قصاص الجروح في الفقه والقانون

تطبيق الشريعة أم تطبيق التاريخ

السؤال الذي يسأله طلاب السنوات الأولى في كليات الحقوق والدراسات الشرعية: لماذا لم تتبن قوانين الجزاء في معظم دول العالم الإسلامي نظريات مثل بتر يد السارق ورجم الزاني المحصن وقتل من قتل نفساً في كل الحالات وقتل المرتد والمجازاة بالمثلية الحسابية في الجروح؛ وغيرها من النظريات المعروفة في الموروث الفقهي التاريخي؟.

الإجابة ليست سهلة أبداً، لكن أكتفي بالقول إن هناك مسألتين عالقتين في الموضوع لم يجدا حلاً إلى الآن وفيهما تكمن الإجابة:

– المسألة الأولى: مساواة النظريات الفقهية الناشئة عن الفهم والنظر بالشرع المنزل من عند الله، وعند اختبار تلك النظريات الفقهية في الواقع يحصل أن تخفق إخفاقاً ذريعاً، ونتيجة لذلك يصل البعض إلى فكرة زمنية النص القرآني، أي أن التشريع القرآني كان لزمن معين وانتهت صلاحيته بمرور ذلك الزمن، وقد يصل أناس إلى رفض الدين رأساً.

وعند هذه النقطة بالذات تخفق الدعوات المعاصرة لتطبيق الشريعة التي تتبناها معظم ما يعرف بالحركات الإسلامية، إذ إن الشريعة هنا تختلط بالفقه البشري الزمني، ولا تحصل المناسبة بين هذا الفهم الزمني والواقع.

وفي هذا الموضوع تحديداً يعاب على النخب ذات الخلفية الليبرالية أو اليسارية أو القومية خلطها المستمر– إلا فيما ندر- بين الشرع المنزل في القرآن والفقه التاريخي الموروث لدى المدارس الفقهية المختلفة، فلم تحاول معظم هذه النخب قراءة الشريعة من خلال القرآن، وظلت باستمرار مصرة على قراءة الشريعة من خلال الفقه، لذا كانت تخرج بنتائج تدعو إلى تنحية القرآن عن واقع الحياة، وتعتبره خطاباً زمنياً.

– المسألة الثانية: ميزان القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية في العالم يميل بشدة نحو كفة العالم الغربي الذي فرض هيمنة لثقافته منذ أكثر من أربعة قرون، وعَدَّ صعودَ أية ثقافة أخرى خطاً أحمر تعاقب شعوب بأكملها على تخطيه.

وفلسفة القوانين الجنائية في العالم الإسلامي قامت على النظريات الحديثة في التجريم والعقاب؛ التي أرست قواعدها فلسفات نشأت في الغرب، وتبنتها البلدان العربية والإسلامية تدريجياً منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.

ومع تصاعد حركة ما يسمى باكتشاف الذات بدأت تظهر دعوات قوية في هذه البلدان تطالب بالعودة إلى الشريعة الإسلامية في التشريع الجنائي، واستطاعت بعض هذه الحركات تطبيق نظرياتها في عدد من البلدان كالسعودية وإيران والسودان، لكن بعد سنوات من التطبيق لم تعد هذه التجارب جاذبة لأحد، ولاقت نقداً لاذعاً في الداخل والخارج؛ جعلها تعلق تطبيق بعض العقوبات كما فعلت إيران بتعليقها عقوبة الرجم على الزاني المحصن استجابة لدعوات الاتحاد الأوروبي([1]).

وبقيام ما يسمى بالثورات العربية صعد تيار وحيد على السطح هو التيار السلفي بجناحيه: الإخوان المسلمين والحركة السلفية في العديد من البلدان كمصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، ويتوقع أن تبدأ مرحلة جديدة من الصراع حول هذه القضايا، وذلك لتبني هذا التيار كامل النظريات التاريخية حول موضوع التشريع الجنائي.

وبالطبع ليست المشكلة في تطبيق الشريعة، إنما المشكلة في محاول إعادة إنتاج فقه تاريخي وتمريره تحت غطاء الشريعة، وطالما لم يحصل إعادة قراءة لمجمل هذه القضايا فسنظل بعيداً عن الشريعة وعن الواقع الزمني الذي نعيشه.

 

إسرائيليات في الفقه

قال ابن عباس: (لا تمضي الليالي والأيام حتى يتفقه قوم في الشرائع وهم عن توحيد الله غافلون، قوم يصفون ربهم بالبشر ويسمون من خالفهم كافرين، وهم أولى بذلك وهم الظالمون، يختلفون من بعدما جاءتهم البينات، ويأخذون بالشبهات والمتشابهات وروايات أهل الكتاب)([2])، فابن عباس يصف في هذا النص مشكلة بدأت تطفو على السطح في الجيل الثاني من الصحابة وهي مشكلة فشو روايات أهل الكتاب وذيوعها بين المسلمين، وأنها بدأت تتسلل من خلال متشابه القرآن لتقدم تفسيراً له، وضرب مثالاً على ذلك بما يرويه في ذلك من تشبيه الله تعالى بخلقه.

ويروى أن ابن مسعود (مر بشيخ يحدث عن التوراة، فلما رأى ابن مسعود سكت. فقال: وبم يحدثكم صاحبكم؟ فقالوا: ذكر أن الله لما خلق السموات والأرض صعد إلى السماء من بيت المقدس ووضع رجله على صخرة بيت المقدس…)([3])، وهذا النص يكشف عن التحديث من توراة الكهنة مبكراً، إذن الثقافة والمعارف الإسرائيلية كانت حاضرة في الجزيرة العربية قبل القرآن على المستوى الشعبي، وشكلت رؤية للكون والإنسان والحياة لدى الأميين من العرب، وبعد القرآن ومفاهيمه لاقت الإسرائيليات حضوراً في ثلاثة مستويات:

– تفسير القرآن بروايات أهل الكتاب.

– حضور روايات أهل الكتاب في التراث الإسلامي على هيئة روايات تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته أو التابعين.

– صياغة الإسرائيليات في هيئة قوالب ونظريات فقهية.

وأبواب الفقه التي تسربت إليها الإسرائيليات تعد من المناطق التي قلما يتطرق إليها أحد، رغم وجود العديد من التشريعات التي كانت في شرعة اليهود وتسربت إلى المسلمين في غفلة من الزمن، وأعطيت نوعاً من الشرعية بقراءة معضاة لبعض آيات القرآن، بالإضافة إلى الضغط عليها واستنطاقها بعدد من الروايات التي لا تصح نسبتها إلى الرسول عليه السلام، والتي نشأت وتطورت بفعل مختلف العوامل.

والتشريعات ومنها التشريع الجنائي لدى الأمم السابقة سواء كانت كتابية أو غير كتابية؛ اتسمت كلها أو بعضها بالقسوة والبعد عن الإنسانية وعدم الملاءمة للواقع الإنساني، وقد بين القرآن أن عدداً من الطيبات التي حرمت على الذين هادوا كانت بسبب ظلمهم (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا) النساء:160.

وجاءت رسالة القرآن بوضع كل هذه الآصار والأغلال التي لفت الأمم السابقة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف:157.

ومن التشريعات الجنائية التي كانت عند الأمم السابقة:

– عقوبة قتل النفس التي شرعت على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وتعديهم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة:54

– ما هُدِد به نوح عليه السلام من قبل قومه (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) الشعراء:116، وذات التهديد تعرض له شعيب عليه السلام (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) هود:91، وهو ما تخوف منه أصحاب الكهف (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) الكهف:20.

– ما سنه فرعون من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف والصلب([4]) (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) طه:71، (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) الشعراء:49.

 

 

 

قصاص الجروح في الفقه

من الأمثلة على وجود تسرب إسرائيلي إلى منطقة الفقه الجنائي ما رآه جانب منه من أن (شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه)([5])، وفرعوا عليه أن حكم الإيذاء الواقع على الأعضاء هو المعاملة بالمثلية الحسابية([6])، بمعنى أن من فقأ عين أحدهم تقفأ عينه، ومن كسر سن أحد تكسر سنه ومن أحدث جرحاً بأحد يُجرَح وهكذا، فهماً منهم لقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة: ٤٥.

ومن أهم الروايات التي رويت في ذلك:

عن أنس حدثهم أن الربيع –وهي ابنة النظر- كسرت ثنية جارية فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص. فقال أنس بن النظر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله، لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال: يا أنس كتاب الله القصاص. فرضي القوم وعفوا.

زاد الفزاري عن حميد عن أنس (فرضي القوم وقبلوا الأرش)([7]).

فهذه الرواية ضغطت على فهم الآية (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ…) ليتحول معناها إلى أن المجازاة بالمثلية الحسابية في الجروح هي شرع الله الذي أنزله في القرآن، والأمر على خلاف ذلك، فالآية لا تتحدث عن شرع الله في القرآن، بل عن شرعة التوراة التي حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، وهذا الحكم ليس شرعة لنا بدليل:

1. أن شرعة التوراة هي شرعة آصار وأغلال (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف: ١٥٧، فكيف تكون شرعة الآصار والأغلال شريعة لأهل القرآن، الذين بعث فيهم النبي الأمي بشريعة التخفيف والرحمة؟!.

2. كذلك فإن شرعة التوراة التي حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا كان فيها تحريم لبعض الطيبات بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله كثيراً (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) النساء: ١٦٠، وكان من أهداف بعث عيسى بن مريم فيهم أن يحل بعض الذي حرم عليهم (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) آل عمران: ٥٠، وما ذلك إلا لأن التوراة كانت شريعة آصار وأغلال، فإذن لا يمكن القول إن شرعة الذين هادوا شرعة لنا بأي حال من الأحوال.

3. الآية صريحة في أن هذه التشريعات كتبت على الذين هادوا (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ)، وليست شرعة لأهل القرآن، ومثلها تماماً تشريع (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الأنعام: ١٤٦ ولم يقل أحد من الفقهاء إن التشريعات الواردة في هذه الآية شرع لنا؛ لأنه وبصريح القرآن هي شرعة للذين هادوا، وكل هذه التشريعات التوراتية تمثل توثيقاً لتاريخ التشريع عند الأمم السابقة، لبيان ما اكتنف هذه التشريعات من آصار وأغلال كبلوا بها بسبب ظلمهم وتعديهم، في حين أن شرعة القرآن (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) البقرة: ١٧٨.

4. سياق الآيات القرآنية ينفي بشدة أن تكون هذه التشريعات لأهل القرآن:

أ‌-  أولاً تحدثت الآيات عن شرعة التوراة للذين هادوا ومطالبتهم بتحكيمها (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة: ٤٥ .

ب‌- ثم أعقبتها آيات عن شرعة الإنجيل ومطالبة أهل الإنجيل بتحكيمه (وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة: ٤٦ – ٤٧ .

ج‌-   ثم ختمت الآيات بالحديث عن شرعة الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) المائدة: ٤٨.

وهذا التمايز بين شرعة التوراة وشرعة الإنجيل وشرعة الكتاب يدل بوضوح على أن ما جاء في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) هي شرعة للذين هادوا، أما قول البعض بأن (ما حكاه الله تعالى في كتابه من شرائع  الماضين فهو شرع لنا إذ لا فائدة من ذكره إلا الاحتجاج به ويدل عليه قوله تعالى “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”)([8]) ؛ فهذا الكلام يمثل قصوراً في النظر، على اعتبار أن ذكر مثل هذه التشريعات التي كانت عند الأمم السابقة يرجع في المقام الأول للاعتبار والعظة من تاريخ التشريع؛ كإيراد حكم (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الأنعام: ١٤٦، فهذا الحكم لا يختص بأمة القرآن، وإيراده لأجل ما ذكرنا.

5. أما الأمر بالاقتداء بهدي الأنبياء فيكون فيما أرسوه من تعاليم توحيد الله والتزام بالأخلاق التي جاءت بها شرائعهم وهذا هو المشترك في كل رسالات الأنبياء، وليس الأمر كذلك فيما أنزل من تشريعات ظرفية مختصة بها أقوامهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام: ٨٩-٩٠.

6. وأتصور أن بعضاً من الإشكال والارتباك الفقهي حول هذه المسألة سببه الفهم الجزئي للآية التي سبقت الآية محل الاستدلال، وهي قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة:44، فهي قد وصفت التوراة بأن فيها هدى ونور وأن النبيين الذين أسلموا يحكمون بها للذين هادوا، وعلى ذلك قال الفقهاء قولتهم الشهيرة بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يُنسخ، فالتوراة التي أنزلت مراعية أوضاعاً إنسانية زمانية ومكانية هي هدى ونور بالنسبة لهم، لكنها ومع التغير الحاصل زماناً ومكاناً لم تعد كذلك، فعيسى عليه السلام الذي جاء بعد التوراة قال عن رسالته: (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) آل عمران:50، فرسالته كانت تصديقاً لأصول رسالة التوراة وليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، أي أن رسالته جاءت لرفع آصار حملت من قبلهم بسبب بغيهم وتعديهم.

ولما جاءت الرسالة الخاتمة كانت هي المهيمنة على ما سواها من الشرائع السابقة (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه) المائدة: ٤٨ ، وهذا لا ينفي أنها كانت –أي الشرائع السابقة- هدى ونور وفقاً للطبيعة الإنسانية في وقتها، وما أورده القرآن من ذكر لبعض العقوبات الجنائية التي كانت في الشرائع السابقة هو لأجل العظة والعبرة وفهم مراحل تطور التشريع بما يناسب الناس وحاجاتهم.


 

قصاص الجروح في القانون

لم يأخذ قانون الجزاء العُماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/74) بنظرية القصاص في الجروح السائدة في الفقه، وتبنى نظرية الإيذاء المعروفة في القانون، ونظمها في الباب السادس الخاص بالجرائم الواقعة على الأفراد.

ففي المادة (247) من القانون: (يعاقب بالسجن حتى ستة أشهر أو بغرامة من ريال واحد إلى عشرين ريالاً أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أقدم على ضرب شخص أو جرحه أو إيذائه دون أن ينجم عن هذه الأفعال مرض أو تعطيل عن العمل لمدة تزيد على عشرة أيام.

تتوقف الملاحقة على شكوى المتضرر وتسقط دعوى الحق العام بتنازل الشاكي عن دعواه وإذا كان قد حكم بالدعوى فتسقط العقوبة).

أما المادة (248) فقد نصت على أنه: (إذا نجم عن الأذى الحاصل مرض أو تعطيل عن العمل لمدة تزيد على العشرة أيام يعاقب المجرم بالسجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من عشرين ريالاً إلى مئة أو بإحدى هاتين العقوبتين).

والمادة (249): (يعاقب بالسجن من ثلاث سنوات إلى عشر إذا نشأ عن الإيذاء المقصود:

 1.  مرض لا يرجى الشفاء منه أو يحتمل عدم الشفاء منه

2. فقد حاسة من الحواس

3. فقد أحد الأطراف أو تعطيلها عن العمل أو تعطيل القدرة عن التناسل

4. تشويه دائم في الوجه).

ودون الدخول في تفاصيل قانونية دقيقة؛ الذي يعنينا من كل ذلك أن قانون الجزاء العماني اعتبر إتلاف الأعضاء أو تعطيل منافعها من الجرائم التي يعاقب عليها: بالحبس أو الغرامة أو بالعقوبتين معاً، وتغلظ العقوبة بقدر الإيذاء الحاصل للضحية، وهذا بالطبع لا يلغي حق المعتدى عليه في المطالبة بالتعويض المدني عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحق به.

والسؤال الآن: هل هذه العقوبة تقرها الشريعة أم أن حكم الشريعة في الجراحات أن يُفعل بالمعتدي مثل ما فعل؟.

سبق أن قلت إن مبدأ العين بالعين ليس من شرعة القرآن، إنما حكاه على أنه من بقايا التوراة، وشرعة القرآن ليس فيها مبدأ المجازاة بالمثلية الحسابية في الجراحات، وشرعة القرآن هي قوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى:40، أي أن جزاء ارتكاب السيئة أن يجازى مرتكبها بسيئة مثلها.

والمثلية في الجزاء وفقاً لدلالات القرآن لا تعني بالضرورة المساواة الحسابية، وهذا ما يفهم من معنى المماثلة في الجزاء الواردة في القرآن، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) المائدة: ٩٥، فالمماثلة في اختيار ما يقابل ما قتل من الصيد في الحرم أن يحكم بما يماثله من النعم أو كفارة أو عدل ذلك من الصيام، والصيد قد يكون طيراً وقد يكون من الأنعام أو من حيوانات أخرى، ورغم ذلك قال القرآن إن جزاء ذلك هو ما يماثله من نعم أو الكفارة أو الصيام، أي ما يناسبه ويلائمه.

وفقاً لذلك لدينا الآن عدة مقدمات قرآنية:

أولاً: شرعة القرآن في مجازاة السيئة تكون بسيئة مثلها.

ثانياً: أن المثل في الجزاء وفقاً للغة القرآن لا يعني بالضرورة المثلية الحسابية، بل هو دائر باستمرار مع المناسبة والملاءمة.

ثالثاً: أن شرعة الذين هادوا تقوم على أساس المجازاة بالمثلية الحسابية في الجراحات، وهي من بقايا شرعة الآصار والأغلال التي جاء نبي الرحمة لوضعها عن كاهل الإنسانية.

النتيجة التي نخرج بها أن شرعة القرآن أساسها المجازاة على الإيذاء الجسدي دون تحديد طبيعة هذه المجازاة، مع التنبيه على أن مبدأ العين بالعين هو من بقايا شرعة الآصار والأغلال، وكما قيل إن مبدأ العين بالعين يصنع مجتمعاً من العميان.



[1] جريدة الشرق الأوسط، سبتمبر 2010 م، العدد (11608).

[2] كتاب الترتيب، آثار الربيع في الحجة على مخالفيه (102).

[3] كتاب الترتيب، آثار الربيع في الحجة على مخالفيه (139).

[4] عقوبة تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة:33 هي لمواجهة النهج الفرعوني القائم على استئصال الجماعة المؤمنة من الأرض بهذه الأساليب القاسية والعنيفة، بحيث يكون الوضع إما البقاء أو الاستئصال، فناسبت العقوبة العنيفة ذات الفعل الذي يهدد بقاء ووجود الجماعة المؤمنة (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) الشورى:40، وهنا جاءت العقوبة مماثلة حسابياً للفعل وذلك لوجود هذا الظرف الاستثنائي القائم، والاستثناء في العقوبة لا يُتوسع في تفسيره ولا يُقاس عليه.

وليست العقوبة هنا لمواجهة أي نوع من أنواع محاربة الله ورسوله كالربا؛ أو أي نوع من أنواع الفساد كتقطيع الأرحام أو قطع الطريق، وبسبب الطبيعة الاستثنائية لهذه العقوبة؛ إن تاب من ارتكب هذه الجرائم من قبل القدرة عليه فترفع هذه العقوبات (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) المائدة:34.

[5]  الشيرازي، التبصرة، ج1 ص285.

[6]  محمد سليم العوا في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص287-293. خميس الشقصي، منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، ج6 ص152-218.

[7]  البخاري (2556).

 [8] الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ج1 ص369.

الخامس والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي