بناء الإنسان قبل العمران

منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع شعار “الإنسان هدف التنمية ووسيلتها”، وقد رافقنا هذا الشعار طوال حياتنا، والواقع يثبت فعلا أن الإنسان هو وسيلة التنمية أما عن كون أنه الهدف فالمسألة فيها نظر وتختلف من دولة إلى أخرى

ونحن في السلطنة عشنا فترة النهضة التي عمت الكثير من القطاعات منها الإنسان العماني نفسه ولكن هل فعلا أن بناء الإنسان العماني سار جنبا إلى جنب مع بناء الجسور والعمارات؟  للإجابة عن ذلك نقول : صحيح إن الإنسان العماني نال تعليما منذ بداية عصر النهضة الحديثة وربما يكون هذا هو الإنجاز الأكبر – بغض النظر عن نوعية التعليم وكيفيته – إلا أني أرى أن ما ناله الإنسان العماني في سبيل بنائه لا يرقى إلى المستوى المطلوب أو المأمول، لأننا ببساطة من غير الدخول في الفلسفات أو المطولات الكلامية يمكن أن نتساءل أين الإنسان العماني في المحافل العالمية؟ ولماذا لم نسمع – الا فيما ندر – عن عماني يشار إليه بالبنان؟، ولماذا غاب الإنسان العماني ذكرا أو أنثى عن الجوائز الإقليمية والعربية والدولية إلا ما ندر؟ وما الذي ينقصه لتحقيقه ذلك؟ ولماذا لا نرى الإنسان العماني في الفضائيات العربية والعالمية؟

إن المتتبع لسيرة العمانيين عبر التاريخ يجد نماذج كبيرة ومشرفة في المجالات كافة السياسية والأدبية والدينية والثقافية، ويجد صفحات ناصعة من النبوغ في كل هذه المجالات في وقت كان غيرنا في سبات عميق.! فالعمانيون كانوا السباقين والرواد في التدوين والتأليف والسياسة والسفر بل إن الكثيرين منهم نالوا الشهادات العليا في العصور المتأخرة قبل أن يرى غيرهم النور ويعلم ما معنى مدرسة نظامية وكان منهم الرواد في كثير من الأمور، ويكفي أن يكون العمانيون هم من أوائل من أسس مطبعة تطبع الكتب وهي المكتبة السلطانية في زنجبار وأصدروا صحفا ومجلات وأقاموا العلاقات مع دول العالم المختلفة وبعثوا المبعوثين والرسل إلى القارات المختلفة، أليس من المؤسف أن يذهب كل ذلك سدى؟

لقد تضافرت العديد من الأمور لتقزيم الإنسان العماني منها الإنعزال عن العالم لفترة طويلة ومنها المأساة التي وقعت على الدولة العمانية في شرق أفريقيا التي منها انطلق الرواد الأوائل خاصة في مجال العلوم الحديثة والدراسات العليا ثم إن وجود المذهب الإباضي في عمان ربما جعل العزلة تزيد إذ أن الكثيرين متأثرون بالروايات التاريخية التي تربطه بالخوارج، ولكن يجب أن لا تكون هذه مبررات تقف حائلا دون انطلاق العماني لأن الأوضاع الآن قد تغيرت

وبإمكان شخص ما أن يكون خير سفير لبلاده عندما ينجح في مجال مّا ولنا في الحارس الكروي علي الحبسي مثلا.. وعليه نستطيع أن نقيس هل استطعنا أن نقدم عمانيّا انطلق من المحلية إلى الإقليمية ثم العالمية في أي مجال من المجالات؟ والسؤال الأهم هو هل يصح أن تكون عمان لم تقدم  طوال 40 عاما غير علي الحبسي؟

ما الذي يمنع أن يفوز عماني بجائزة نوبل للآداب أو للعلوم أو للسلام؟ ما الذي يمنع الإنسان العماني أن يصنع السيارة أو الطائرة أو حتى إبرة؟

لكي يتحقق ذلك لا  بد من تأهيل هذا الإنسان تأهيلا صحيحا بوجود خطط تنموية تهتم بالإنسان، وتطوير مناهج التعليم بحيث تنتج علماء وليس حفظة للعلم فقط مع وجود التربية الصحيحة في البيت والمدرسة والمسجد والإعلام ، ثم التدريب الجيد على رأس العمل وزرع مفهوم قيمة العمل وقيمة الإنتاج مع تعويد الجيل على قيمة العطاء بدلا من تعويده على الأخذ فقط .

لكي نبني الإنسان العماني بناء سليما يتواكب مع بناء العمارات والجسور لا بد  من التركيز على الأخلاق الحميدة لأن الجيل الذي يفقد الأخلاق سيفقد كل شيء وسيكون مستعدا لبيع أي شيء حتى وإن كان هذا الشيء هو الوطن بحجم عمان بتاريخها وأصالتها وحضارتها، وأيُ أمة تفقد أخلاقها هي أمة توشك على الزوال وهكذا يحدثنا التاريخ دائما، وفي الماضي أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في مأمن من الجحافل البربرية القادمة من الشمال، فبنوا سور الصين العظيم معتقدين ألا أحد يستطيع تسلقه لشدة علوه ولا اختراقه لشدة كثافته إلا أنه خلال المئة سنة الأولى التي تلت بناء السور تعرضت الصين ثلاث مرات للغزو، وفي كل مرة لم تكن الجحافل البربرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه بل كانوا يرشون في كل مرة الحراس ويزحفون عبر الباب، لقد انشغل الصينيون القدامى بالاعتماد على أسوار من الحجارة ونسوا أن يعلموا أبناءهم الصدق والأمانة والإخلاص، وهذا درس مهم يفيد بأهمية بناء الإنسان قبل العمران.

 ويأتي بعد التركيز على بناء الأخلاق، الإهتمام بالنوابغ والمبدعين والمجيدين وأن يكون لدينا هدف نسعى لتحقيقه ولن يتم ذلك بين يوم وليلة فحتى ننشئ جيلا جيدا مبدعا لا بد أن نخطط لأكثر من 50 سنة قادمة وهي ليست بالمسألة الصعبة أبدا إذا توافرت الإرادة وإذا توافرت الرغبة في تحقيق ذلك، وربما يأتي في مقدمة ذلك الإهتمام بالعقول وتنميتها ثم استثمارها، ولدينا العديد من الشواهد في العصر الحديث لدول مثل اليابان وكوريا والصين وماليزيا وسنغافورة والهند كيف كانت وكيف أصبحت حالياً عندما استثمرت في عقول أبنائها وركزت على التعليم الحديث والمتطور.

ونحتاج إلى إنشاء مراكز الأبحاث والدراسات التي تهتم بكل الجوانب لأن التخطيط الجيد هو الذي يحقق النتائج الجيدة على المستوى القريب أو البعيد، لأننا إذا استمررنا على حالنا كما نحن الآن من إهمال الجيل الجديد سوف نصحو يوما مّا على كارثة كبرى، فيكفي ما يعانيه الجيل الآن من تخبط ومن غياب الهدف.

إن الإنسان هو صانع الحضارات وهو السبب الأساسي لرقي الدول والمجتمعات وتقدمها، ولا يمكن أن نقول إن الدول والمجتمعات التي حققت تقدما في مجال بناء الإنسان هي أفضل منا في شيء هذا إذا لم نكن نحن الأفضل قياسا إلى تاريخنا وتجاربنا، بل نستطيع أن نقول إن أجدادنا كانوا مبدعين وحققوا إنجازات أقرب إلى المعجزات ويجب أن يرث هذا الجيل ذلك التراث وذلك الإبداع الإنساني الراقي، وما يؤسف له الآن أنه حتى هذا التاريخ وهذا التراث العظيم تم إهماله من قبل أهله بينما يهتم به الآخرون، هذا الاهمال الجسيم حدا يوما بصحفي زائر لعمان الى التساؤل: هل صحيح أن هذا الشعب هو حفيد أولئك العظماء الذين تحدوا الصعاب وأقاموا أعظم إمبراطورية ..؟!

الرابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com