ذوبان الجليد

ارتمى على السرير كثمرة ساقطة من غصن واهن ، أشبك أصابع يديه ثم أخفاهما تحت رأسه المضطرم بالأفكار ، نشر نظراته الحائرة في فضاء الغرفة ، أمال رأسه ناحية النافذة ، راح يتأمل مشهد مراقصة الهواء لطرف الستارة في شرود ذهني تعرفه من بقاء عينيه مفتوحتين جامدتين .

منذ ليلتين وهو يحاول عبثا إعادة انتظام أفكاره المشتتة ، كأنه يجمع الزئبق من أرض زلقة . هواجس القلق تكدر عليه يوم زفافه الذي يحلم به مشرقا هانئا ، فـتغشى وجهه غمامة حزن ويلتبس به الخوف من الآتي .

ضج به التفكير .. إلى أن قرر أمرا فقام لتنفيذه .

كان الأب يسقي نباتات الزينة في حديقة المنزل ، وقف بجانبه ، فلما هم بالحديث أوجس منه رهبة واعترته حالة من التردد ، ربط على قلبه وقال :

– أبي أرغب في تقديم زفافي إلى هذا الأسبوع ، أي قبل الموعد المتفق عليه بشهر.

أنتفض الإبريق في يده ، التفت إليه بوجه محتقن ثم قال بصوت جاف :

– أتريد أن تتعجل في وفاة أمك ؟! .

بُهت من رد أبيه :

– كيف ذلك ؟ .. لم أفهم .

تنفس الأب بعمق :

– سأصارحك .. لقد أسر إليّ الشيخ بتفسيره للحلم الذي رأيته .

صمت ممتعضا من تسرب خصوصياته ، مستذكرا في مخيلته ما حدث له …

في ليلة دافئة المشاعر ظل لساعات يسكب في إذن خطيبته كلمات الغرام محلقا بها في عالم وردي على جناحي الحب والسعادة ، ما إن ترطّب قلبه وارتوت نفسه حتى أغلق الهاتف ثم أوى إلى مضجعه ، كطفل شبع من الرضاع فتملكه النوم في خدر .

وجد نفسه في مكان تسطع منه أضواء ملونة وضربات الدف تهز جوانبه ، كان يجلس على أريكة وثيرة مرتديا حلة مهيبة ، وبجانبه خطيبته في أبهى زينتها . رأى أم زوجته تبتسم له وخالته تصفق في طرب وأخته تبادله مشاعر الفرح ، ولفيف من الأقارب وأهل البلدة يتمايلون على أنغام رنانة .

وإنه لكذلك إذ تنقبض عضلات وجهه ويتعرق جبينه ، فقام من نومه مضطربا .

ظل متأرقا بقية ليلته ، يسأل نفسه لماذا لم تظهر أمي الحبيبة في حفل زفافي؟! .

في ذلك اليوم سأل الشيخ تأويل رؤياه .

عاد إلى واقعه على كلمات أبيه :

– يا بني عليك أن تتبع توجيهات الشيخ ، فقد ارتأى أن لا تَـزِفَ عروسك حتى ترى نفس الحلم مع ظهور أمكَ فيه .

ظل واجما في دهشة ، ثم سأل :

– وهل يمكن أن يتكرر ذات الحلم ؟

أجاب الأب وهو يصب الماء في موضع آخر :

– يقال أن الإنسان هو من يحدد شكل أحلامه .

اهتاجت الأفكار في رأسه مجددا ، و ما انفك الهم يعتصره في الأيام التي تلت.

* * * * * * * *

ها هو الآن في عالما ناصع البياض ، يعدو هربا من كتل الثلج المتردية من أعلى جبال الجليد ، وفي نفس الوقت يحذر أن تزل قدمه فصفائح الثلج تتفطر من تحته ، ورياح الزمهرير تعصف بعنف فتكاد تكبه على وجهه . قلبه يخفق هلعا والموت يأتيه من كل مكان .

في لحظة مباغتة تأرجحت في الهواء صخرة ثلجية كبيرة ، انتبه إليها متأخرا فلم يقدر على الإفلات منها فهوت على رأسه فخر مضرجا بالدماء ، عندئذٍ انشقت الأرض من تحته فراح يغوص في بحيرة ماء ، ظل في قعرها ينازع أنفاس الموت الأخيرة .

استيقظ من نومه فزعا ، جلس على السرير يستعيد أنفاسه المتقطعة .

حينها شعر ببرودة شديدة في الغرفة ، أضاء المصباح ثم جر خطواته كمن يسير في الوحل ، ألقى نظرة على ضابط درجة الحرارة في جهاز التبريد ، فوجد وضع التبريد في درجة عالي جدا والهواء ينفذ منه بشده .

فجأة تنبه لأمر مهم ، مما استثار خلايا التفكير عنده في محاولة لفهم الرابط بين عالم الثلج في حلمه وجهاز التبريد في واقعه ، كذلك معرفة وجه الشبه بين الموت غرقا في بحيرة متجمدة في حلمه وبين تفسير الشيخ لحلمه في موت أمه قبل ليلة زفافه واقعا .

سمع دوي سقوط فكرة في ماء عقله ، محدثتا موجات من الأسئلة ، هل الأحلام تكشف لنا الغيب ؟ وهل معناها يُغيّر من مجرى القدر في حياتنا ؟

بعد إعمال عقله وتقليب فكره طرقت في رأسه حقيقة ما ، احتلت مكانا عميقا في نفسه اقتناعا وإعجابا ، على أثرها أطلق ضحكة مجلجلة مثقلة بالسخرية ، سارع في خنقها حين تذكر أنه في الهزيع الأخير من الليل .

* * * * * * * *

صباحا في مائدة الإفطار قال لأبيه بنبرة متخمة بالثقة :

– لقد تَحَقق طلب الشيخ ، فقد رأيت البارحة الحلم ذاته .

تهلل وجه الأب فرحا :

– هل متأكد أنك شاهدتَ أمكَ في الحلم ؟

أجاب وابتسامه غامضة تحتويه :

– الحق أني لم أرها ، لكن حينها سألت أختي ، فأجابت أنها ذهبت إلى المطبخ لتحضر كعكة الحفل ! .

أدب الخامس والعشرون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني