* نص مفتوح .
حُـقَ لزوجتي أن أستجيب لطلبها في الحديث معي ، أليس لديها سهم في شركة الحياة الزوجية بيننا ؟ ، فلنقتسم إذن أرباح الحقوق وخسائر المطالبات معا .
لهذا هيئأتُ مقاعد للسمع ، فكنتُ لا أدري أشرٌ أُريد بي أم أرادتَ بي رشدا .
أظهرت وجها حازما وقالت :
– سأخبرك بمسألة عائلية حدثت في غيابك ، وقبل أن أشرع في سردها ، أرجو أن تنفذ لي وعدا بأن تخلع عنك الغضب كما خلع أبو موسى الأشعري رداءه يوم التحكيم .
حدسي دلني إلى أنها ستحدثني في أمر جلل ، وما طلبها لي بوعد ضبط النفس إلا أنها تعلم مسبقا بأني صاحب غضبة مزمنة .
كان جوابي أن أكدتُ لها أني سأتقبل حديثها بنفس ثلجية ما استطعت ، فإن كان لا محاله ، فسأدع الغضب يمر نادرا وخاطفا كمذنب هالي , وكفى فخرا أن الذي يملك نفسه عند الغضب يحظى بصفة الشديد .
أخذت نفسا عميقا ثم قالت :
– قبل أيام قلائل كنتُ في زيارة لجارتنا ، من جملة ما حدثتني عنه أن باحت لي بأمر مريع ، جعلني أرجف فرقا والقلق يكبلني بمنغصاته .
قلت لها مشدوها :
– خيرا إن شاء الله .
استطردت حديثها …
– ذكرت جارتي أنها فقدت عقد ذهبيا لابنتها الصغيرة ، مؤكدةً أن آخر مرة شاهدته في غرفتها الزوجية ثم اختفى . بعد ذلك لم تستثني مكانا إلا وبحثت فيه بدقة ، ولم تترك أحدا من أقاربها ولا من يزورها إلا وسألتهم عنه ، كل هذه الجهود ولم تصل إلى نتيجة مفيدة .
فلما استيئست خلصت نجيا مع زوجها أن العقد مسروق ، وأن يدا خفية طالته . حينها قررا أن يلجأا إلى رجلا مُحنك يستطيع أن يبصر ما وراء الحُجب ، مستعينا بالمخلوقات النارية من أجل الوصول لغايته ، ذلك بأن يضع لهما عملا محكما به يعرف الفاعل الآثم ، وآية ذلك أن تنتفخ بطنه انتفاخا عظيما أو يحز رأسه صداعا موجعا ، ولن يبرأ من أحدهما إلا إذا خر راكعا وأناب معترفا بجرمه أو مُعيدا لما سرقه .
حينها شعرت بالأرض تمور من تحتي هولا و …
قاطعتها متعجبا :
– عفوا .. عفوا .. لماذا مسلسل الرعب هذا ؟ .. ومالك وفتنة الدجال ؟ .
– سؤالكَ هو مربط الفرس في قضيتنا …
قبل أكثر من أسبوع من الزيارة الأخيرة كنت في زيارة مماثلة لها . الذي حدث أنها أدخلتني في غرفتها الخاصة لتطلعني على الجديد من ملابسها ، وهذا مألوف عندنا نحن معشر النساء . بعد ذلك خرجتُ مع أطفالي من منزلها ثم ركبنا السيارة . بعد بضعة أمتار ذكر ولدنا الأوسط أنه شاهد أخته الصغيرة تمسك بيدها عقداً من الذهب حال كونها في بيت جارتنا ! .
وحين سألتُ طفلتنا عن حقيقة ذلك ، لم تبدي إجابة واضحة ، فتارة ترد بأنها لا تعرف عنه .. وتارة أخرى تقول إنها رمته في الخارج .
حينها طاف بي طائف أشبه بالجنون ، فقد وضعتني في موقف عصيب .
لم أمهل نفسي في التفكير كثيرا ، إذ عدت أدراجي من حيث تحركنا .
بدأنا في البحث أمام بيت جارتنا ، كانت الأرض مفروشة بالرمل ، وهذا زاد الحال تعقيدا .
انتشرنا نمشط الأرض ، كنا كفريق الكشف عن الألغام ، كنت أفتش وأدعو الله أن ينطق الحجر ليقول لي يا مسلمة هذا العقد خلفي تعالي فخذيه .
كذلك ألقينا نظرة فاحصة داخل السيارة ، فربما سقط من يدها وهي في غفلة منه .
كنت في كل دقيقة أعنف ولدنا لأنه لم يسارع في إخباري لحظة مشاهدة العقد في يد أخته ، ثم أستلطف ابنتنا لتتذكر أين وضعته .
بعد جهد مضنٍ ، رفعنا الراية البيضاء ، وأعلنا الاستسلام للقدر خير و شره .
قلت لها وأنا أهز رأسي أسفا :
– سبحان الله … لا شك أنك صارحت الجارة في الزيارة الثانية بملابسات ما وقع .
– هذا ما حدث بالضبط ، ولأجنب طفلتنا شر العمل كشفتُ لها تفاصيل ما حدث ثم قدمتُ لها وافر الاعتذار ، راجية غفران الزلة .
توقف زوجتي عن الكلام قليلا ، ثم أكملت بنغمة مختلفة …
– الغصة التي ألمتني كثيرا أنه لم يخطر ببالي أبدا أن تسدد جارتنا نحوي طعنة نجلاء ، لقد أتصلت لاحقا وأخبرتني أن العقد المفقود عزيز على نفس زوجها ، فقد كان هديته لابنتها يوم عيد ميلادها ، فحين علم بالأمر نظر ثم عبس و بسر ، فقال إن هذا إلا محض مكر ، فلم يرض إلا بدفع التعويض ، وهو قيمة العقد .. مئة وثمانون ريالا ! .
كأن حجرا هوى على رأسي ، فجعل عينيّ تدوران كالمغشي عليه ، عندها صحت :
– ماذا ؟ مئة وثمانون ريالا . أي مصيبة وقعت عليّ ؟ وأي شؤم هذا اليوم ؟
أجفلت زوجتي قائلة :
– اهدأ اهدأ .. حاولت أن أقنعها بعدم جدوى ذلك ، لكن كانت تُعلق الأمر على زوجها ، إلى أن تراخت قليلا فخيرتنا بين تسليم المبلغ بأقساط مريحة أو دفعه جملة واحدة عند استطاعتنا لذلك حتى ولو بعد بضع سنين ، مراعاة لظروفنا المالية التي نمر بها حاليا .
شعرت بقلبي يرتجف بهزيم نبضاته ، وبويصلات شعري تنتصب ، وهواء الزفير ينقذف ساخنا على غير عادته ، عندها انفجرت قائلا :
– معذرة .. آن الأوان لأخلف وعدي وأنكث عهدي … أنا مضطر لألفظ جمرة الغضب التي بداخلي كي لا تحرقني ، أتركيني أفرغ شحنات الكدر مخافة أن أصعق بها .
لا تثريب عليّ اليوم أن غضبتّ كغضبة سيدنا موسى عليه السلام ، حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره .
أنا رب الأسرة .. أليس لي ملك البيت ؟ ، وهذه الخيرات تجري من تحتي .
فمن يكفر بعد ذلك بقرارتي الأبوية وأوامري الزوجية سأقاطعه كما قاطعت قريش بني هاشم وبني المطلب ، ولو دفعتكم المخمصة لأكل أوراق شجر السيداف ، وقضم القاشع ، وتناول وجبة العوال والبصل المذاب في ماء الليمون .
أسمعيني جيدا يا امرأة .. الرجل منا بعد استقراره الوظيفي لا يجد كبير عناء في دفع مهر لزوجة تسر مهجته وتسكن روحه ، ولا يعضله امتلاك سيارة حسنة ، فكل ذلك في متناول يده ، إن أحسن توزيع راتبه .
أما قاصم الجيوب ومبتلع الأرصدة فهو البيت ، الذي تصيبنا لعنات ديونه بكرة وعشيا ، ويلاحقنا أرقه سنين عددا . ها أنا أسلك طريقا غير الذي يسلكه المقاول ، وأتوارى من بائع الرخام ، وأشيح بوجهي عندما ألمح أصدقائي ، فبعد كل هذا ، هل سأتحمل دينا جديدا يعادل مجموع زوايا مثلث متساوي الأضلاع .
لن أدع عبث الأطفال ينال من مقدراتي المالية ، أما خيار دفع المبلغ بنظام الأقساط المريحة فأكاد أقول إنها من نوادر العرب الحديثة ، لو أن الأبشيهي بيننا لدونها في كتابه المستطرف في كل فن مستظرف .
يخالجني شك أن رواية طفلنا موضوعة ، لا يجوز الأخذ بها مطلقا ، ربما لتصفية حساب شخصي بينه وبين أخته ، فتوافق القدر بين اختفاء العقد و إطلاق الرواية .
أليس هو من ادعى ذات يوم أن إطار سيارتي بدون هواء ؟ ، فحين ذهبت للمعاينة وجدت الواقع خلاف ذلك ، بعدها رأيته واقفا أمامي يبعثر ضحكاته البريئة .
ولا يخفى عليك كثرة مشاكساته وحكاياته التي تفوح منها رائحة التدليس .
لو فرضنا جدلا أن روايته من صنف الرواية التاريخية ، لوجب علينا عرضها لنقد خاص ، كقبولها للعقل و مطابقتها للواقع ، أجزم أنها لن تصمد .
أما بالنسبة لطفلتنا الصغيرة وجوابها المتلعثم ، فأقول أنه ليس من الحكمة أن ندع عقولنا و تجارب حياتنا لقول أنثى لا ندري حفظت أو نسيت .
أقول أنتِ … أيقظي العملاق الذي في رأسك ، أطلقي العنان لقواك العقلية في اتباع المنهج النقدي لفهم الواقع وتحليل أحداثه .
من هذا المتكهن الذي تعتقدون أنه يمتلك قدرة النبي سليمان عليه السلام في تسخير الجن له ؟ ، فيعلمون له ما يشاء .
والله لو سُرقت نعله في صلاة الجمعة لخارت قواه المزعومة في استردادها .
وزعمه أن لديه القدرة على إنزال الأسقام ، فإني أدعو وزارة الدفاع لتستفيد من سلاحه البيولوجي ضد أعداء الوطن .
إنه يمارس عليكم لعبة الضحك على الذقون كما يقول فيصل القاسم ، وأنتم له مطبلون و مزمرون .
المفكر الجزائري مالك بن نبي طرح مفهوم القابلية للاستعمار ، ونحن ينطبق علينا مفهوم القابلية للخداع ، فعقولنا ملوثة مسبقا بفهم خاطئ لحقيقة العالم الغيبي الغامض ، وهذا يكسبنا جاهازيةه ليحتال علينا المغرضون ، كذلك أُشرب في قلوبنا حب تصدير مشاكلنا عليهم عندما نعجز عن حلها .
فحين فقدنا طفلا ويئسنا من العثور عليه قلنا خطفه الجن ، وعندما سمعنا أصواتا غريبة في غلس الليل ولم نجد لها تفسيرا جزمنا إنها أصوات السحرة ، وعند تكرار اشتعال النار في البيت تسرعنا وصرحنا إنه مسكون ، وحين أصيب زميلي بحالة تشنج عضلي وهذيان وصراخ وخوف من المحيط ادعينا أنه مصاب باللبس ، ثم بعد ذلك وجدنا جثة الطفل متردية من سفح جبل ، والأصوات من طيش المراهقين ، والنار بسبب خلل كهربائي أو ربما من تفاعل كيميائي ، وأطباء المختبر أقروا أن زميلي مصاب بأعراض الحمى الشوكية ! .
فهل أنتم منتهون ؟ .
يا أم أولادي … ليس لدى جارتنا وزوجها مسوغ قانوني يثبت أننا من أخذ العقد .
فلو رفعوا القضية سيركلهم الادعاء العام بقدم عدم اكتمال أدلة دعواهم ، إذ لا يمكن أن نُـتهم من حكاية حدث أو هفوة قاصرة ، فالقضية يكتنفها الغموض ويلفها المجهول .
إياك ثم إياك أن تضعي الكرة في ملعبنا ، بل اقذفيها في مرماهم .
لقد رفع الله قلم التكاليف الشرعية عن ثلاثة ، منهم الصبي حتى يكبر ، أفلا يرفعا قلم المحاسبة عن طفلتنا وينزلوا عليها ممحاة العفو ؟ .
الآن سأصرح بقراراتي النهائية ، أولا لن أدفع أي مبلغ ، ثانيا أقطعي علاقتك مع هذه الجارة .
رُفعت الأقلام وجَـفت الصحف .
بعد هذه الخطبة الملتهبة ، شعرت بأثر تفريغ الشحنة الداخلية ، وانقشاع سحابة الغضب ثم العودة الطبيعية لدرجة حرارتي المزاجية .
اعتصمت زوجتي بالصمت بوجه محتقن وملامح جامدة .
* * * * * * * *
أدركت لاحقا أني لم أغلق بعد ملف هذه القضية ، لأن المسائلة من جارتنا وزوجها ستستمر .
مرت عدة ليالٍ وأنا أضرب بعصا التفكير أحجار عقلي ، إلى أن انبجست فكرة تفاءلت بها الخلاص ، فوجدت نفسي أطوف الأسواق و أتقصى أثر الباعة .
هذه المرة أنا الذي دعوت زوجتي للحديث معي ، مجتهدا في أن أستل منها وعداً بالتعقل والأناة للذي سأعرضه لها .
– عزيزتي .. لقد أبتعتُ ثلاثة عقود أصيلة تبرق حسنا وتشع جمالا ، أخترتها على عين واصطفيتها بروية .
مهمتك عرضها على جارتنا لتنتقي واحدا يروق لها ، لكي تقر عينها ولا تحزن ، ولعله يطفئ غليان صدر زوجها .
كعدم رضا بعض الشعوب العربية من حكامها ، هكذا استقبلت فكرتي ، حيث سألت :
– ما هذا التفكير الذي جال في رأسك ؟ ، ثلاثة عقود جملة واحدة … . ومن أين لك بالمال لشرائها ؟ .
لم أتمكن من الجواب ، فقد كنت مشغولا بسحب صندوقٍ كبيرٍ ! .
كانت زوجتي تتأمل فعلي باستغراب .
قلت بثقة وبمزاج هادئ كهدوء الحال السياسي في الدول الإسكندنافية :
– ساأبدأء في عرضها تباعا ، فكل عقد لي فيه كلمة تعريفية …
العقد الأول يسمى العقد الثمين ، صانعه ومبدعه العلامة الإمام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي .
هذا العقد هو سجل خالص لفتاويه ، كان قد اعتنى بجمعها في حياته ، فإذا ورد عليه سؤال مُعتبر ، أجاب عنه وأمر بنسخ السؤال والجواب في مجموعته ، إلى أن تكونت فيما بعد عدة أجزاء نفيسة ، تحوي كنزا فقهيا عظيما .
سأقرأ لك نبذة من سيرة هذا العالم الفذ . ولد في الرستاق عام 1286هـ ، تعلم القرآن وعلوم الدين في بلدته ، من المؤسف أن كف بصره وهو على مشارف سن البلوغ ، لكن هذا الحادث لم ثننِ عزمه عن الجد في طلب العلم ، فقد رحل إلى الشرقية وتتلمذ على يد الشيخ الولي صالح بن علي الحارثي .
عزيزتي .. هذا ملحظ مهم ، لا نفقد الأمل في أطفالنا – أبعد الله المكروه عنهم – إذا ألمت بأحدهم عاهة أو ابتلى بمرض عصي ، الإعاقة الفكرية أخطر من الإعاقة الجسدية ، والتاريخ شاهد على عباقرة مصابين بأمراض .
سأواصل …
عرف الإمام بقوة حفظه وعميق فهمه ، كان مدار الفتوى في زمانه وقبلة لطلاب الشريعة ، له دور رئيس في إحياء الإمامة وتنصيب الشيخ سالم بن راشد الخروصي إماما لعُمان عام 1331هـ .
له مؤلفات كثيرة أهمها معارج الآمال ، ومشارق الأنور ، وجوهر النظام في الأديان والأحكام ، وفي التاريخ كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان .
فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها عام 1332هـ .
سأسمعك بعضا من فتاويه :
السؤال – ( عن حق الجار على جاره إذا كان أحدهما فقيرا والآخر غنيا , فما حق الفقير على الغني ؟ وهل هما سواءٌ أم لا ؟ وهل إذا كان أحدهما غير ذلك ؟ بين لنا ذلك ؟ وهل له أن يشكي به ، إذا رأى عنده شيئا ولم يعطه ؟
الجواب – حق الجوار ثابت في التّقي والفاجر , والغني والفقير , كل على قدر حاله , وتفصيله يطول ، وينبغي للجار أن لا يحرج على جاره هذا التحريج فإن ذلك مما يؤذيه , وقد أمرنا بالكف عن أذى الجار ، والله أعلم ) .
عندي تعليق صغير … يا ليت جارتنا تعي حقوقنا عليها .
سأكمل …
وفي سؤال عمن يستعمل العزائم والطلسمات لجلب السرقة .
قال صاحب العقد في جوابا طويل ، أقتطف منه الجزء الأخير :
( وفي الأثر ما نصه : ورجل سرقت له دراهم فجاء إلى رجل وقال له : أعطيك نصف الذي سُرِقَت أو كذا وكذا ( لاريه ) إن طلّعتَ لي ، فحسب لها الرجل وهو من أهل التعلم من النجوم والحساب والطلسمات، وعالج ذلك بشيء من الكتب حتى ردت الدراهم المسروقة على الرجل . أتـثـبت العطية للمعطي على هذه الصفة أم لا يحل ذلك ؟ .
الجواب وبالله التوفيق أن هذه العطية على صفتك لا تثبت , وأما إن طابت نفس صاحب الدراهم وأعطاه شيئا بعد أن طلعت السرقة ، وكان بالغا صحيح العقل فلا يضيق ذلك , والله أعلم ) .
عموما .. استعمال الطلاسم وغيره لجلب المسروق ، هذه مسألة تحتاج إلى باحث متخصص ليقول لنا فيها كلمة سواء ، حتى لا تكون عرضه لاستغلال كل من هب ودب .
أما العقد الثاني فهو العقد الفريد ، وهو اسم على مسمى ، طرقه وشحذه الأديب الشاعر ابن عبد ربه الأندلسي ، ولد عام 246هـ في قرطبة عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس .
توفي عام 328هـ .
هذا العقد هو خزانة كتب ، ضمت معارف شتى من تراث أمتنا وآدابها ، وآداب الأمم الأخرى كالفرس والهند واليونان .
هو موسوعة في التراث والتاريخ والشعر والأخبار والطُرف والسياسة والتراجم .
جمع جوهره من مصنفات كثيرة ومراجع عدة .
سأقرأ لك نماذج منه :
* بين معاوية وزياد في السياسة .
( أبو بكر أبي شيبة عن عبدالله بن مُجالد عن الشّعبي ’ قال : قال زياد :
ما غلبني أمير المؤمنين معاويةُ في شيء من السياسة إلا مرة واحدة .
استعملت رجلاً فكسَر خراجه ، فخشي أن أعاقبه ففرّ إليه ( أي معاوية ) واستجار به فأمنه ، فكتبتُ إليه :
إن هذا أدب سَوّأ من قبلي .
فكتب إليّ :
إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة ، لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية ، ولا نشتدّ جميعا فَنحمل الناس على المهالك ، لكن تكون أنت للشدّة والغلّظة , وأكون أنا للرأفة والرحمة ) .
طبعا الفكرة واضحة … ما رأيك أن نسوس أطفالنا وجيراننا كذلك ، أي أنا للشدة ، وأنت للرحمة ؟ .
سأضيف رائعة أخرى ..
* كلام في النهي عن استصغار اليسير من الخطأ .
( وقالوا : لا ينبغي للعاقل أن يَستصغر شيئا من الخطأ أو الزلل ، فأنه متى ما استصغر الصغير يُوشك أن يقع في الكبير ، فقد رأينا المُلوك تُؤتَى من العدو المُحتقر ، ورأينا الصحة تُؤتَى من الدّاء اليَسير ، ورأينا الأنهر تتدفّق من الجَداول الصَّغار ) .
هل أنت معي ؟ الحق أنه درس جيد ، من الصواب أم نعمل به في حياتنا الوظيفية و العائلية .
العقد الاجتماعي هو عقدنا الثالث ، أبتكره وسبكه الأديب والمفكر الفرنسي جان جاك روسو
ولد عام 1712م في سويسرا بحكم استقرار عائلته التي تعود إلى أصول فرنسية .
في طفولته رحل عن مسقط راسه ، لعيش حياة البؤس والتشرد ، متنقلا في عدة أعمال ما بين الصناعة والحرف ، التي كان لها دور في التأثير على نوعية ثقافته وفكره وأطروحاته لاحقا .
إلى أن ارتبط بسيدة غنية هيأت له حياة مستقرة أستغلها في قراءة كتب الفلاسفة وتعلم الموسيقى .
في وقت مبكر من حياته ، فاز بعدة جوائز في كتابة المقال والبحوث وأعمال موسيقية ، كما له كتابات في الشعر والمسرح .
من مؤلفاته : اعترافات جان جاك روسو وهو سيرة ذاتية عن حياته ، كذلك كتاب أصل التفاوت بين البشر .
توفي عام 1778م .
في كتابه العقد الاجتماعي ، الذي يُـعد أنجيل الثورة الفرنسية .
نظرا لما يحتويه من أفكار مناهضة للظلم .
بعد مرور ستة عشر عاما على وفاته في قرية بعيدة عن العاصمة باريس ، قام المنتصرون في الثورة الفرنسية ( 1789م ) بنقل رفاته إلى مدفن العظماء في باريس تكريما له ، واحتفل لذلك احتفالا عظيما ، حتى كان قادة الثورة يقرؤون الكتاب في الشوارع ويهتفون له .
في كتابه العقد الاجتماعي أطلق كلماته الثائرة ضد الاستعباد ، داعيا إلى الحرية الخالصة ، حيث قال : ” خلق الانسان حرا ، وهو مستعبد في كل مكان ، وليس لإنسان ما سلطان طبيعي على أخيه الانسان ” .
كذلك بين حقوق المواطنة وحقوق الفقراء ، وطالب بالمساواة والعدالة بين الحاكم والمحكومين ، كما أصل النظرية السياسية في الحكم ، وأوضح العلاقة بين هيئة السيادة والإرادة العامة .
سأذكر لك من أشهر أقواله :
* ” الحرية صفة أساسية للإنسان ، وحق غير قابل للتفويت ، فإذا تخلى الأنسان عن حريته فقد تخلى عن إنسانيته وعن حقوقه كإنسان ” .
* ” والحرية تعني تمتع الفرد بجميع حقوقه السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية في إطار قانوني ” .
طويتُ العقد ثم رفعت عينيّ لأستبين انطباع زوجتي ، المفاجأة أني وجدت مكانها خاليا ! .
عجبا أين ذهبت ؟ .. هل يعقل أنها تفاعلت مع كلمات جان روسو الثورية فأعلنت تمردها ؟ يا للهول .
أبعدتُ العقود الثلاثة جانبا ثم تمددتُ على الأريكة في استرخاء تام .
قطع تحديقي في فضاء الغرفة صوت وصول رسالة هاتفية ، كان المرسل زوجتي تقول فيها :
” أعتذر .. لم أشأ مقاطعتك ، لقد تذكرت النار في المطبخ . أعتقد أن عروضك ليست مغرية لهم ، أعرفهم جيدا فهم ليسوا بقراء ، ولا يقدرون الكتاب حق قدره “
عدت لأطلاق سراح بصري مجددا .
بعدها فتحت صفحة الرسائل وكتبت إليها :
” وداوها بالتي كانت هي الداء ” .
* * * * * * * *
حين زحف إلى سمعه وقع أقدام تقترب من الباب ، طفق يُـتمتم بكلمات غير مفهومه ..
أطل عليه صاحب البيت ..
فقال الزائر مبادرا :
– بالتأكيد لا تعرفني .. أتيتُ أحدثك في موضوع يخص سلامة أسرتك ، أرجو أن يكون حديثنا بالداخل .
أرتاع صاحب البيت ، فأدخله في الحال .
كان الرجل الغريب يسرق نظرات عجلى في الساحة الداخلية للبيت ، إلى أن لمح شيئا أشعره بارتياح ، بدليل ابتسامة مقتضبة رسمها على ثغره .
في المجلس ظل صاحب البيت يتأمل الغريب حين يغمض عينيه ثم يطلق لسانه في تلاوة عبارات بصوت خفيض .
قال الغريب :
– أسكن بعيدا عن بيتك ، يعرفني الناس بـ ود القُـمقام ، سأكشف لك عن حقيقة ، لدي من العلم ما مكنني أن أستعين برهط من الجن لخدمتي ثم ارتقيت إلى أن صرت أحكمهم وأملك زمام أمرهم .
الذي وقع قريبا أن أحدهم أعلن التمرد وجاهر بالخروج من سيطرتي ، هذا الجني الآبق رغب في السكن في شجرة الشريشة التي في بيتك .
هنا أنتفض صاحب البيت هلعا …
فعاجله الغريب :
– لا تقلق .. أطمئن … لقد سويت الأمر معه .
في هذه اللحظة توقف عن الكلام ، مخرجا من جيبة قطع اللبان ، طالبا جمرا .
هرع صاحب البيت في تنفيذ طلبه .
كان احتراق اللبان يحدث فرقعه فيتبعها الغريب بالنفخ والتمتمة .
أستطرد حديثه …
– لا ريب أن وجود الجني في بيتك سيفتعل لكم الإحن ، أصوات مزعجة و أمراض مقرفة .
لذ اتفقتُ معه على الفدية أي أن يأخذ شيئا ثمينا من هذا البيت مقابل أن يتخلى عن فكرة سكنى الشجرة ، هذا ما فعله بالضبط ، فقد سحب منكم عقدا ذهبيا ، قال أنك أهديته لابنتك في عيد ميلادها .
تكلم صاحب البيت مبهوتا :
– صدق .. وهذا يفسر لي الاختفاء المفاجئ للعقد .
أستمر الغريب في نفخ الجمر ، والدخان يتموج في الهواء طبقات ، كأنه سحاب مركوم ، من بين تلك الظلمة لمعت عيناه وقال :
– لا تنسَ مكافأتي ! .
* * * * * * * *
بينما كنتُ منهمكا في ترتيب أغراض مخزن البيت ، أصدر هاتفي تنبيها بوصول رسالة … قرأتُها :
” تمت المهمة بنجاح باهر .. ود القُـمقام “
حينها أطلقت قهقهات هادرة ، على أثرها رأيتُ زوجتي قبالتي بوجه تصبغه ألوان الاستفهام و الدهشة ! .