استقرار أنظمة الحكم : من المشاققة الثقافية إلى الثقافة السياسية

تسعى أغلبية أنظمة الحكم الإقليمية اليوم إلى الاستقرار بعد الحالة التاريخية الاستثنائية التي سادت ولا زالت نتائجها وأعراضها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية تعصف بتفاوت على اغلب رقعة الشطرنج العربية , والتي استطيع التأكيد على أنها كانت ولا زالت وستظل ” نقطة اللاعودة التاريخية ” لمرحلة ما قبل ما أطلق عليه بثورات الربيع العربي , فهذه المرحلة الحضارية والتاريخية التي نعيشها اليوم في عالمنا العربي هي بحق نهاية حقبة من التاريخ العربي وبداية مرحلة تاريخية أخرى منه .

ولو رجعنا قليلا لقراءة التاريخ العالمي للثورات لوجدنا الكثير من التشابه التاريخي بينها – أي – بين الثورات العربية التي بدأت مع نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن 21 , وتلك الغابرة في عمق التاريخ الثوري الإنساني , كما يمكن ملاحظة تشابه الحالة الذهنية والحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي للجماهير قبل وأثناء وبعد القيام بالثورات , وتشابه اكبر في الرغبات والغايات التي من اجلها تحركت الجماهير والشعوب لإسقاط الأنظمة السياسية وما يسمى بالدكتاتوريات القمعية , وكذلك التناقضات والتحولات وحالات الشد والجذب والفوضى والحروب والصراعات التي دامت وساد بعضها في الرقعة الجغرافية الثورية أو البيئة الحضارية الثورية لأكثر من عقد من الزمن في بعض الأوقات .

هذا بالإضافة إلى العديد من الملاحظات التي لا يمكن تجاهلها , وهو ما يجعلنا اليوم لا نقع في فخ الاستغراب أو استعجال استقرار الحالة الفوضوية التي تسود بعض أو اغلب إرجاء رقعة الشطرنج العربية التي عصفت بها تلك الثورات بشكل مباشر أو غير مباشر , فهي حالة حضارية طبيعية , ولكن , وهو بالطبع ما نسعى للوصول إليه هنا , ونقصد بان كل ذلك ( لا يمنع سير المسيرة البشرية نحو الأمام , فالأمثلة التاريخية كثيرة حول ذلك , حيث كانت بلاد الإغريق تزدهر في وسط اعتي الحروب , وكان الدم يسيل غزيرا بينما جميع البلاد مزدحمة بالسكان , وكان يبدو كما قال مكيافيللي : إن جمهوريتنا في وسط التقتيل والنفي والحروب الأهلية تصبح بهذا قوية ….. إن فضيلة مواطنيها وطباعهم واستقلالهم كانت أكثر تأثيرا في توطيدها مما عملت جميع الفتن والانشقاقات لإضعافها ) .

إذا وكما تقع الثورات وتنطلق من الفرد والنسيج الاجتماعي في حالة من الحالات التاريخية والذهنية الإنسانية , ويعيش طرفي الصراع الاجتماعي والسياسي في حالة من الفوضى والشقاقات والتجاذبات لمدة زمنية ليست بالقصيرة , فان استقرار الأفراد والمجتمع النظام والدولة بعد القيام بذلك العمل الثوري لابد أن ينتج من المجتمع الثوري نفسه بوجه خاص , وبتعاون وتشاركيه مع النظام الرسمي أو ” الحكومة ” , ودون ذلك التعاون والتشارك سيستمر المجتمع والنظام بأكمله في حالة من الشد والجذب والفوضى والصراع الداخلي حتى يتفتت النسيج الاجتماعي وتدخل الدولة والنظام الحاكم في صراع مع أفراد المجتمع الثوري , وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى حالتين لا ثالث لهما , أولهما : سقوط النظام الحاكم , وثانيا : الدخول إلى حرب أهلية ستؤدي في النهاية إلى نتيجة كارثية على احد الطرفين .

إذا فالحل ينتج من خلال التفاعل والتشارك بين ( الحاكم والمحكوم اجتماعيا وضمن حدود الفضيلة الأخلاقية التي تركز على فضيلة الوسط , يخدم هدف بلورة ارتباط ووحدة اجتماعية أقوى , أو كما يسميه أرسطو بـ ” وحدة المشاعر ” , وهذه الوحدة تعني تحقيق انسجام قائم على فضيلة الوسط بين المجتمع والذات من جهة _ والمجتمع والدولة من جهة أخرى ….. وبناء عليه فان لعدالة لا تكمن في عالم مثالي فحسب , وإنما تستقي أيضا من معطيات الواقع وطبيعة العلاقات السياسية والاجتماعية السائدة)

وعليه فان الوسيلة الوحيدة لاستقرار الأنظمة السياسية في عالمنا العربي اليوم مرتبط بقاعدة اجتماعية وسياسية تاريخية واحدة وهي بدورها مرتبطة بالثقافة السياسية الجديدة والتي تفرضها إستراتيجية التنمية السياسية والاجتماعية والإصلاح وتحديث المؤسسات بما يواكب المرحلة الحضارية الراهنة , وتلك القاعدة تقوم على : التشاركية الاجتماعية والسياسية , بحيث يجب أن تدرك الأنظمة السياسية الحاكمة أن العصا الغليظة لا يمكن لها أن تحقق النتائج المرجوة دائما كما يدعي البعض , أو أن من يملكها لديه الفرصة المثلى لفرض تعريفاته على الواقع , كما أن المجتمع الواعي لضرورات المرحلة التاريخية يدرك تمام الإدراك بأنه مطالب بالمثل , – أي – بالمساهمة في نشر الوعي السياسي والتاريخي بأهمية الاستقرار المرحلي والوطني وعدم الانسياق وراء المصالح الشخصية والرغبات الآنية والانشقاقات والتشاققات والتجاذبات والصراعات الاجتماعية والثقافية الداخلية , تجنبا للدخول إلى مرحلة الصراعات والنزاعات والحروب الأهلية وبالتالي فتح الباب في كثير من الأحيان للتدخلات الخارجية في الدولة .

وكما يقول الآن تورين من انه ( ليست المشاققة الثقافية سوى طليعة النزاعات الاجتماعية , وأنها – أي تلك المشاققات بين أفراد المجتمع وخصوصا النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية الثورية – تزداد عنفا بقدر ما تتضاءل القوة السياسية للحركة التي تحمل المشاققة : أي بقدر ما تتناقض قدرتها على التحكم بالتطور السياسي ) , حيث يولد نتيجة ذلك كما يؤكد ارنست غيلنر ( تنافس وتصادم شديد بين المدافعين عن الوضع الراهن وبين الذين يريدون ويكافحون من اجل التغيير , وينتقل هذا التنافس والتصادم إلى السلطة التي تحمل هذه الأيديولوجية ويجعلها وسيلة للوصول إلى أهدافها )

وهو ما نلاحظه – للأسف الشديد – على العديد من المجتمعات العربية التي عصفت بها الثورات بشكل مباشر أو غير مباشر , حيث نلاحظ استمرار تجاذباتها السياسية وشقاقاتها الثقافية السلبية التي يتشارك في المسؤولية التاريخية عنها كل من المجتمع والنظام السياسي أو الشعوب والأنظمة الحاكمة , والتي لم تستطع حتى اللحظة التاريخية الراهنة أن تتجاوزها بعد أنانيتها الثورية ومصالحها الفردية وأطماعها السياسية , لذا فان استقرار أنظمة الحكم القائمة والقادمة في العالم العربي , مرهون  بمدى تشاركية هياكل الدولة وبتفهم كل طرف منها لحدود وصلاحيات وحقوق وواجبات الطرف الآخر , والاحترام المتبادل لإنسانية وكرامة الأفراد من قبل الحكومات , ومحافظة الجماهير الشعبية على هيبة الدولة والنظام القائم .

و- باختصار شديد –  فان ثقافة السعي للاستقرار والتنازلات من قبل أطراف النزاع في أي حضارة إنسانية تعيش مرحلة ما بعد الثورات التاريخية , – أي – الفرد والمجتمع , أو المجتمع والنظام الحاكم , هي الثقافة السياسية التي كما سبق واشرنا يجب أن تسود وتحل محل الفوضى والمشاققات الثقافية والتجاذبات السياسية والنزاعات الاجتماعية , والتي( تفرضها إستراتيجية التنمية السياسية والاجتماعية والإصلاح في العالم العربي , وهي الثقافة التي تحل النزعة النسبية في وعي السياسة والمجال السياسي محل النزعة الشمولية , وتحل التوافق والتراضي والتعاقد والتنازل المتبادل محل قواعد التسلط والاحتكار والإلغاء , فتفتح المجال السياسي والاجتماعي بذلك أمام المشاركة الطبيعية للجميع ) وبالتالي الاستقرار العام للدولة والمجتمع , وهو بدوره سيؤدي لاستقرار الأنظمة الحاكمة.

السابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

الأستاذ محمد بن سعيد الفطيسي

• رئيس تحرير صحيفة السياسي الالكترونية , التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية منذ مطلع العام 2009 م وحتى الآن.
• رئيس تحرير صحيفة الساعة الالكترونية السورية في الفترة من 2007 - 2008م.
• صحفي مستقل , وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية.
• كاتب مقال أسبوعي بصحيفة الوطن بسلطنة عمان – صفحة آراء السياسية.
• باحث في الشأن الروسي الحديث – روسيا القرن الحادي والعشرون.
البريد الالكتروني : azzammohd@hotmail.com
الهاتف النقال : 0096899844122