قبل أن يسقط البرواز المقدس

من خلال القراءات العشر أعلاه، يمكننا القول أن الإصلاحات التي وضعها السلطان متفاعلا مع ثورة فبراير ٢٠١١ تسيير نحو أفق ضيق، ولأن الإشكالية في الحكومة ليست وليدة سنوات قليلة فهي ستحتاج إلى سنوات طويلة لإعادة الأمور إلى نصابها، يبقى السؤال الأهم هل السلطان وهو في هذا العمر قادر على إدارة الحكومة للخروج من الأزمة الحالية وتجنب أزمات مماثلة في المستقبل؟

الدولة مفضلش منها إلا حبة شوم

لو مش مصدّق تعالَ ع الميدان عاين

يا ناس مفيش حاكم إلا من خيال محكوم

تميم البرغوثي – يا مصر هانت وبانت

مقدمة

أكتب هذا المقال، وأنا على يقين تام أنني أتجاوز الحدود الوهمية التي وضعناها نحن الشعب في مناقشة قضايانا المصيرية، تلك الأسئلة التي نثيرها خفية بين الحين والآخر، أو نواريها خلف ستار الولاء المطلق للسلطان، والحرص على المصلحة الوطنية التي اُختزلت في ذاته المقدسة عرفا وقانونا. ومع يقيني التام أن للسلطان مكانة عالية في نفوس الكثير من العمانيين، إلا أنني أرى أن عمان بتاريخها الضارب في جذور التاريخ أكبر من كل مكانة، وأعلى من كل مقام، ومناقشة ما يخص حاضرها ومستقبلها ضرورة وطنية لا يمكن تأجيلها، والسكوت عن طرح هذه الأسئلة خيانة للجيل القادم من أبنائنا الذين نصنع بيدنا اليوم مستقبلهم. لذا فإنني أضع بين يدي القارئ الكريم هذه الأسئلة الكبرى والتي أرجو من نقاشها أن نصل إلى ما فيه مصلحة عمان وشعب عمان بالدرجة الأولى. والسؤال الأكثر إلحاحا في هذه المرحلة هو: هل تحتاج المرحلة الحالية إلى أن يكلف السلطان رئيسا للوزراء يقوم بتشكيل حكومة مستقلة في عملها عن السلطان؟ في رأيي الشخصي أرى أن تكليف السلطان برئيس وزراء منتخب – من الشعب وليس من الأسرة الحاكمة – هو الأنسب للمرحلة القادمة، المرحلة الأصعب في تاريخ عمان بعد الثورة النفطية أو ما نحب  تسميتها بـ(النهضة المباركة). السنوات العشرون الماضية في تاريخ عمان كانت سنوات عجاف أكلن كل ما قبلهن من سنوات سمان، ونحن الآن في مرحلة تستدعي منا اتخاذ خطوات أكثر جرأة لتعديل الوضع العام ولتسيير شؤون البلاد فيما يخدم مصلحة المواطن أينما حل وارتحل. في المقال أدناه تفصيل للأسباب التي أرى أنها تؤدي إلى ضرورة قيام السلطان بتكليف رئيس للوزراء يقوم بتشكيل حكومة مستقلة.

السلطان الاسطورة

لا ريب أن للسلطان قابوس قدرا عاليا عند الكثير من العمانيين، مكانته التي عززها عمله الدؤوب في السنوات الأولى من توليه الحكم لتوحيد العمانيين وتغيير أحوالهم إلى لحال أفضل.. لقد تولى السلطان قابوس الحكم في البلاد وهي منهكة من حرب شنها والده السلطان سعيد بن تيمور على عمان الداخل بهدف توحيدها وإعادة رسم حدودها السياسية. تلكم الحرب التي كانت على جبهتين، جبهة الإمامة التي كانت تسعى إلى استمرارية الحكم الإسلامي وجبهة التحرير التي كانت تسعى إلى اقامة حكم شيوعي. لذا فالمصاعب التي واجهت السلطان في تلكم الفترة لم تكن تهدد البلاد فحسب، بل كانت تهدد بقاء دولة البوسعيد أيضا. لم تكن التركة التي ورثها السلطان من أبيه تركة سهلة فكوّن – حسب خطاباته – رؤية لعمان أن تكون في مصاف الدول المتقدمة، مستعينا ليس بالنموذج الإنجليزي فحسب بل بالكادر الإنجليزي أيضا والذي ساعده في قيادة البلاد منذ ١٩٧٠. هذه الاستعانة لم تقتصر على الإنجليز فقط وإنما توسعت لتشمل الهنود المقيمين في عمان منذ قرون، والعمانيون العائدون من الخارج. السلطان عند توليه الحكم كان المحرك الأساسي لعملية تعمير البنية التحتية في عمان، ولم يكن حكمه مذهبيا أو مناطقيا فشمل الجميع. لذا تكونت لدى العمانيين رغبة شديدة في بناء عمان أفضل لأبنائه وأحفاده حتى أن البعض يروي أن هناك من العمانيين من كان مستعدا للعمل دون مقابل فقط لبناء هذه الأرض التي يحب.

لم تكن الصورة سوداء وقاتمة فقد كان من حسن حظ السلطان أن توليه للحكم جاء في وقت يشهد العالم فيه نقلة نوعية تتمثل في الثورة الصناعية والتي تعتمد بشكل كبير على قطاع النفط. تدفق النفط على دول الخليج أعاد ترتيب الهيكل الاقتصادي والسياسي وتغيير التركيبة الاجتماعية والديموغرافية للمجتمعات الخليجية، فتحولت إمارات الشيوخ إلى دول ذات هيكل سياسي ملكي، وتحول الاقتصاد من الزراعة والرعي والتجارة إلى الاعتماد على النفط، وتحولت التركيبة السكانية من مناطق عربية بحتة إلى دخول العمالة الخارجية التي ساهمت في بناء البنى التحتية لهذه الدول. فمهدت الطرق، وأوصلت الخدمات العامة، وانتشر التعليم وأنشئ القطاع الصحي الحديث، وتمدنت القرى وتغيرت أحوال الناس وطبائعهم.

لذا تزامن وصول السلطان إلى سدة الحكم مع بداية التغيير الخليجي الشامل والذي كانت عمان جزء منه، إلا أن الإنطباع السائد لدى الكثير من العمانيين هو أن هذا التغيير ما كان ليجيء لولا وجود السلطان في سدة الحكم. وقد نجحت الآلة الإعلامية العمانية على ترسيخ هذا الانطباع عن أسطورية للسلطان، وسواء أكان هذا التصوير بحسن نية أو بعكس ذلك فإنها خلقت لنا جيلا جاهلا بتاريخه أو كارها له. وهنا لا أنكر ان للسلطان دور إيجابي كبير على صعيد التنمية، إلا أن الصورة تصبح منقوصة إذا ما لم نضع كامل عناصرها في إطار واحد. صورة جعلها الكثير من المواطنين في برواز أسطوري لا يمكن خدشه أو لمسه، وعملت آلة اعلامية مجندة على تقوية هذا البرواز الاسطوري في عقول العامة من الشعب وتكريس صورة السلطان الذي لا يخطئ ولا تعزب عنه مثقال ذرة. حتى أصبح كل نقد للسلطان خطيئة بنص القانون، فسحبت بعض العقول هذا البرواز الأسطوري على حكومته، فاعتبر – في وقت ما – نقد الحكومة نقدا مباشر للسلطان، كيف لا وهو رئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير الدفاع ووزير المالية؟!

الحالة العامة

هذه الصورة الأسطورية إهتزت في فبراير ٢٠١١، فلا نخفي سرا أن الوضع في عمان انفجر بعد أشهر بسيطة فقط من تكريم السلطان لسدنة الحكومة والنافذين فيها. هذه الفئة التي أحاط السلطان بها نفسه فعزل رأس الهرم عن قاعدته. ففي حين كان الشارع يغلي بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، كان السلطان يصرح في مجلس الوزراء عن ارتياحه للتطورات في الوضع الاقتصادي. إلى أن أصبحت الديون تثقل كاهل أصحاب الدخل المتوسط من المتعلمين وأصحاب المهن الحرفية و أصحاب الدخل المحدود، كان المقربون من السلطان – على الرغم من قلة محصلتهم العلمية والثقافية – ينعمون برفاهية اقتصادية عالية. وفي حين تردى فيه الوضع التعليمي في عمان، كان أصحاب الطبقة المتوسطة والراقية يعلمون أبناءهم في مدارس خاصة وينعمون بتعليم أفضل نسبيا عما تقدمه الحكومة في التعليم المجاني. وفي حين تردت فيه الأوضاع الصحية في عمان حيث يلاقي الأمرين من بطء وسوء الخدمات الصحية، كان الوزراء والمقربون من السلطان والديوان ينعمون بأرقى الخدمات الصحية في ألمانيا وبريطانيا. هذا الانقسام الهائل بين طبقات المجتمع أدى إلى انقسام الهرم العماني، فرأس الهرم وحاشيته من الصف الثاني يعيشون حياة مترفة في حين يعاني أصحاب الدخل المتوسط والدخل المحدود من الوضع المعيشي الصعب. كيف إذا حدث هذا الانقسام؟ وكيف تطور وماهي أسبابه؟

الرحمة الظاهرة والعذاب الباطن

لقد سعت الحكومة إلى تقليل الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل، لذا لجأت إلى خطة تنموية تهدف إلى أن يكون القطاع الخاص المحرك الرئيس لاقتصاد الدولة، في خطة بناها المقربون من السلطان سميت بخطة ٢٠٢٠ وهو العام الذي يجب أن تصل فيه الدولة إلى هذه الغاية المنشودة. على الرغم من جمال الخطة وسمو هدفها الظاهر إلا أن في باطنها العذاب، فقد هدفت وبشكل واضح إلى ضرب أكبر قطاعين مدنيين يستهلكان ميزانية الحكومة، وهما قطاعي التعليم والصحة. تبنت الحكومة من خلال وزارة التربية والتعليم ضرب المنظومة التعليمية في عمان، هذا الأمر حسبما يرى الساسه أنه سيعزز القطاع التعليمي الخاص من خلال انتشار المدارس الخاصة، مما سيخلق تنافسا بين هذه المدارس وبالتالي تطوير وسائل التعليم. ويبدو أن هذه النظرية سحبت أيضا على النظام الصحي بحيث تصبح المؤسسات الصحية تابعة للقطاع الخاص وتتولى شركات التأمين على القطاع الصحي تسيير هذه الخدمة باستجلاب النموذج الأمريكي. لقد أبعد مستشارو السلطان من حساباتهم البعد الإنساني والثقافي من هذه الحسابات، وأبعدوا أيضا عن حساباتهم سرعة تغير المعطيات العالمية والاقتصادية وراهنوا على المتغير – النظريات الاقتصادية – في حين تجاهلوا الثوابت – التعليم العالي والصحة للجميع – والتي بإمكانها أن تضمن أفضل الأحوال للمواطنين. لقد بدا واضحا أن”تجهيل” المواطن العماني- وليس تعليمه – يمثل خطرا على الأمن القومي. فضرب المنظومة التعليمية الحكومية المجانية أدى إلى خروج جيل غير واع من خريجي الثانوية. في حين تختلف الصورة لدى المدارس الخاصة حيث يخرج جيل أفضل تعليما من أقرانهم، فأصبحت فرص التعليم العالي لأصحاب المدارس الخاصة أكبر من أقرانهم من المدارس الحكومية، وهذا الأمر يزداد سوءًا يوما بعد يوم. الأمر الذي حدا بدخول أصحاب التعليم الخاص إلى قطاعات أفضل في التعليم العالي ومنها إلى وظائف أفضل لاحقا، في حين أصحاب خريجوا المدارس الحكومية يحظون بفرص أقل في التعليم العالي وبالتالي دخولهم إلى وظائف أقل دخلا. الأمر الذي أدى بطبيعة الحال إلى زيادة الفجوة بين الطبقة المتوسطة والطبقة الفقيرة أو ذات الدخل المحدود.

ما ذكرته أعلاه ليس إلا قمة رأس جبل الجليد عن المأزق الذي وضعتنا فيه حكومة يقودها جلالة السلطان، والذي قامت ثورة العمانيين في فبراير٢٠١١ للإطاحة بالرموز التي ظن المواطن العماني أنها السبب في الحالة السيئة التي وصل اليها الوطن. لقد تفاعل السلطان قابوس مع ثورة العمانيين في ٢٠١١ عن طريق تبنيه مجموعة من الإصلاحات أدت إلى إسقاط مجموعة الوزراء الذين خرج الشعب لإسقاط معظمهم، وأدخل مجموعة من الوزراء المنتخبين أعضاء لمجلس الشورى إلى مجلس الوزراء، وقام بتعديلات دستورية على مستوى مجلس الشورى ومجلس الدولة وعلى مستوى النظام الأساسي. كذلك أدخل مجموعة من الاصلاحات التي تهدف إلى تحسين الوضع الاجتماعي والتي طالب المواطنون بها مثل السماح بالصيرفة الإسلامية وإنشاء صندوق للزواج. كما أمر بإعطاء معظم العاطلين عن العمل مبلغ ١٥٠ ريال عماني بشروط مبهمة وغير واضحة لمعظم المواطنين. أضف إلى ذلك إدخال مجموعة كبيرة من العاطلين عن العمل إلى الوظائف العسكرية في الشرطة والجيش.

إصلاحات وقراءات

بيد أن هذه الاصلاحات التي وضعها السلطان تبدو لي ضعيفة ولم تأتِ بعد دراسة متأنية وإنما جاءت لتحتوي الأحداث التي انفجرت في فبراير ٢٠١١. وأعلل هذا الضعف في عدة قراءات:

القراءة الأولى: التوظيف السريع في القطاع الحكومي والذي بإمكاننا تمثيله بالكوليسترول الذي يسد أوردة الحكومة وقد يؤدي إلى أزمة قلبية تؤدي إلى وفاتها. هذا التوظيف تم في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة أصلا تحديات كبيرة لم تتمكن من تجاوزها في نظام الخدمة المدنية، مع غياب نظم واضحة لتطوير وتأهيل الكوادر العاملة داخل القطاع الحكومي. الكثير ممن تم توظيفهم في القطاع الحكومي لا يقومون بأشياء تذكر في الوقت الذي نجد فيه الكثير من العاملين المتطوعين في محافظات السلطنة أو العاملين بالعقود المؤقتة داخل الحكومة لم يتم توظيفهم أو تثبيتهم وبالتالي حرمانهم من حقوق التقاعد، الأمر الذي سيتسبب بشكل أو بآخر إلى ازدياد الاحتقان داخل القطاع الحكومي نفسه.

القراءة الثانية: توظيف أعداد كبيرة من المواطنين في القطاع العسكري وإدخال أفواج منهم إلى هذا القطاع دون وضع خطة واضحة لمدى قدرة المعسكرات على أقل تقدير في استقبال هذه الأعداد فجأة. هذا الأمر وضع القطاع العسكري تحت ضغط كبير ومفاجئ.أضف إلى ذلك أن هذا الحشو المفاجئ للمؤسسة العسكرية إلى سلبيتين، أولها خروج الكثير من القطاع الخاص وطلاب المدارس للالتحاق بالعسكرية، وثانيها خروج بعض ممن التحق مؤخرا بالعسكرية ليعودوا إلى مصاف الباحثين عن العمل. أيضا يحق لنا أن نتسائل هل رصدت أية ميزانية خاصة للمؤسسات العسكرية لتقوم بتدريب هذه الأفواج بهذا الشكل المفاجئ؟ لذا أرى أن خطة الامتصاص نحو العسكرية لن تتقدم كثيرا.

القراءة الثالثة: وضع راتب إعانة للباحثين عن العمل ومقداره ١٥٠ ريال، والتخبط في هذه المسألة بدأ منذ الأيام الأولى، ويبدو جليا أنها سترهق ميزانية السلطنة على المدى الطويل، ولن تتمكن لاحقا كما لم تتمكن حتى في الوقت الحالي من تسيير هذه المعونة لجميع مستحقيها، بل وصلت في بعض الأحيان إلى غير مستحقيها. لذا فهذا أمر آخر سيؤدي إلى زيادة الاحتقان لدى الباحثين عن العمل غير المستفيدين منها.

.

القراءة الرابعة: تكريس سياسة التعمين في القطاع الخاص بدلا من سياسة التأهيل، الأمر الذي أثقل أصحاب التجارة المتوسطة والصغيرة وأرخى الحبل عن التجار الكبار. التعمين يهدف إلى وضع نسبة معينة فقط من العمانيين داخل القطاع الخاص دون وجود برنامج حقيقي لتأهيل وتطوير الكوادر العمانية لتستلم المناصب التي يشغلها الوافدون. الأمر الذي سيؤخر من ازدياد دخل المواطن داخل القطاع الخاص والذي سيعجل بالكثير من الاضرابات العمالية نتيجة لعدم إتاحة الفرص للعماني الارتقاء في السلم الوظيفي في مقابل الأجنبي الوافد. لا بد من إحلال سياسة التأهيل بدلا من التعمين بحيث يتسارع دخل العماني مع ازدياد سنوات الخبرة بشكل مطرد يسمح له بتولي مناصب جيدة داخل القطاع الخاص والتي يشغلها الكثير من الوافدين الآن.

.

القراءة الخامسة: أن التطوير السياسي الذي ينبغي أن يرافق محاولات الاصلاح الاقتصادي يبدو جليا أنها لشراء وقت أطول تحسبا لأي خروج من قبل الناس مرة أخرى للمطالبة بإصلاحات سياسية حقيقية، فتعديلات مجلس الشورى جاءت بعد أن قام الناس باختيار مجلس الشورى الحالي والذي قاطعه الكثير بسبب عدم وجود إصلاحات ملائمة قبل اختيار الشعب للمجلس، لذا فإن المجلس الأقوى سيكون في أفضل الأحوال بعد ثلاث سنوات من الآن. هذا الأمر يجعلنا نتسائل بصدق عن وجود رغبة حقيقية للإصلاح، فما الداعي إلى هذه التأخير في الإصلاحات السياسية؟ وما الداعي إلى شراء الوقت لإيجاد مجلس شورى قوي؟!

القراءة السادسة: لا توجد إصلاحات جذرية في قطاعي الصحة والتعليم (بشقيه العام والعالي)، وعلى الرغم من مؤشرات وجودها إلا أنها ستأخذ وقتا طويلا، والمؤشرات الواضحة تبدو أن أول ثمار على وتيرة الإصلاح الحالية ستكون بعد حوالي عشر سنوات إلى اثني عشرة سنة من الآن. الأمر الذي يجعلنا نرى أننا ماضون في سياسة الخطة سيئة الذكر المسماة بـ ٢٠٢٠

القراءة السابعة: السلطان ما زال يعتمد في قراراته على دائرة معينة من المستشارين المقربين في الإصلاحات المطروحة، لذا فإن الأطروحات ستظل نفسها وذاتها والسياسة المعتمدة داخليا فيما يتعلق بالقطاع المدني ستظل تدور في حلقة مفرغة ستؤدي حتما إلى زيادة احتقان الشارع العماني، وهو مؤشر آخر أن السلطان لن ينتهج سياسة اخرى تجاه المستقبل، وعدم تغيير السياسات في الوقت الحالي سيؤدي بالتأكيد إلى ذات النتائج.

القراءة الثامنة: تغيير مجموعة من القوانين بما يضمن تكبيل حرية الأفراد وتقييدها من أمثال حق التظاهر السلمي، وإعطاء سلطة أكبر للجهات العسكرية في الاعتقال بسلطة تقديرية، الأمر الذي يجعلنا أمام قانون طوارئ يسمح بتقييد حريات الأفراد. الأمر الذي يعطي مؤشرا آخر أن الدولة تسير في الاتجاه الخاطئ للإنفتاح والحرية

.

القراءة التاسعة: النجاح النسبي الضعيف للإصلاحات والذي لم يكن متسارعا بالشكل المطلوب أدى إلى إضعاف مكانة السلطان لدى نفوس البعض من أبناء الجيل الحالي، فأصبحنا نشاهد الكثير من التعدي على شخصه دون خوف أو وجل من أية عقوبة. الأمر الذي تحاول الأجهزة الامنية مجابهته باستخدام الحلول الأمنية من اعتقالات وتحقيق ومحاكمة. هذا الأمر بلا شك سينعكس سلبا على السلطان، ومهما بلغت درجة القوة في التعامل مع هذا الأمر فسيؤدي حتما إلى انتشار الموضوع واحتمالية زيادة إضعاف هذه الهيبة في نفوس العمانيين.

القراءة العاشرة: لم تبقى أية شماعة يعزى إليها عدم اتخاذ خطوات إصلاح حقيقي، مما سيجعل الناس حتما يتساءلون عن قدرة السلطان على قيادة الحكومة في هذا العمر بل وحتى عن مدى رغبته في هذا الفعل، ونجد في مقابلته مع أحمد جار الله استشهاده بقول المتنبي أن النفوس اذا كبرت تعبت في مرادها الأجسام.

الخطوة الجادة…الخطوة الصعبة

من خلال القراءات العشر أعلاه، يمكننا القول أن الإصلاحات التي وضعها السلطان متفاعلا مع ثورة فبراير ٢٠١١ تسيير نحو أفق ضيق، ولأن الإشكالية في الحكومة ليست وليدة سنوات قليلة فهي ستحتاج إلى سنوات طويلة لإعادة الأمور إلى نصابها، يبقى السؤال الأهم هل السلطان وهو في هذا العمر قادر على إدارة الحكومة للخروج من الأزمة الحالية وتجنب أزمات مماثلة في المستقبل؟ فالسلطان يرسم بشكل فردي السياسة العامة للدولة من خلال مجموعة من المستشارين الذين أعتمد عليهم سابقا في رسم هذه الخطط وبالتالي فإن وجود خطط مغايرة لما كان عليه الأمر سابقا أمر غير وارد. كما أن وجود مرشح المكتب السلطاني الذي يقوم بترشيح ما يصل وما لا يصل إلى السلطان يبقي على إطار العزلة بين السلطان وبين شعبه، وما يذكر عن مقابلة السلطان للمواطنين في الجولات السلطانية – التي قلت بشكل كبير مؤخرا – من أنه برلمان مفتوح أمر مناف للواقع. هذه الجولات هي أشبه بالمهرجانات منها إلى البرلمانات، ففيها يلقي المتزلفة من الشعراء قصائدهم على السلطان ويكتب شيوخ القبائل مطالبهم الشخصية التي يرجون منها نفعا خاصا إلا من رحم ربي. أضف إلى ذلك أنه لا يوجد مؤشر واضح على إلتقاء الكابينة الوزارية بشكل دوري مع السلطان سوى مرات قليلة في السنة، فالمجلس يجتمع كل ثلاثاء دون وجود السلطان في هذه الاجتماعات، ومن ثم يرفع التوصيات مما يعني عدم وجود قيادة حقيقية للمجلس. هذه القرارات تأتي مع وجود نائب لرئيس الوزراء لا يملك الكاريزما ولا القدرة على قيادة المجلس، بل لا يملك حتى الصلاحية لهذا الفعل. ناهيك عن عدم وجود جرأة حقيقية أو رغبة حقيقية لدى الوزراء لاتخاذ قرارات بإمكانها أن تحدث تغيرا فعليا على أرض الواقع. فما زلنا نشاهد وجود آلية عمل “الأوامر السلطانية” وهو ما أسميته سابقا بقوبسة الفعل بحيث كل فعل تفعله الحكومة عائد إلى أوامر السلطان وليس نتاجا لعمل الوزير. كما أن هذه “الأوامر السلطانية” – والتي كانت تسمى مكرمات – لا تأتي ضمن الخطط السنوية لمجلس الوزراء، هذا الارتجال في صنع قرارات سريعة ناقشنا أثره أعلاه في القراءات العشر، ويدل مرة أخرى على وجود حالة فصام بين المجلس وبين رئيس الوزراء. أضف إلى هذا أن وجود السلطان في رئاسة الوزراء يعطي المجلس سموا على مجلسي الشورى والدولة، وهذا الوضع غير طبيعي في العمل البرلماني حيث يجب أن تكون للمجالس البرلمانية اليد العليا عند اتخاذ الحكومة لأية قرارات من شأنها أن تمس بمصالح الوطن والمواطن. والإشكالية الأخيرة في هي افتقار المجلس لقائد قادر على تنسيق خطط العمل بين الحقائب الوزارية، وهذا واضح وجلي في التناقضات والتخبطات التي تظهر عند استجواب الوزراء في مجلس الشورى، فكل وزير يرمي الكرة في ملعب غيره من الوزراء، مما يدل على عدم وجود شخص صاحب الصورة الاكبر في تسيير شؤون الوزارات. إذا نحن بحاجة الى تغيير حقيقي في هيكلة الحكومة يتمحور في إيجاد مجلس وزراء أكثر ديناميكية من خلال تكليف رئيس وزراء شاب من عامة الشعب يقود عملية التغيير برؤية جديدة وواضحة لعمان.

بين التكليف والتعيين

أود أن أوكد على ضرورتين في موضوع رئيس الوزراء، الضرورة الأولى هي أن يكون رئيس الوزراء مكلفا وليس معينا، بمعنى أن يقوم السلطان بتكليفه بتشكيل حكومة وأن تعرض الحكومة على مجلس الشورى لأخذ الثقة ومن ثم رفع التشكيلة الحكومية إلى السلطان. هذا يقف ضد التعيين المباشر من السلطان لرئيس الوزراء، والقيام بالتعيين – على الرغم من اعتباره خطوة تقدمية أولى – بإمكانه أن يخلق ردة فعل عكسية على رئيس الوزراء وهي أنه سيضطر إلى العمل مع حكومة لم يقم بتشكيلها ولا يمكنه التعامل معها. الضرورة الثانية هي أن يكون رئيس الوزراء من خارج الأسرة الحاكمة (آل سعيد) فوجود أحد أفراد الأسرة في هذا المنصب سيبقي على حساسية النقد عالية والتعامل ما بين مجلس الوزراء ومجلس عمان عالية. على رئيس الوزراء أن يكون من عامة الشعب ولعامة الشعب إن أردنا بالفعل أن نخطو خطوة متقدمة في مجال الإصلاح السياسي في عمان.

 

خاتمة

أود أن أذكر بشيء في ختام هذه المقالة، وهي أن بقاء السلطان في منصب رئيس الوزراء بالإضافة إلى الحقائب الوزارية الأخرى التي يتقلدها سيؤثر سلبا على صورته إذا ما ظل الوضع الاقتصادي والسياسي للمواطن العماني على ما هو عليه، وجود رئيس وزراء مكلف من قبل الشعب سيخفف بشكل كبير من هذا الاحتقان وسيكون في صالح السلطان لا ضده. كما أود أن أذكر أيضا أن عامل الإحساس بالزمن لشعب أغلبه من الشباب مختلف عن شخص في السبعين من عمره، فما يراه الشاب الصغير وقتا طويلا يراه الرجل المسن وقتا قصيرا جدا، لذا فإن الشباب العماني عجول في رؤية ثمار الإصلاحات وإن لم يرها في القريب العاجل فحتما سيرتفع سقف مطالبه إلى ما لا نريد أن نصل إليه. أود أن أذكر أيضا أن إشكالية وجود حاكم (بمعنى مسير لشؤون الأمة) كبير في السن أدت في السابق إلى وجود حرب أهلية عمانية بين الغافرية والهناوية وهو أمر عمل السلطان – أطال الله في عمره – بشكل جاد على محوه من عقلية المواطن العماني. لذا فإن تكليف رئيس وزراء من الشعب غدا أمرا ضروريا وملحا، مع بقاء السلطان مظلة وطنية للجميع يضع مرئيات عامة للبلد، ويكون أطال الله في عمره ملهما لهذا الشعب. هذا الأمر سيعزز من صورة السلطان لدى أبناء الشعب، خصوصا من الجيل الجديد والذي يبدو ان مقدار النقم والحدة لديه يزداد مع ازدياد الصعوبات الاقتصادية. وأؤكد أخيرا أن عمان ولّادة وأن في العمانيين الكثير ممن يمكنهم رئاسة الوزراء وقيادة الحكومة نحو الأفضل. إن وجود رئيس وزراء مكلف في هذه المرحلة ليس ترفا سياسيا أو ألعوبة للمراوغة في إبقاء الوضع على ما هو عليه، وإن ما أراه ضرورة سياسية لإيجاد رؤية جديدة لعمان، ولرفع كفاءة الحكومة وفاعليتها. أقول لنضع عمان نصب أعيننا عندما ننظر إلى مستقبلها، وليكن الجميع في هذا الإطار الوطني، وليكن البرواز الوطني الذي يجمع البلاد هو البرواز المقدس والذي سنظل نرفعه حتى لا يسقط البرواز المقدس.

بوركتم وبوركت عمان

بيروت

١٠ يونيو ٢٠١٢

السادس والعشرون سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية