السعيد من اتعظ بغيره .. والشقي من اتُعظ به

حقيقة لم أتفاجأ أبدا بما قاله “بنيامين بن اليعازر” عضو الكنيست ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق عندما قال عقب اتصاله الهاتفي بالرئيس المصري السابق حسني مبارك بعد أيام من الإطاحة به إن”الرئيس السابق اشتكى له كصديق من تخليّ أمريكا عنه في أصعب المواقف وأن مبارك ظل لنصف الساعة يشكو له عن نكران أمريكا لكل ما قام به لصالحها طوال 30 عاما”

واعتبر بن إليعازر “أن مبارك منع الكثير من الحروب، وضمن الاستقرار والثبات والأمان، وعمل كل شيء مستطاع لكي يتحول هذا الشرق الأوسط إلى الغرب وأن مبارك خدم الغرب، وكان مؤيدًا له بلا أي تحفظ، وأن الدولة التي خدمها أكثر من غيرها هي أمريكا، وكان نظامه القاعدة الأساسية الأقوى للغرب في المنطقة، عدا إسرائيل طبعًا” وأشار بن اليعازر في حديث تناقلته الصحافة الإسرائيلية أن مبارك كان متعاونًا مع أمريكا وكانت العلاقة بين الجانبين علاقات حسنة للغاية، مستنكرًا عدم مساعدتها له وقت خروج الشعب المصري ثائرًا ضده في أحداث ثورة 25 يناير، قائلا: “الأمر القاسي في كل هذه الصورة والأكثر سخرية أن هذه الدولة التي خدمها أكثر من 30 سنة، هي الدولة التي قالت له: قم واترك عرشك”، مشيرًا إلى أن أكثر من دولة رفضت مساعدة مبارك لأنه أصبح “إسفنجة لم تعد صالحة للاستعمال”.

فما قاله بن اليعازر عن مبارك ينطبق على الكثيرين ممن خدموا أمريكا على حساب أوطانهم وشعوبهم ولن يكون بالتأكيد آخرهم، لأن الزعماء يعتقدون أن في تمسكهم بأمريكا أو بأي دولة أخرى هو حماية لهم وأن في ذلك يستمدون شرعيتهم، بينما الشرعية دائما تستمد من الداخل ومن الشعب وليس من الخارج، لأن الاعتماد على الشرعية من الخارج – أيا كان هذا الخارج ومهما بلغت قوته – هو نوع من بيع الأوطان، فالدول الكبرى تبحث عن مصالحها فقط ولا تؤمن بشيء أو بمبدأ اسمه الأخلاق، ولنا أن نرى على مدى التاريخ كم تخلت أمريكا عن حلفائها مجرد ما أصبحوا “إسفنجة لم تعد صالحة للاستعمال” حسب وصف بن اليعازر

والمثير أن الرئيس مبارك من أكثر الرؤساء في العالم الذين رأوا أكثر من إسفنجة أمامه وهي تتساقط أو ترمى بعد انتهاء صلاحيتها لكنه لم يتعظ بما رآه حتى أصبح هو نفسه عبرة لمن يعتبر، ولكن هل من معتبر؟!

لقد رأى مبارك رأي العين وهو نائب للرئيس السادات كيف تعاملت أمريكا مع حليفها السابق شاه إيران عندما تخلت عنه وضيقت عليه الأرض بما رحبت بعد أن كان شرطيها في المنطقة، وكيف أن إسرائيل التي خدمها الشاه على حساب العرب تخلت عنه كذلك، وكيف كان مصيره؟ ولقد تألم الشاه وهو يبكي أمام صديقه السادات ويقول له لقد حاولت أمريكا أن تختطف طائرتي من الجو، ولقد ظن الشاه أن خدماته الكبيرة لأمريكا سوف تشفع له رغم أنه شاهد بعض الإشارات إذ يقول “وليم سوليفان” آخر سفير أمريكي في إيران قبل رحيل الشاه في كتابه: ” أمريكا وايران: ” التفت الشاه نحوي وقال: إن هناك مؤامرة أجنبية تنشط ضدّي وأنا لا أستغرب أن يفعل ذلك السوفييت والإنجليز لكن مما يحزنني من الأعماق أكثر من أي شيء آخر هو دور وكالة المخابرات الامريكية “سي آي ايه” في هذه المؤامرة ولا زلت أسأل نفسي عن الأسباب التي جعلت المخابرات الامريكية تشترك في المؤامرة؟.. ما الذي اقترفته ضد أمريكا حتى تعاملني بهذه الطريقة القاتلة؟ “

وفي كتاب ” الشاه وأنا ” وهي مذكرات وزير البلاط ” أسد علم ” نقرأ عن الشهور الأخيرة لحكم الشاه إذ زار الرئيس كارتر وزوجته طهران وفي قصر “نياوران” الإمبراطوري كان الشاه وضيفه يحتفلان ويتبادلان النخب

احتفالا بليلة رأس السنة الميلادية في 31 ديسمبر 1977 عندما وقف كارتر رافعا كأسه لتحية مضيفه قائلا ” جلالة الشاه أهنئكم على تمكنكم من الحفاظ على مملكتكم كبحيرة هادئة وآمنة في هذا العالم المتلاطم الأمواج والمتنوع العواصف، إننا جئنا إليكم لنتعلم الحكمة”، ولكن بعد 10 أشهر من هذا الحديث وفي القصر ذاته كان الشاه يستقبل الجنرال هايزر مبعوث الرئيس الأمريكي ووليم سوليفان السفير الأمريكي في طهران آنذاك ليسلماه رسالة الإدارة الأمريكية المتضمنة طلبا مباشرا بمغادرة إيران و “ترك الجمل بما حمل” وتسليم إمبراطوريته ومملكته لقادة الثورة الإيرانية التي قادها الإمام الخميني من منفاه في فرنسا، وهكذا خرج محمد رضا بهلوي ( ملك الملوك ونور الآريين ) من إيران مستسلما للإرادة الامريكية وأخذ معه حفنة من تراب إيران ليشمه وليعيش متشردا في المنافي إلى أن مات في مصر التي ناصبها العداء أيام الزعيم جمال عبد الناصر وكان من أشد المؤيدين لإسرائيل على حساب العرب، ولم تقدم له أمريكا أي مساعدات حتى الإنسانية منها بل نجدها فكرت في اختطافه في الجو وهو خارج من بنما إلى مصر لكي تسلمه لإيران حتى لا تتضرر مصالحها هناك.!

ثم إن الرئيس مبارك رأى بعد ذلك بعام واحد فقط كيف صار مصير سلفه الرئيس السادات الذي أُغتيل بجواره ولم تستطع أمريكا أن تفعل شيئا رغم الحماية الأمريكية الشديدة مما أربك الإدارة الأمريكية التي تولت تأمين الحراسة على الرئيس باتفاق بين السادات وهنري كيسنجر.! والرئيس السادات هو الذي سلم القضية كلها لأمريكا لإيمانه بأن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا.

إن حركة التاريخ مستمرة ولن تتوقف، وعلى من يريد أن يكون سعيدا عليه أن يتعظ بغيره وإلا سيُتعظ به ولكن يبدو أن المتعظين قليلون لأن منطق الأمور يقول إن هناك مصالح دائمة لا صداقة مع أحد تدوم ولا وفاء يستمر لأحد، وهذا هو المنطق السياسي الأمريكي في التعامل مع الأنظمة الحاكمة في كل زمان ومكان، ولا يظنن ظان أن هذا المنطق يستثني أحدا مهما بلغ ومهما قدم من خدمات، فلا يمكن أن يتجاهل أحد ما قدمه الشاه لأمريكا وما قدمه حسني مبارك من خدمات جليلة على مدى 30 عاما أدت بمصر إلى أن تكون دولة في دكة الإحتياط بعد أن كانت دولة قائدة ورائدة في المنطقة لدرجة أن عملت على حصار الفلسطينيين في غزة وعملت على تدمير العراق وتعاونت تعاونا تاما مع إسرائيل ضد مصالح الأمة العربية وسلمت الغاز المصري لإسرائيل في وقت عانى فيه المصريون من شظف العيش ما عانوه.

إن مبدأ “الإسفنجة المستعملة” ليس فيه مكان للعواطف ولا للأخلاق ولا لحليف أو صديق إذ المعيار الوحيد هو المصلحة فقط, وعلى رأي “مجدي كامل” في كتابه “كيف تبيع أمريكا أصدقاءها؟ إستراتيجية الغدر الأمريكي عبر التاريخ” يرى أنه لا مكافأة نهاية خدمة للصديق أو الحليف الذي أفنى نفسه في خدمة العم سام ولا مكان لحقوق الإنسان أو أية مصطلحات أو مفاهيم أخرى تحمل شبهة أي شيء يتعلق بالانسانية !!

إن الفرصة ما زالت موجودة لمن يريد أن يتعظ، ولقد مر على الحكام العرب العديد من العبر منها على سبيل المثال ميتة القذافي الشنيعة، فأمام الحكام الفرصة الكاملة كي يعيدوا النظر في علاقاتهم مع شعوبهم لأن كسر حاجز الخوف قد انطلق من تونس ومر بليبيا ومصر واليمن وسوريا وهو لن يتوقف أبدا إلا إذا تصالحت الأنظمة مع الشعوب واستمدت الشرعية من الداخل مع وجود العدل والشفافية وحماية الحريات العامة والخاصة وحقوق المواطنين مع الحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقياته، وهذا هو أقوى أسلحة التحصين، وقديما قال أحدهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه “حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ يا عمر”

Zahir679@gmail.com

السابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com