صداقة على الورق

كان لدى جيلنا اعتقاد وإيمان جازم بأن الصداقة هي ما حمله الشخص لغيره من محبة في القلب وصدق ذلك على الورق، فكانت الصداقات تبنى على هذا المبدأ حتى بين الجيران والإخوان، ولا أود الذهاب بعيدا لتشمل الدائرة المحبين، الذين لم يكن عددهم بالكثير في قريتي التي خرجت منها.

ما هي المطابقة بين الصداقة والورق؟

دعوني أضغط على زر إرجاع الذاكرة قليلا، عندما كنا نسأل عن هوايتنا، نرد ببساطة شديدة بأنها ” المراسلة” أو ” مراسلة الجنسين” فهي الهواية الوحيدة التي نحفظها عن ظهر غيب وليست بحاجة إلى تفكير كثيرا لالتقاط خيوطها، وهي أيضا بمثابة الحلم الذي كنا نسعى لتحقيقه ونعتبرها الغاية الأسمى في الحياة بأن يكون لك أصدقاء على الورق من مختلف أصقاع العالم يكتبون إليك وأنت في قريتك القابعة وسط الصحراء وتطوقها الجبال من كل صوب، وتكتب أنت إليهم أيضا عن أحلامك وأمانيك، تكتب في المقام الأول عن نفسك وطولك ووزنك وعيناك الساحرتان و و و ونسيت بأنك لا تمتلك طابع البريد ولا تمتلك قبله صندوق البريد الذي يمكن أن يحتضن رسائل العشق التي تكتبها.

تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، وما رسخ وتسرب إلى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو  أن صورتي مبتسما كانت في يوم من الأيام على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها ” المراسلة”، وأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم وأسرتهم وأماكن إقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا إليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية، غير التي كنت أحياها في قريتي، حياة تشبه حياتهم، وأسرة تشبه أسرتهم، ومدرسة تشبه مدرستهم، ولكنني عندما أفيق على الحاضر أجدني قابعا في أرجاء غرفة صغيرة أتقاسمها مع مجموعة من الإخوة، وأبحث عن مفتاح عله ينقلب بفعل سحر إلى مفتاح لصندوق بريد.

عندما يعز علينا مراسلة البعيد، كنا نراسل القريب. كنا نكتب وريقات صغيرة لمن كنا نراهم كل يوم في المدرسة والقرية، نرسل إليهم ونطلب منهم الرد. لم تكن الكثير من الخطوط بالمقروءة أو حتى الواضحة، كثير منها كان بالقلم الرصاص ممزوجا بعدة ألون منها ما امتزج بالسمن، ومنها ما امتزج بالعسل، ومنها ما اختلط بالمرق، ومنها ما تمزق، ومنها ما اهترى، ومنها ما يعود سليما معافى كما ذهب بدون تعليق، ومنها ما يعود معلقا عليه بكلمة، ومنها من يرفق معها صورة انتزعها من مجلة أو كتاب، ومنها ما يصيبك منه الشتم والسباب لأن هذه الأشياء ليست للرجال الأسوياء، ومنها ما تكتبه لنفسك باليمين وترجعه إليك بالشمال متخيلا نفسك أنك شخص آخر في كوكب آخر في زمان آخر وفي منزل آخر.

أذكر أنني كتبت عن نفسي لأهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهى بها إلى أسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب إلى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الإقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها وإنما برسائل من نوع آخر، رسائل نصية هاتفية كانت تشق أولى خطواتها نحو الفضاء المفتوح، كانت الردود تصل بسرعة أكبر من سرعة ما أرسله من ورق.

عندما أرجع اليوم إلى أوراقي وصوري التي أرسلتها، ترتسم على ثغري ابتسامة عريضة ممزوجة بدمعة بسيطة أحبسها من الخروج، أري أولادي تلك الصور والتعليقات التي خلدتها برسالة ورقية ولم أرسلها برسالة هاتفية فقدت بعد عدة ساعات من إرسالها.

اليوم، انقلبت رسائلنا وهي كحال حياتنا رأسا على عقب، في هذا العالم المتسارع لم يعد الشخص منا يملك الوقت ليخط رسالة بيمينه على ورقة بيضاء، ويغلفها في مظروف ليضعها في صندوق بريد وينتظر الرد عليها. لذا ساءت خطوطنا كما ساءت حياتنا. رسائلنا اليوم سريعة كالحياة، فيها كثير من الاختصار، تكتب في أقل عدد من الثوان وتحذف في نفس ذات السرعة، نرسل آلافا من الرسائل المتسارعة ويصلنا رد على آلاف الرسائل المتسارعة.

نبدأ أول صباحنا وبعين مغمضة بتفقد رسائل الجوال ورسائل البريد الإلكتروني ورسائل الواتس آب وغيرها من الرسائل التي نقرأها قبل أن “نحمد ونشكر من رد علينا الروح وعافانا في الجسد”، نقرأ بنصف عين رسائل المحششين وأخبار السكارى، وأخبار حوادث الزمان، نصحو على رسائل العمل ومتطلباته وما ينبغي القيام به في ذلك اليوم، نقبل صداقة من أرسل لنا طلبا للصداقة، نرد على من علق على تعليقنا، نستعرض رسائل البريد الإلكتروني الكثيرة، ثم بعد أن ننتهي من كل هذه الرسائل الفارغة في المضمون نتذكر أن نسمي باسم الله ونحمده.

تمنيت الذهاب إلى صندوق بريد لأفتحه وأجد رسالة مكتوبة بخط اليد من شخص أعرفه أو لا أعرفه، أقف بجانب ذلك الصندوق قبل الذهاب إلى البيت لقراءة مضمون الرسالة، اشتقت إلى كتابة رد بخط اليد أيضا على تلك الرسالة. اشتقت إلى رسالة في صندوق البريد بخط اليد تطلب مني الصداقة بدلا من طلبها إلكترونيا. اشتقت إلى اختيار الوقت الذي أقرأ فيه الرسائل بدلا من الوقت الذي تختارني هي فيه. اشتقت كثيرا إلى ذلك الزمان.

السابع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

عبدالله الشعيلي

Ashouily@Hotmail.com