شقـــة 5

 الكثيرون معجبون  برواية الأديب  العربي الكبير و الوزير و الدبلوماسي السعودي الراحل  غازي بن عبدالرحمن القصيبي “شقة الحرية” و ذلك لما تحويه من سرد قصصي مبدع للمؤلف و أحداث سياسية و اجتماعية لأبطال تلك الرواية الذين كان جلهم من الطلبة العرب الدارسين في القاهرة في فترة الخمسينيات و الستينيات من القرن العشرين … حيث كانت مصر مقصد الكثير من الطلبة للدراسة بأنواعها المختلفة من الابتدائي حتى التعليم الجامعي العالي ودراساته العليا ، كما كانت موئلا للتنظيمات السياسية العربية و الأفريقية في عهد الرئيس المصري و الزعيم العربي الراحل الرئيس جمال عبدالناصر بمختلف توجهاتها التحررية الاستقلالية ….

و في مصر في تلك الفترة العديد من شقق الحرية و شقق الطلبة في مدنها العديدة التي وسعت وضمت قلبا وقالبا القادمين إليها من مختلف الأقطار العربية والأفريقية والآسيوية طلبا للعلم و اللجوء السياسي وفق التوجهات التي قادها الزعيم جمال عبدالناصر و مناصرته و دعمه لقضايا التحرر في الوطن العربي وآسيا و أفريقيا المناهضة للاستعمار والأنظمة الموالية له والمسنودة من قبله … هذه الشقق  التي مثل الأديب الراحل القصيبي و اختصر أحداثها و وجودها في روايته “شقة الحرية” ….

و لـ”عمان” و الطلبة العمانيين المقيمين الذين قصدوا مصر في فترة الستينيات شقق عدة سكن فيها العديد من الطلبة العمانيين ومن مختلف مناطقها ، و كانت لهم فيها أحداثا و سيرة و ذكريات … إلخ.  و من أوائل تلك الشقق التي تجمع و سكن بها الطلبة العمانيون  بل رائدة تلك الشقق شقة عرفت جزافا بشقة 5 …. هذه الشقة اشتهرت عن غيرها من تلك الشقق التي قطنها الطلبة العمانيون و شاع اسمها عن غيرها ومثيلاتها من شقق الطلبة – سواء في القاهرة أو الإسكندرية أو في دمشق أو في بغداد … إلخ …. فلماذا لا نعرف عن “شقة 5” العمانية ؟ …

شقة 5 هي سكن للطلبة العمانيين “من سلطنة مسقط وعمان و ظفار و إمارات ساحل عمان” وفرتها الحكومة المصرية لمكتب إمامة عمان في القاهرة لتكون سكنا للطلاب العمانيين الذين يأتون للدراسة في مصر و تصرف لهم رواتب شهرية تبلغ 7 جنيهات مصرية من قبل الحكومة المصرية. حالة الطلبة في تلك الشقة هي تكدس و ازدحام و تآخي و بؤس و ميول و ممارسات عدة … و كل يآزر الآخر كعادة العمانيين حين يكونوا بعيدا عن وطنهم.

هذه الشقة كانت مقرا للطلبة العمانيين خلال فترة الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ويحدث فيها ما يحدث من هموم ومشاكل وتآزر بين فتية صغار نشئوا في مجتمع ساده الفقر وقلة الموارد و فرص التعليم ، فتية تركوا بلادهم بل هربوا منها بطرق غير مشروعة و خصوصا أولئك التابعين لسلطان مسقط وعمان و ظفار حيث الممنوعات العدة منها فرص التعليم و العمل و الحصول على جواز سفر و حرية التنقل. فأهل ظفار يضطرون لمغادرة بلادهم أما عن طريق البحر أو عبر الحدود البرية إلى حضرموت و يعانون ما يعانون من وعورة الطريق و شظف المسلك و المقصد … و كذلك أهل مسقط وساحل الباطنة و منطقة الشرقية ومنطقة الظاهرة وعمان الداخل الذين يسلكون الطريق البري أو البحري إلى إمارات ساحل عمان حيث القيود القليلة و متنفس لهم لشراء جوازات سفر من تلك الإمارات بأثمان بخسة … و من ثم يتوجهون إلى الكويت حيث يتم تجميعهم و استقبالهم من قبل جمعيات أهلية عمانية أسسها العمانيون المقيمون هناك ليتم إرسالهم إلى العواصم العربية المختلفة كالقاهرة و بغداد و دمشق عبر قنوات مكاتب إمامة عمان في تلك الدول. أغلب أولئك الصغار يتم إرسالهم إلى القاهرة حيث فتحت مصر أبوابها لهم لنيل العلم و صرفت لهم مخصصات شهرية بلغت أقصاها سبع جنيهات مصرية.

كان المشرف على الطلبة في مكتب إمامة عمان في القاهرة في تلك الفترة الشيخ محمد بن حمد الحارثي يعاونه المترجم العماني محمد أمين عبدالله البستكي صاحب الميول و التطلعات الأقرب إلى اليسارية. و بالفعل كان محمد أمين أبا روحيا و صديقا للطلبة العمانيين. من تلك الشقة انبثقت فكرة تكون التنظيمات السياسية للشباب العماني و التي سمعنا و قرأنا عنها كجبهة تحرير عمان و الخليج العربي و حزب العمل العماني و جبهة تحرير ظفار لما وعاه أولئك الطلبة من حاجة الوطن العماني إلى التغيير و مستقبل أفضل.

إنحسر دور تلك الشقة بعد عام 1968 م حين فتحت حكومة أبوظبي مكتبا لها في القاهرة و منحت الطلبة العمانيين من جميع أنحاء “عمان” بما في ذلك “السلطنة و إمارات الساحل” بعثات تعليمية حسنت من وضعهم السكني و المالي. خير من يكتب عن “شقة 5” من عايشوا فترتها أو سكنوا فيها أو تواجدوا في القاهرة ومنهم الكثير من مسؤولي سلطنة عمان الحاليين ,,, و ما زال الكثير من هؤلاء “الطلبة” على قيد الحياة.

كانت هنالك تجمعات مماثلة للطلبة العمانيين في دمشق و بغداد حيث لفتهم تلك المدن العربية في وقت عز عليهم نهل العلم في وطنهم. وأرتحل بعض أولئك الطلبة بعد أن أنهوا دراستهم أو إقامتهم في القاهرة إلى دول عربية كسوريا و العراق و الجزائر أو إلى الإتحاد السوفيتي و كوبا و بولونيا و ألمانيا الشرقية. حياة كلها شقاء و عناء للعمانيين في تلك الفترة … طفل يغادر وطنه و بيته و والده و والدته و أخوته و أترابه سرا أو جهرا ليذهب ليقابل المجهول !!! … نحن العمانيون نفتقر لمن يكتب عن معاناتنا في تلك الفترة … فهل من يجرؤ على ذلك ؟ !!!

في زمن السادات اعتقلت السلطات المصرية القيادات الطلابية العمانية (من سلطنة عمان و دولة الإمارات العربية المتحدة) وممن كانوا أعضاء في “الإتحاد الوطني لطلبة عمان” و رحلتهم إلى عدن “الشيوعية” و كان ذلك عام 1972 م و تم إغلاق مقر ذلك الإتحاد و حظر تواجده … و أسس بديلا عنه نادي لطلبة عمان و آخر لطلبة دولة الإمارات العربية المتحدة بإشراف سفارتي البلدين. لا أستطيع الكتابة أكثر عن “الطلبة العمانيين في القاهرة” و “شقة 5” لأنني لم أعايش تلك الفترة بل سمعت عنها وفق روايات من أهل أصدقاء وزملاء مروا بها و عايشوا حقبتها … من هؤلاء من استلموا مناصب عليا في عهد جلالة السلطان قابوس في سلطنة عمان و كذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة و منهم من أصبح قيادي في جبهة تحرير عمان والخليج العربي بما في ذلك جبهة تحرير ظفار … إلى أن رضخوا لواقع لا بد منه هو الانخراط في عملية البناء و التنمية التي عمت الوطن بعد عام 1975 م.

… لنا استكمال للحديث عن تلك الحقبة من تاريخ الوطن العماني لنتحدث عن:

–  القسم الداخلي بثانوية الشيخ موض بيت المهلب في دبي

–  ثانوية جابر بن حيان و القسم الداخلي في أبوظبي … و الاعتقالات التي تمت للطلاب و إغلاقه والتحقيق مع قياداتهم و انكشاف جواسيس السلطة منهم و رحيل الطلبة العمانيين إلى الدوحة في قطر ليكونوا تحت عيون الحكومة بعد أن فلت الزمام من عيون الاستخبارات في أبوظبي ومسقط وفتح مدارس لجميع المراحل الدراسية في سلطنة عمان في عهد جلالة السلطان قابوس

مسقط في 13 من ذي الحجة 1431 هـ

18 من نوفمبر 2010

السادس والعشرون سياسة

عن الكاتب

مازن الطائي

كاتب عماني وباحث في الشؤون التاريخية