كعلم ولا ممارسة قبل أيام الشيخ جمعة بن درويش المحروقي (ت 1086هـ) أي في القرن الحادي عشر.
ويذهب أحمد بن سعود السيابي إلى أن جاعد بن خميس الخروصي (ت 1237هـ) الذي يقول: “تمذهبت المذاهب بعض عمري، انتسبت قدرياً مرجئياً، حنيفيا وأيضاً شافعياً، ووقتاً حنبلياً مالكياً، وشيعياً وحيناً أشعرياً، ومن بعد إباضياً رضياً، فدعني منهم طراً جميعاً، خليلي حين كنت الخارجيا، وصرت الآن روحاني حكيماً، خرقت به الحجاب الحندسيا، فحزت الملك للملكوت سيراً، بأنوار رقيت بها رقيّا”، أن جاعد هذا هو من ضرب بعصاه حجر التصوف فانبجست منه عيون الممارسة السلوكية في عمان.
بينما يمكننا اعتبار كتاب ” إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك” لناصر بن جاعد -موضوع دراستنا هذه- أول كتاب لا في الممارسة الصوفية وحسب بل وفي التأليف المنهجي التربوي في علم السلوك العماني.
يفترق التصوف الإسلامي أو السلوك عن التصوف الهرمسي في نقاط جوهرية لم يتنبه لها أغلب من كتب حول التصوف، وعلى رأسهم محمد عابد الجابري الذي شن هجوما كاسحا على التصوف معتبرا إياه “حصان طروادة “الذي استخدمته الهرمسية لاختراق حصون الفكر الإسلامي، ولعل كتاب ناصر بن جاعد “إيضاح نظم السلوك” يمثل مرجعا مهما للتمييز بين التصوف في شقه الهرمسي وبين السلوك الإسلامي.
من نماذج تلك الفروقات التي لم يُسبق ناصر بن جاعد إلى كشفها “الاتحاد” الذي يعبر في التصور الهرمسي عن اتحاد الذات الإلهية مع ذات المتصوف، وهذا التصور مشابه للفكرة المسيحانية القاضية بحلول الإله في جسد المسيح، بينما الاتحاد عند ناصر بن جاعد ليس سوى العمل بما يوافق مشيئة الله، حيث يقول: (اتحدت إرادته في كل ما أضيف إليه بإرادة الله تعالى، ومحبته بمحبة الله منه وفيه وله، ومشيئته بمشيئة الله، فصار أحب الأشياء إليه هو أحبها إلى الله وأكملها معه هو أكملها معه علما أو عملا، وعلما به جل وعلا كما هو علمه بذاته بذلك العلم غير مختلف، فذلك هو الاتحاد مع أهل هذا العلم).
إذن هناك انفصال هائل بين الاتحاد بمعناه الميتافيزيقي الغيبي المفارق للعقل عند الهرمسيين، وبين المعنى الفيزيقي الدنيوي المتصالح مع العقل الذي يبشر به ناصر بن جاعد.
من النماذج الأخرى للقطيعة العضوية بين التصوف الهرمسي القائم على الرهبنة والخلوات والانقطاع وبين السلوك الذي ينظّر له ناصر بن جاعد يتمثل في ربط ناصر بن جاعد التصوف ومخالطة الناس والعمل والجهاد، حيث يقول: (وأعلم أن التوسل إلى الله تعالى وسيلة التصوف يصح ولو كان ينام بين أربع نساء في ليله، ونهاره في جهاد الكفر المباح جهادهم، ويكون وسيلة أيضاً وقائماً بأمور الخلق، ويشغل نفسه بعلم الشريعة، كل هذا لا يفسد التصوف).
لقد كانت فكرة الحلول والاتحاد والانقطاع عن العباد من أكبر مآخذ الفقهاء أهل الشريعة على المتصوفة أهل “الحقيقة”، كما أن فكرة الخلوات وبدعة الرهبنة ومخاصمة الحياة كانت من أهم انتقادات الفلاسفة للتصوف الذي لفظ أنفاسه الأخيرة أو يكاد، في هولكوست التكفير ومشانق التفكير التي أقامتها الحركة السلفية ضد التصوف وأهله بتهمة الشرك وعبادة القبور، دون تمييز بين ما هو هرمسي وما هو سلوك إسلامي.
إن أفكار ناصر بن جاعد المحطمة لأغلال الهرمسية، والمطهرة للسلوك الإسلامي من دنس اتهامات الحركة السلفية ربما تكون بمثابة المُخلّص المنتظر الذي سينفخ الروح في جسد التصوف، ويخرج الفكر الصوفي من مقابر الهرمسية الرافضة للحياة، ويطلقه في فضاء السلوك الإسلامي المتصالح معها.
ملاحظة: ينشر بالتزامن مع ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان.