النَّائِبُ البَرلمَاني … شُروطُهُ وواجِبَاتُه

يُعتبر وجود برلمان ينتخبه الشعب بالانتخاب الحُر المباشر من أهم أسس النظام النيابي وهو الدعامة الأساسية التي يقوم عليها النظام النيابي ، وحتى يتحقق هذا النظام من الناحية الفعلية يجب أن يكون للمجلس النيابي سلطات حقيقية واشتراك واقعي في إدارة شؤون الدولة وبالذات بالنسبة للوظيفة التشريعية ، فإذا كان البرلمان استشارياً فقد انعدم وجود النظام النيابي ، وتمارس المجالس النيابية في الدول ذات الأنظمة النيابية وظائف متعددة أهمها الوظائف التشريعية والمالية، والرقابية أو سياسية .

وكان المبدأ السائد في النظم النيابية سابقاً أن النائب يمثل دائرته الانتخابية فقط، وبالتالي كان من حق الناخبين أن يصدروا تعليمات إلزامية للنائب، ولم يكن بمقدوره الخروج على هذه التعليمات، وكان عليه أن يُراعي مصالح الدائرة، وأن يقدم حساباً بأعماله ، وكان من حق الناخبين عزل النائب وتعيين نائباً بديلا عنه.

ثم تغير المبدأ بعد قيام الثورة الفرنسية ، وأصبح النائب يمثل الأمة بأجمعها، بحيث يستطيع إبداء الرأي بحرية كاملة، دون التقيد بتعليمات الناخبين؛ لأنه يعمـل من أجل الصالح العـام للأمة، وليس لمجرد تحقيق مصالح إقليمية ضيقة للدائرة التي انتُخِب فيها، كما لم يعد من حق الناخبين عزل النائب متى شاءوا.

وفي الدولة الإسلامية اختلفت السلطة التشريعية من عصر إلى عصر، ففي عهد النبي محمد ( ص ) انحصر التشريع فيه بالوحي إليه من الله تعالى بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة ، ولما انتقل النبي إلى جوار ربّه صار المسلمون يجتهدون فيما لم يرد به نص، وقد ساعدهم على ذلك صُحبتهم للنبي وملازمتهم له ، وبعدما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، واختلط العرب بالعجم، استجدَّت وقائع وحوادث كثيرة في بلاد الإسلام ، أحس معها الفقهاء بالحاجة إلى قيام التشريع الإسلامي على قواعد ثابتة، فدُونـت قواعـد الاجتهاد وأصوله في القرن الثاني الهجري ، وكانت أهم المصادر التي أجمع عليها علماء الأمة، هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة ، والإجماع، والقياس.

ويكاد يكون أعضاء المجالس النيابية اليوم هم ما اصطلح عليه فقهاء السياسة الشرعية قديما بأهل الحل والعقد ، وهو مصطلح تاريخى لسنا ملزمين بإطلاقه على من يقومون بمهمتهم اليوم في المؤسسات البرلمانية ، والعبرة بالمقاصد و المعاني لا بالألفاظ والمباني ، وقد حدد فقهاء السياسة الشرعية أوصافا لأهل الحل والعقد أو أهل الشورى أو أهل الاختيار كما كانوا يطلقون عليهم . من ذلك قول الإمام النووي إنهم العلماء والرؤساء ووجوه الناس ، وقول أبو ذر ، هم المؤتمنون ، أو أهل الرأى والتدبير ، وقول الماوردي عن الشروط المعتبرة في أهل الحل والعقد وهي العدالة والرأي والحكمة ، وقول حسين غباش في كتابه عُمان الديمقراطية الإسلامية ، هم القضاة والمؤرخون والعلماء وهم المرجع الروحي والأخلاقي للمجتمع وضميره ، ويقول عبدالله الطريقي في كتابه – أهل الحل والعقد صفاتهم ووظائفهم – أن أهل الحلّ والعقد هم المتبعون في الأمة الحائزون على ثقتها ورضاها لما عرفوا به من التقوى والعدالة والإخلاص والاستقامة وحسن الرأي ومعرفة الأمور والحرص على مصالح الأمة ، أما كاتب هذه السطور فيرى أن الإخلاص لا محل لاشتراطه فيهم فلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إلا الله جلّ في عُلاه ، ولا يستطيع أحد قياسه .

ومما سبق يتضح لنا أن العلم والعدل والأمانة والحنكة السياسية الكافية شروط عامة يجب أن تتوافر فيمن يرشحون للمجالس النيابية اليوم ، والعلم هنا بمعنى المعرفة والثقافة العامة والتمرُّس ، لا بمعنى الشهادات الدراسية التي يشترطها النظام الأساسي للدولة في بلادنا لممثل الأمة – وقد جانبه الصواب – والتي تُخرج عُلمائنا وفُضلائنا وخبرائنا من سباق العضوية ، فلو كان محمداً – ص – عُمانياً ما كان مُؤهلاً لعُضوية مجلس الشورى لأنه أمّي ليس لديه شهادة الدبلوم العام ، ولا يجوز لمفتي الدِّيار العُمانية أن يطلع بهذه العضوية لأنه كغيره من المسلمين لا يحوز الاّ على شهادتين ، شهادة أن لا اله الاّ الله ، وشهادة أن محمد رسول الله ، رغم أنه يحوز على علمٍ غزير وعطاء فقهي وفير مكنه من الجلوس على كرسي الإفتاء في عُمان لأكثر من ثلاثة عقود ونيف .

ويُناط بأعضاء المجالس النيابية مهام أهل الحل والعقد كي ينوبوا عن الأمة في ضبط إيقاع الدولة وإدارة شؤون البلاد ، وفي رقابة الحكومة وتقييم أدائها ومحاسبتها على تقصيرها أو تجاوزها لإختصاصها ، ومراقبة رئيس الدولة واستقامة سيرته في الرعية ، وقيامه بأعباء منصبه وفق الشرعية الدستورية التي تعني فيما تعني أن يكون الدستور هو المرجع لتحديد مؤسسات الدولة واختصاصاتها ، واختصاصات القائمين على تمثيلها المعبرين عن إرادتها باعتباره القانون الأسمى ، والحاكم في ظل الشرعية الدستورية هو معبرا عن السلطة وممثلا لها وليس هو صاحب السلطة كما كان يُعرف سابقاً ، الذي كلمته قانون وإرادته هي إرادة الدولة وذمته ذمتها وهذا ما ادعاه الملك الفرنسي لويس الرابع عشر فحدثت الثورة الفرنسية الكبرى التي غيرت مفاهيم النظام السياسي رأساً على عقب ، وظهرت الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية.

وعلى هذا فإن أعضاء المجالس النيابية يمثلون عين الأمة الساهرة على مصالحها والراصدة لكل انحراف أو خلل من السلطة التنفيذية ، مع ملاحقة كل من تُسوّلُ له نفسُه أن يتخلى عن الأمانة ورقابة الضمير ، ويبيع الوطن من أجل أن يُحقق مصالح شخصية ومكاسب لحظية ، في زمن يتسابق فيه الكثيرين لجني القروش البيضاء للأيام السوداء المرتقبة .

ويبقى النضج السياسي لعموم أفراد الأمة، والوعي الاجتماعي العام بخطورة دور النائب في المجالس النيابية هو الفيصل في تشكيل معالم هذه المجالس ، وإيجاد نائب قوي أمين حفيظ على مقدرات الأمة ، لأنه أي النائب هو منتج هذه الأمة ومرآتها الصادقة التي تنقل الصورة كاملة دونما تشويش أو مزايدة ، وللناخب دور وعليه مسؤولية كبرى في اختيار من يمثله في البرلمان من الناس الثقات الأمناء على مسير الأمة ومصير أجيالها ، وهذا هو السبيل الذي يضمن تنقية المجالس النيابية مما شان مظهرها وأخلّ بواجباتها وبجوهر رسالتها من التافهين والمتاجرين بأقوات الشعوب والمغامرين بمصالح العباد والعابثين بمقدرات الأمة، والمتملقين للحاكم الذين يلبسون الحق بالباطل، ويبيعون الولاء بالعطاء، والباحثين عن الشهرة والوجاهة والمجد على حساب الناس، والطامعين للصدارة والوزارة والمناصب لاتخاذها غطاء للممارسات غير القانونية والأعمال غير الشرعية وجني الأرباح .

وحينما يتمكن الناخب أيضاُ من أن يمنع الأيادي المرتعشة والنفوس الواجفة المرتجفة من أن تجد لها مكاناً تحت قُبة البرلمان والتحدث باسم العامة ويحول دون وصول ( الرويبضة ) إلى هذه المجالس نكون بذلك قد تجاوزنا عقبة كأداء في سبيل حماية المؤسسة البرلمانية من المقامرة والمغامرة ومن الخنوع والخضوع والإستكانة، وجعل هذه المؤسسة البالغة الخطورة تؤدي رسالتها على النحو المرضي والمأمول، وتصدع بأمر الله والأمة بكل حزمٍ وعزم .

إن إنشاء المجالس البلدية وقيامها بواجباتها واختصاصاتها الثلاثينية التي نصّ عليها قانون المجالس البلدية – ولا مجال هنا لفتح ملف دستورية هذا القانون من عدمه لأن الحديث سوف يطول – هذه المجالس إن وجدت تعاوناً وقبولاً فيما تعمل فإنها سوف تُخفف عن كاهل النائب البرلماني ممثل الأمة الكثير من الأعباء المناطقية والخاصة، وتجعله متفرغا لواجباته واختصاصاته الكبرى التشريعية والمالية والسياسية ومراقبته لأداء الحكومة وعمله لصاح الحقيقة الكبرى عُمان ، بشرط أن تكون هناك آلية يطلع بموجبها ممثل الشورى على أعمال وتوصيات المجلس البلدي في محافظته، لينقل الحقيقة كما يراها إلى البرلمان، ولا يُقصى عن المراقبة والمتابعة فيصير الإيقاع نشازا بين المجلسين الشورى والبلدي ، تلك ناحية وفي ناحية أخرى فأن وجود المجلس البلدي بأعداده الغفيرة ، مع وجود هيئة برلمانية من غرفتين أو مجلسين في تقديري أمر فيه توسع نيابي لا تحتاجه عُمان البلد الصغير، وهو عبء مالي ثقيل وشحمٌ زائد – كما يقول أبو الطيب – يتعب جسم الدولة مستقبلاً الذي لا يزال يحتاج إلى رعاية واهتمام في أكثر من مجال ، وموازنات المجالس الثلاثة مكلفة ، حيث لا رجعة إلى الوراء.

إن النقلة النوعية والتطور الدستوري الكبير الذي يشهده مجلس عُمان بغرفتيه الشورى والدولة ، من خلال الاختصاصات غير المسبوقة التي حددها لهما النظام الأساسي للدولة تشريعية كانت أم مالية أم سياسية ورقابية تلقي بحمل كبير على أعضاء المجلسين وبالخصوص مجلس الشورى الذي أصبح شريكاً رئيساً في إدارة شؤون البلاد ، وتحريك مفاصل الحياة الرئيسة فيها ، وحفظ مقدراتها وحماية حقوق مواطنيها ، مع الأخذ في الاعتبار أن مجلس الشورى ليس مجلساً للشعب ولا للأمة إنما هو مجلس للشورى – وأمرهم شورى بينهم ، شعار المجلس – والشورى تقتضي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، وهناك آلية ناجزة لدى أعضاء المجلس الفضلاء لبلوغ الأهداف المرجوة بعيداً عن الحدية وخطب المنابر ، وبدلاً من أن يُطلب من وزير تخرج من البرلمان أن يُنفذ كل الطلبات أو يَرمي مفاتيح وزارته، كان يجب علينا أن نرفع معه القواعد ونعينه على مهمته الصعبة ونوفر له البيانات والمعلومات والبدائل اللازمة التي تحقق النجاح للجميع ، لا أن نُحبّطه ونكسّر مجاديفه لمجرد أنه تأخر لنا مطلب ( وإذا تأخرَ مَطلبٌ فلرُبَّما *** في ذلكَ التأخيرِ كُلّ المَطلبِ) ، أو أننا اكتشفنا خطأً فنيا أو إداريا في ناحية من نواحي الوطن ، فعُمان واسعة والمرء قد يغيب عنه إشكالٌ في بيته الصغير وفي إطار أسرته فكيف بالبيت الكبير عُمان وما يحيط بها من طموحات شعبية خلاقة وإمكانيات غير متاحة ولا خلاقة.

 

السابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

د. صالح بن هاشل المسكري