زمنٌ عربي

 مصر

مصر إيقاعٌ حيوي، في أم الدنيا؛ومن يرتبط بمصر عليه أن يمضي وفق إيقاعها، نفسُ إيقاع النيل؛ واليوم في الإيقاع المصري الجديد نسبي، تأخذ الأشياء فيه روحاً متحررة من قيود الماضي، ومن كل أوهام المستقبل الجاهزة، لترسم آفاقها الذاتية. ومن يحلمُ بعودة العصر السالف، فهو كمن يصرخ مطالباً بعودة الأمس الماضي،والأمس لا يعود.

مصر ماضيةٌ في طريق الثورةالعميقة التي هي المعنى الأشمل للثورة، ثورة الوعي، التي تجتاز كل الثورات المضادة، تلك الثورة هي الثورة الحقيقية، وهي الثورة الباقية، وبينما يبدو المشهد التونسي مستقراً نسبياً في الظاهر بمعادلة الوفاق بين الأحزاب المختلفة، تبدو مصر كالعابرة في مخاضٍ طويل، لا تقتنعُ بوليدٍ أقل من حجمها الكبير، والملهم للعالم، والذي يؤكد على أن الزمن ديدنهُ التغيير، وأن لا بقاء مع الزمن لنمطٍ واحد، وشكلٍ واحد.

الحكمة المصرية للعالم أجمع، ماثلة، وحية، لكن للأسف فإن الأنظمة التي تستطيع استيعابها قلة ضئيلة؛ مثلما أن القذافي الذي استوعب الدرس الأمريكي في العراق لم يستطع استيعاب الدرس التونسي في ليبيا؛ وهكذا لا يتم استيعاب كامل الحكمة إلا متأخراً بعد وقوع الوقائع،  واكتمال فصول المسرحية.

مثلاً ألسنا نفهم اليوم أن عصر مكافحة الإرهاب، لم يكن إلا إرهاصاً وتعبيراً عن مدى الانحطاط العربي والشتات الحقيقي المستبد بعالمنا، وعن مدى التناقض الهائل في النفسية العربية المدفوعة بحلمها البسيط لحياة سعيدة، بينما أحلام الشعوب البسيطة في حياة كريمة مسجونة خلفَ قضبان أنظمة سياسية قطرية ضيقة، وعربيةهزيلة وضعيفة، وعالم متوحش.عالمٌ تبدو فيه الأوهامُ الإرهابية للشباب كأنها خيول صالحة للركوب، من شدة انسداد الآفاق الطبيعية.

الربيع العربي الحقيقي ليس كامناً في تغيير نظامٍ سياسي بآخر، لأن المشكلة أكبر من مجرد شكل سياسي؛ والربيع الحقيقي في أزهار الأذهان والوعي العام الذي يشق طريقه، متخلصاً من أكداسِ البرامج التلفزيونية الرديئة، وأفلام المقاولات، والمناهج التعليمية البائسة، ليصل إلى معرفة ذاته وما حوله، كما يليقُ بوعيٍ عام حقيقي، يعيد تشغيل آلياته المعرفية المعطلة بفعل القمع والاستبداد، وبالتالي يحصدُ حيوية الحياة ذاتها. يشتعل ذكاء الوعي العام نفسه، وينهض لتحمل مسئوليته الذاتية، وقراره، دون وصاية نظامٍ تعسفي بلغت حماقاته أطوارها.

ربيع الوعي العربي يتكاملُ اليوم شيئاً فشيئاً، منطلقاً من قاعدته الحيوية الشعبية التونسية نفسها، التي قالها أبو القاسم الشابي في بداية القرن العشرين، وينمو، انطلاقاً من تلك القاعدة الشعرية ليغدو أكبر وأقوى وأشد، محاذراً الفخاخ الأمريكية المنصوبة، والشراك الإسرائيلية، وسهام الداخل، والسيوف المتقاطعة؛فيبدلبنموه وتحوله إرث الماضي الذي كان مسجوناً في أقداره الهزيلة ومصيره المظلم المحكوم بأسوأ ما في العصر من رداءة وبؤس. إرثٌ أفضى بالناس لعقود إلى التفتيش عن أية حلول ممكنة، وإلى الإيمان أحياناً حتى باليأس المطلق.

الحياة تثمرُ وعيها الجديد، والوعي ينمو بالخبرات والتجارب، بالشد والجذب المنطقيين، بالتفاعل مع كل العناصر الواقعية، وعندها لا خوف على البلد من أيديولوجيا أي فريقٍ يستلم زمام السلطة، لأن الشعب ليس قطيعا،ولأن انتصار الوعي يجعلهُ ساخراً من فكرة الخوف من الفزاعات، ولا يضيره حينها حتى لو كان الظواهري هو فخامة الرئيس. فالوعي الحيوي لا يضع ثقتهُ بالأشخاص بقدر ما يضعها في الأنظمة.

 السعودية

طغت هذا الأسبوع أخبار المحامي المعتقل في مطار جدة أحمد الجيزاوي،والاحتجاجات الشعبية المصرية على النظام السعودي، وكان التنصل الرسمي السعودي من السبب المعلن الذي لأجله تم اعتقال الجيزاوي في الأراضي السعودية، وتلفيق تهمة المخدرات وحده كافياً لإدراك مدى التغيير الذي يشمل عالمنا، في نفس الوقت فإن تغيير التهمة لوحده سببٌ كافٍ لإدراك هشاشة التهمة وعدم قدرتها على الظهور أمام الرأي العام. المصري والسعودي والعربي معاً.

في الأثناء كان شباب الثورة سعوديين ومصريين يتبادلون الثناء في تغريداتتويتر ولوائح حيطان الفيس بوك، مؤكدين تجاوزهم المؤكد كجيل للوعي الضيق؛وآخذين زمام المبادرة الطيبة، تأكيداً لإحساسهم بالزمن والمسئولية أكثر من المسئولين أنفسهم.

بالنسبة للشباب ليست المسألة مسئولية فردية، بل مسئولية أمة بكاملها، تعيش أوقاتاً متناقضة، وأزمنة متضاربة، وعداءاً شديداً يفضح عدم اتساقها مع الهوية العربية التي تستمي بها؛ العروبة المهدرة لمائة عام وأكثرعلى موائد جامعة الدول العربية، فضلاً عن طاولات اجتماعاتها. في وسط محيط عربي وعالمي مختل.

ما الذي يضير مقام الملك، أي ملك، من كلمة قيلت في حقه، إيجاباً وسلباً، أليست صورة الملك الحقيقية ليست صورة اللفظية أو كلمة، بل صورة حقيقية قائمة على أفعاله، واكتسابه لحب الشعب؟ أليس الملك خادماً للشعب، وبذلك احتل أسمى مقام؟!

الحساسية المفرطة من الكلمات التي تقال في وسائل الإعلام تعبر عن فراغنا أيضاً، واهتمام الأجهزة المخابراتية بمثل هذه الأخبار يعبر عن خوائها، وفراغها للأسف، وعن تصيدها لهفوات الألسنة، في نسيان لمهمتها الحقيقية الكبرى، في الدفاع عن أمن الوطن، واستبدالها بالدفاع عن سمعة الملك!

إذا كان مقام الملك الرفيع يتأثر بالكلمات النابية، ويستدعي الأمر سحب سفير السعودية من مصر، في هذا الوقت، فإن تقدير هيبة الملك هش جداً، وسمعته قابلة لأدنى عطب؛ ماذا إذن عن كل الكاريكاتيرات التي تناولت الملك في وسائل الإعلام الغربية؟ ماذا أيضاً عن رسومات الرسول؟!

لماذا لا تهتز سمعة ملكة بريطانيا برواية آيات شيطانية لسلمان رشدي، ولم تسحب عنه الجنسية، كما حدث مؤخراً في الإمارات، ولماذا تنتفض الأجهزة المنافقة في عالمنا العربي وأنظمتنا لتبطش بزلة اللسان على الذات الملكية، أو بوجهة النظر المختلفة، أو بالرأي، أو بسخافات موقع عرب تايمز البذيئة؟؟!!

سمعة الحاكم لا تحتاج قمعاً، تحتاجُ حكمة وعدلاً وحرية، لتلمعُ سمعة الملك كقطعة الذهب، حتى لو كانت في قاع النهر. بينما سمعتهُ نجمةٌ في السماء.

وفي الشعر: تواضع تكن كالنجمِ لاحَ لناظرٍ على صفحات الماءِ وهو رفيعُ.

الخامس والعشرون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد