ناصر بن جاعد (9) … النشوء والترقّي

(ثم تولدت المعادن ثم النبات ثم الحيوان ثم الإنسان من الماء والتراب) ناصر بن جاعد

تعود فكرة نشوء الكائنات من مخلوقات أولية إلى الفيلسوفين اليونانيين انكسيماندريس وإبميدوكلس، بيد أن هذه الفكرة ظلت حبيسة الرقوق والكتب حتى استعادها ماوبرتيوس في عام 1751م مفترضاً أن التغيرات الطبيعية أثناء التكاثر تؤدي إلى ظهور مخلوقات جديدة. لقد أعطت أطروحة ماوبرتيوس دفقا جديدا لفكرة التطور، حيث انطلق منها إرسموس داروين جد تشارلز داروين إلى القول بأن الحيوانات ذات الدم الحار تنتسب إلى خلية أولية واحدة.

إلى هنا وما تزال نظرية التطور البيولوجي في مراحلها الجنينية، وأول تطور حقيقي لها ابتدأ مع لامارك في عام 1809م، حيث افترض أن الكائنات تكتسب صفات جديدة أثناء تفاعلها مع البيئة وفق قاعدة “الإعمال والإهمال” للخلايا والأعضاء، وأن ذلك يؤدي إلى تطورها من كائنات بدائية إلى كائنات أكثر تعقيدا وفق نظرية التحول أو (transmutation).

بيد أن الثورة العلمية الكبرى في مجال التطور البيولوجي حدثت عام 1859م مع تشارلز داروين الذي أعاد ترتيب أوراقها من جديد، وأضاف إليها فكرة “الانتقاء الطبيعي”، القائمة على فرضية أن تكاثر المجموعات البيولوجية يؤدي إلى “الصراع من أجل البقاء”، وأن حمَلة الصفات المؤهلة تتطور وتبقى، أما غيرها فينقرض ويتلاشى.

وما أن طرح داروين نظريته المعروفة بـ “النشوء والترقي” أو (Evolution) حتى طبقها توماس هوكسلي على الإنسان، فتوصل إلى نتيجة لا تخلو من تطرف زاعماً أن الإنسان قد تطور عن قرد الشمبانزي.

ومع اكتشاف جريجور ماندل لطرائق انتقال الصفات الوراثية عام 1865م، واكتشاف دي فرانسيس لعلم الطفرات الوراثية، تطورت نظرية داروين لتكون لها أسسها الجينية، فأصبحت واحدة من أهم النظريات البيولوجية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، حيث قال ثيودوسيوس دوبزانسكي في عام 1973م: “لا شيء في علم الأحياء له أي معنى إلا من خلال النشوء والترقي”.

في عام 1992م اكتشف العلماء رفات مخلوق هو الأقرب تشريحيا إلى الإنسان اسمه آردي أو (Arthipithecus ramidus)، وقد استغرقت دراسته سبعة عشر عاما، وتم الإعلان عنه عام 2009م، وهو بحسب العلماء أبعد ما يكون عن الشمبانزي، لكنه قريب جدا من الإنسان، مما يعزز نظرية داروين بعيداً عن الأطروحة الهكسلية المتطرفة.

هذا على المستوى العلمي، أما على المستوى الاجتماعي والثقافي فقد أحدثت نظرية “النشوء والترقي” ارتدادات فكرية وثقافية هائلة خاصة بين صفوف المحافظين من رجال الدين والفقهاء الذين عارضوها بشدة، واعتبروها سبيلا إلى هدم الدين والأخلاق، إلى درجة حدت بالمشرعين الأمريكيين إلى حظر تدريس هذه النظرية في مدارس الثانوية الأمريكية منذ عام 1925م وإلى عام 1968م.

أما في العالم الإسلامي فقد شن الفقهاء ومريدوهم حملة شعواء ضد هذه النظرية واعتبروها طريقا للفساد وبوابة للإلحاد، ولعل ذلك يعبر عن ردة فعل وقائية ضد دعاة الفكر المادي الذين اعتبروا النظرية المسمار الأخير في نعش الأطروحة الدينية، بل ذهب بعضهم إلى القول أن الإنسان ليس سوى حلقة في سلسلة نشأة الكون من مادته الأولى دون تدخل من الرب.

كلا الفريقين، المتدينون والماديون يعانون من إشكالية عدم التمييز بين النص القرآني، وبين شروحه التي لا تعبر سوى عن آراء قائليها، فمعارضة العلم لرأي الفقيه لا يعني بالضرورة معارضة العلم للقرآن، وإن حدث وأبطلت بعض القوانين العلمية أو النظريات البحثية أقوالاً لبعض الفقهاء فلا يخدش ذلك في الدين ولا في تنزيل رب العالمين.

وقد احتج الرافضون لنظرية النشوء والترقي بمعارضتها الكتب المقدسة التي تحكي عن خلق الإنسان من طين، وأضاف فقهاء المسلمين اعتراضين آخرين، الأول هو تعارض النظرية مع خلق الإنسان في أحسن تقويم، والثاني تعارضها مع مفهوم الروح التي نفخها الله في الإنسان.

بيد أن هذه الاعتراضات لا تخلو من نواقص وثغرات، فالقرآن نص على خلق الإنسان من طين ولكنه سكت عن طريقة ذلك الخلق، كما سكت عن المدة الزمنية التي تم فيها، وسكت أيضاً عن المراحل التي تخللها، وهذا السكوت القرآني حتما لم يكن عبثيا، وإنما هو سكوت مقصود يوجه الإنسان نحو البحث والاكتشاف الذي أمر به الله في قوله (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدء الخلق).

كما يذهب بعض المفكرين إلى أن القرآن يحوي نصوصا تشير إلى المرحلية والتطور في خلق الإنسان، منها قوله تعالى {وقد خلقكم أطوارا}، الذي تشمل  دلالته آدم وأبنائه الذين يتم تطورهم في الرحم من علقة فمضغة فعظام يكسوها اللحم، ومن بين تلك النصوص أيضاً قوله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} الذي يتجلى فيه التطور من خلال الممايزة بين مرحلة الخلق ومرحلة التسوية ونفخ الروح.

أما موضوع حسن تقويم الإنسان، فالإنسان حين يكون نطفة وعلقة يكون مهينا بنص القرآن {من ماء مهين} ولكن ذلك لا يزري بحسن تقويمه لاحقا، كذلك الأمر بالنسبة لتطور الإنسان من كائنات بدائية وتطوره من الطين من قبل لا يحط من قدره ولا يشين تكريمه بعد ذلك.

إضافة إلى أن نظرية النشوء والترقي في نسختها الأخيرة –ما بعد اكتشاف آردي- لا تقول أن الإنسان أصله قرد، وإنما تقول أن البشر والقرود يرجعون إلى أصل تكويني واحد … الطين والماء بلغة الفقهاء.

قد يتسائل القاريء عن سرّ هذا الاستعراض الطويل لنظرية النشوء والترقي وجدل علماء الدين والبيولوجيا حولها في معرض الحديث عن ناصر بن جاعد، وربما تبادر إلى ذهن البعض أن هذا الاستعراض مدخل لعرض رأي ناصر بن جاعد في نظرية تشارلز داروين.

وللإجابة على هذه التساؤلات علينا التأكيد بداية على حقيقة أن العمر لم يسعف ناصر بن جاعد كي يطلع على أطروحة داروين، فقد توفي بن جاعد قبل عقد من نشر داروين لنظريته، فلهذا من غير الجائز بأي حال من الأحوال القول أن ناصر بن جاعد يدعم أطروحة النشوء والترقي كما انتهت لدى تشارلز دارون، أو من جاء بعده.

بيد أن هذا البيان ليس هو كل شيء!! فهناك مفاجئات كثيرة ما تزال بالانتظار، وناصر بن جاعد خبير في إحداث المفاجئات.

إن نفينا لعدم قول ناصر بن جاعد بنظرية النشوء والترقي الدارونية لا يعني بحال أنه كان منكرا لفكرة التطور من الأساس، بل نستطيع القول بدرجة كبيرة من الثقة أنه كان مؤيدا لنظرية التطور كما طرحها فلاسفة اليونان، ولعل أول من اكتشف هذا التأييد الناصري لنظرية التطور اليونانية هو محقق الكتاب الدكتور وليد محمود خالص الذي قال مندهشاً: “يفيد الشيخ ناصر من إطلاعه الواسع على العلوم القديمة ومنها الفلاسفة، وما يقوله في المتن يقترب من مذهب الفيلسوف اليوناني انكسيماندريس المتوفي سنة 546 قبل الميلاد، على سبيل المثال، وقد تطور هذا المذهب فيما بعد على يد الفلاسفة اللاحقين”.

أما ما أثار دهشة المحقق ودهشتنا من بعد فهو تصريح ناصر بن جاعد بموقفه من نظرية التطور حين قال: (وفي العناصر الطبائع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، فظاهرها كرة النار وكرة الهواء وكرة الماء ثم البسائط في الأرض وهي الماء الظاهر والتراب الظاهر والرياح المحسوسة والنار الظاهر، ومن هذه الطبائع تتولد العناصر، ومن العناصر والبسائط تتكون المولدات: المعدن ثم النبات ثم الحيوان وبعد الحيوان الإنسان، وهو من جملة الحيوان إلا أنه لما كان أكمل منه كان هو المرتبة الرابعة الآخرة).

هنا قد يطرأ في ذهن القاريء سؤال عن سر الكمال الذي ينسبه ناصر بن جاعد إلى الإنسان في قبالة الحيوان، فلسفيا يعتبر العقل هو الميزة التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان، أما الطرح الديني فإنه يذهب إلى أن سر كمال الإنسان يكمن في الروح الإلهية التي نُفخت في الإنسان الأول (آدم)، هنا يفاجئنا ناصر بن جاعد برأي جديد آخر لا يقل إدهاشا عن سابقه، فهو يطرح نظرية جديدة غير مسبوقة في تفسير معنى الروح تنطلق من الرؤية الفقهية وتتوافق مع الرؤية الفلسفية، وهي قائمة على أن العقل والروح هما شيء واحد! يقول ناصر بن جاعد: “والعين البصيرية هي التي أشار إليها بقوله جلّ وعلا: {ويسئلونك عن الروح}أي العقل {قل الروح من أمر ربي} أي فكروا فيه فإنه أمر رباني لا يطلب إلا ما يرضي الله”.

 ملاحظة: ينشر بالتزامن مع ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان.

الرابع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. زكريا بن خليفة المحرمي

باحث وكاتب