قراءة في الأعمال الرمضانية العمانية ( 2 ) قيم .. ودين .. ودنيا ( فنتازيا ) تركب الموجة .. و( قيم ) سائقتها !!

يحسب للفهدي اِستمرار المحاولة والمحاولة وهذا بحد ذاته قد يوصله لتحقيق الغاية مع تكرار المحاولات، ولكن تكرار التجارب المتباعدة قد لا يؤدي إلى فعل التراكم الإيجابي، كونه لا يطل في السنة إلا كل رمضان مما قد يجعل التجربة تراوح نفسها في ذات المربع وتتطور ولكن بشكل ( سلحفاتي ) ، هذا على صعيد بناء شخصيته كمذيع اتخذ الجانب التوعوي له كطريق

 

 

خطاب التوجيه والإرشاد الذي يأتي برامجيا و دراميا عبر شاشتنا العمانية ، خطابٌ يكاد يشكل متلازمة دائمة لتلفزيون سلطنة عمان خارج رمضان وفي رمضان ، وربما زادت كثافته مؤخرا في سعيٍ لصياغة وعي جديد يربط بشكل غير مباشر أحيانا ومباشر في أحيان أخرى  بين مظاهر احتجاجات ومطالبات الشارع العماني بكل فئاته بالإصلاح وبين رؤية داخلية ترى أن سبب ما حصل خلال عام وأكثر من مطالبات لها علاقة بغياب أرضية منظومة القيم في تربية البيت والمدرسة والشارع العماني .  خطاب التوجيه هذا يُصرّ على أن المشاهد العماني بحاجة لجرعات تُعلّمه كيف يكون صادقا وأمينا وخيّرا وطيبا، وكأنه كان يمتلك هذه القيم سابقا ودخل في تشكيل ما سلبها منه وآن الآوان لإعادتها إليه ، كل هذا في سياق لغة أبوية قادمة من منطقة توجيه لها تأثير في تركيب الوعي كأجهزة الإعلام الرسمية، تأخذ هذه اللغة في غالبها صفة المباشرة التقريرية ، مستندة على أنها تمثل روح المرجعية الإسلامية وعاكسة لمكونات مجتمع عماني أقرب ما يكون للمثالي الخيّر جدا منه للطبيعي الذي به الخير والشر، طرح يعكس نكبة الزمن القيمي المثالي المتراجع أو الزمن الذي يرى نفسه في مراحل إغتراب إنساني عن الجذور المؤسِسة لمنظومة القيم المجتمعية السويّة والإيجابية و التي تستمد تشكيلها في الغالب من الإسلام كدين .

وبغض النظر عن كلاسيكية هذا الخطاب التوجيهي ومدى قراءته السليمة من عدمها، ومدى جدواه من عدمها ، يمكن القبول به في سبيل أنه يمثل اِتجاه موجود ومتحرك وله أن يظهر ككل الخطابات الأخرى بشكل تلفزيوني بعيدا عن تأويل الأجندات التي تستهدف منه زرع تشكيل وعي معين ، فالغالب عندما ترغب جهة ما في تمريره وبثّه فهي تقدمه في شكل ذكي بوجود قيمة بصرية متطورة حذقة تحتضنه كقالب يراعي أبجديات القبول لدى من يشاهده، موفرا سبيل جذب مريح وملفت للفئة التي يُوجه إليها هذا الخطاب، وهنا نستذكر القوالب التي يقدمها مثلا نجوم هذا الخطاب التوعوي عبر الشاشات كالشيخ سلمان العودة والداعية عمرو خالد والشيخ محمد العوضي وغيرهم ، فهي قوالب ذكية متجددة وحديثة وملفتة، ولن ندرج خواطر أحمد الشقيري ضمن الفئة السابقة؛ لأن اشتغال الشقيري متقدم بمراحل ضوئية من حيث الخطاب والفكرة والتناول ، ذكاء الطرح هو ما غاب تماما عن عملين يشتركان في صيغة الخطاب التوعوي المباشر إلى جانب إشتراكهما في نفس الأداة المستخدمة لإيصال رسائل هذين البرنامجين؛ وهي أداة الدراما وتمثيل المشاهد التي لاتغادر من حيث الحوارات والتقطيع الزمني والإيقاع والأداء والحبكة والقصة، لا تغادر كلها الأسلوب المدرسي الضعيف ، هذان العملان يتم عرضهما هذه السنة على تلفزيون السلطنة أحدهما برنامج قيم للدكتور صالح الفهدي والإنتاج لمركز قيم والذي يأتي في جزءه الثاني والآخر مسلسل دين ودنيا ويأتي كتجربة إنتاجية أولى واضحة لشركة فنتازيا التي يديرها الممثل زكريا الزدجالي .

 

قيم .. خلافات بث .. ووجه يبحث عن كاريزما !

قيم الجزء الثاني ، محاولة واضحة لتكريس جزءه الأول ضمن الاستفادة المباشرة لما حققه في رمضان الماضي، كإنتاج يمثل ما تحاول السلطة الإعلامية تعزيزه وتكريسه من خطاب أبوي إرشادي أشرنا إليه في المقدمة على أنه خطوط متلازمة واضحة ، كنهج واستراتيجية بناء للعقل العماني الجمعي، ومما يؤكد هذه التوأمة بين طرح قيم بضرورة إعادة تكوين المجتمع العماني قيميا وكأنه مُبتلى بفيروس لاأخلاقي وبين زرع هذه النقطة في الذهنية العمانية إعلامياً ما جاء في تصريح الفهدي مؤخرا بجريدة الرؤيا إذ قال – على حد تعبيره – في سياق ضرورة عودة قيم لتوقيت ما بعد الإفطار : ” كنت أتمنى أن تجري الأمور في مجراها الطبيعي ، وأن يكون قيم على رأس الأولويات، وذلك استقراء لضرورات الواقع، وما تتطلبه التغييرات من تحرك على الصعيد الأخلاقي الذي يعاني من هشاشة في كثير من جوانبه ” !! ، إذاً فالفهدي يرى أن المجتمع العماني هش أخلاقيا ويربط هذه الهشاشة بالمتغيرات الحالية في تأكيد وانحياز واضح للصورة التي يحاول البعض تكريسها؛ جراء متغيرات من مثل كسر حاجز الصمت، وأن الدكتور ببرنامجه هو من سوف يساعد في ترميم هذه الهشاشة الأخلاقية التي هبطت فجأة على عظام العمانيين .

قيم ولضرورات هكذا خطاب حقق المبتغى منه في جزءه الأول ، وما تعبير فهد الفهدي اِبن الدكتور صالح وأحد المشتغلين في البرنامج على تويتر في تغريدة تم مسحها لاحقا يرد فيها على الصحفي تركي البلوشي عندما كان تركي يحاول استيضاح غضب فهد من تغيير وقت عرض قيم هذا العام ، إذ قال فهد راداً على تركي ” أضيف لك أن ( …. ) تابع برنامج قيم وكان هو من أمر بنقله العام الماضي من وقته المتأخر قبل على السحور ليكون أول ما يبث ” !! ، والشخصية التي بين القوسين والتي ذكرها فهد صراحة كاعتداد داعم لبرنامج قيم لدرجة تغيير موعد بثه العام الماضي هي شخصية نافذة في السلطنة ، فهذا الرد – إن صحّت رواية فهد الفهدي عن ما نقله عن هذه الشخصية الوطنية – دليل على أن قيم في جزئه الأول من البديهي أن يتبعه جزء ثاني ، أما غير البديهي والملفت أن قيم هذا العام مر بمطبات متعلقة بتوقيت البث ، فُسرت من فريق عمل قيم على أنها حرب معلنة على برنامجهم التنويري وفسّرها القائمون على الهيئة على أنه خيار داخلي مستحق لهم ، ويبدو أن هناك قرار غير مستقر في أروقة مسؤولي الهيئة يُعيدنا للاختلاف الواضح جليا فيما ذكرناه في المقال الأول التمهيدي حول الخارطة التي في صوب والطريق الذي في صوب آخر ، وما الإستجابة لضغوط صالح الفهدي وتغيير موعد بث قيم لاحقا إلا دليل على القرار غير المستقر هذا ، فقيم كان يُتوقع له أن يكون ضمن أولويات خارطة بث التلفزيون هذا العام إلاّ أنه فوجئ أنه ليس كذلك ، فها هو يوضع في البرنامج الثاني – الأقل متابعة – وفي توقيت غير توقيت بعد المغرب المعتاد بل وضع في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، ومع ربط رواية فهد الابن حول الشخصية المهمة وجدولة بث برنامج قيم الجديدة نحن في محل تفسيرين اثنين .. الأول أن مسؤولي الهيئة خالفوا رأي تلك الشخصية التي ذكرها فهد الفهدي في تغريدته ، ووضعوا قيم هذا العام حسب تقييمهم لما هو أهم في البث حسب وقت ما بعد الفطور والذي يشكل وقت ذروة للعمانيين، والتفسير الثاني أن رواية فهد بحد ذاتها غير حقيقية؛ لأن مجرد أن يخالف مسؤولو الهيئة أمر تلك الشخصية يعني أنهم لا يضعون لها إعتبار وهذا شيء مستبعد تماما، تغيير وقت البث وبثه عبر البرنامج الثاني ضربتان كانتا كفيلاتان بتحرك حثيث من الدكتور صالح لتغيير توقيته ، جاء التحرك من عدة جهات ضاغطة ، كأن يكون أحدها في صيغة شعبية صحفية ، كتحقيق لجريدة الرؤية يُظهر رغبة الجمهور في إعادة قيم لتوقيته السابق ، كذلك عبر تحركات صالح الشخصية مع معالي الدكتور وسعادة نائبه وأطراف أخرى؛ ليتحقق في النهاية جزء مما سعى له الدكتور، فقد أُعيد موعد البرنامج إلى توقيت بعد الإفطار ولكن لم ينقل للقناة الأولى بل بقي في البرنامج الثاني الذي يعتبر ذو مشاهدة أقل نسبيا بالمقارنة مع القناة الأولى العامة .

 

فنيا ، قيم هذا العام حافظ على نسقيّة العام المنصرم من حيث الشكل والمحتوى، فالدكتور الفهدي يستعرض القيمة شفاهيا ومن ثم يأتي مشهد تمثيلي يوضح ما قاله ، في إصرار واضح على أن هذه الخلطة هي الطريق الأنسب والأنجح لإيصال الرسالة ، كذلك وبنفس نسق الجزء الأول يطرح صالح الفهدي نفسه كمذيع توعوي يُفترض فيه الإقناع والإقناع الكبير ولكن يبدو أن درجة الإقناع التي تتبعها درجات أخرى كتحقيق شعبية وجماهيرية للمذيع التوعوي ، لدى صالح حتى الآن لم تتحقق بعد ، وربما تقف عوائق كثيرة في سبيل تحقيق هذه الدرجة ، أولها الأداء المباشر للفهدي والذي يخلو من كاريزما جاذبة لمشاهدها ، هذه الكاريزما ترتبط بأسلوب الأداء واستخدام مدروس ومتقن ومحترف لطبقات الصوت مع إيماءات الوجه و لغة الجسد المقنعة.

 يحسب للفهدي اِستمرار المحاولة والمحاولة وهذا بحد ذاته قد يوصله لتحقيق الغاية مع تكرار المحاولات، ولكن تكرار التجارب المتباعدة قد لا يؤدي إلى فعل التراكم الإيجابي، كونه لا يطل في السنة إلا كل رمضان مما قد يجعل التجربة تراوح نفسها في ذات المربع وتتطور ولكن بشكل ( سلحفاتي ) ، هذا على صعيد بناء شخصيته كمذيع اتخذ الجانب التوعوي له كطريق .. أما على صعيد قيم كبرنامج فهو لم يغادر مربعه الأول قيد أنملة ، فمشاهد الدراما في قيم الجزء الثاني شكّلت مطبّ مستنسخ لمطبّ الجزء الأول، وإن ظهر حرص المخرج على عرض زوايا إخراجية جميلة دراميا مدعومة بمستويات إضاءة جميلة هي الأخرى ولكن هذه الصورة النظيفة ضائعة للأسف الشديد مع الأداء الدرامي المتوسط إلى الضعيف للممثلين كذلك خلوّ النص المؤَدى من عوامل الإيقاع والدهشة واستمراره في الطرح المباشر، الذي وإن اِشترك فيه نجوم الدراما العمانية إلا أن لضعف النص المقدم يستوجب في أحيان كثيرة سحب مصطلح ( دراما تمثيلية ) منه ووصفه بـ ( التمثيلية المدرسية ) .

فنيا أيضا ، من الملاحظ أن الاشتغال الفني من قبل العنصر العماني الصرف المكون لفريق قيم في لفتة تحسب لمركز قيم للإنتاج أحدث نقلة؛ لا سيما على مستوى الجرافيك في مقدمة العمل، وأيضا على نطاق التفاصيل الصغيرة كطريقة الإنتقال من مشهد الفهدي إلى المشهد التمثيلي، فهناك تكوين جميل وملفت يستحق الإشادة قائم على حركية كلمات متداخلة تملأ الصفحة، وتعود للتبعثر وبنفس الروح تدخل هذه الحركة في تكوين الشريط الأفقي الذي يحوي اِسم الدكتور .

  دين ودنيا .. مكسيكيون يرتدون دشاديش !!

دين ودنيا مسلسل حلقاته منفصلة متصلة .. هو الآخر يأخذ شكل التوعية المباشرة ، وكأن شركة فنتازيا التي يملكها الممثل زكريا الزدجالي استنتجت أن اللعب على وتر الإرشاد القيمي سيقربها أكثر من جهات الشراء التلفزيونية طالما تجربة صالح الفهدي في قيم الجزء الأول لاقت اِستحسانا من تلك الجهات، وكأن المسألة أقرب إلى الصياد الذي اِكتشف منطقة تجمع سمك كثيفة واصطاد منها الكثير فتبعه الصيادون الآخرون .. فحدث أن كان الصياد الأول الدكتور صالح والسمك هو خط برامج التوجيه والإرشاد الديني القيمي والصياد الثاني هو زكريا الزدجالي عن طريق شركته فانتازيا ، التي ظهر أنها ركبت الموجة التي تقودها شركة قيم مرة أخرى، لا مشكلة من صنع موجات والركوب عليها طالما تحقق هدف ما بصيغة ما بشكل أنيق ولكن المشكلة ( العويصة ) – على حد تعبير دارجنا العماني –  تكمن في الاستسهال الإنتاجي الذي ركبته شركة فنتازيا .. فالمشاهد التي نراها أقرب إلى إنتاج تسعيناتي مُعتّق ، والطامة الكبرى – هذه المرة على حد تعبير شاغل الناس ( أبو فيصل ) – أن يكون التمثيل باللغة الفصحى في مشهد يجعلك تتخيل مسلسل مكسيكي رديئ الإنتاج ممثلوه يرتدون دشاديش عمانية !

إنتاج اِقتصر على الشقق الفندقية ، بإضاءة لا تمتلك فنون الإضاءة إلا ما اصطلح على تسميته في بلاتوهات التصوير بالإضاءة المفروشة، وزوايا تعيدنا إلى زمن اللقطة الثابتة المتسمّرة الخالية من وجوه الإبداع والحركة والإيحاء ، وتمثيل وإن اِشترك فيه ممثلون يفترض أن لهم اِسمهم في الدراما العمانية ومثلوا فيه بداعي الحاجة المادية أو مجاملة لزميلهم زكريا ، فهم بتمثيلهم وبالنص الذي يمثلون به ، يمثلون علينا ويقولون لنا : ” ترانا نمثل  شوفونا ” !

حاولت أن أجد ما يمكن أن نستخلص منه كمشاهدين قيمة معرفية بصرية مضافة في زمن تكثر فيه الخيارات المقدمة لنا كمشاهدين، فلم أجد غير أن العمل قد يكون مفتاح جميل لمعرفة أننا كعمانيين نجيد اللغة الفصحى ، وأنه بالإمكان اِستثمار مجموعة من الذين مثلوا في هذا العمل في أعمال تاريخية قادمة وغير ذلك لا يوجد في سجل حسنات هذا العمل الذي يفترض أن يوصل إلينا قيمة إنسانية إسلامية جميلة ترتقي بمجتمعاتنا نحو الأفضل، أي حسنة .. ولا أبالغ إذا قلت أن دين ودنيا قد أفسد هذه القيم الجميلة والنبيلة؛ لأنه نفّر الناس منها بدل أن يحببهم فيها .. فمنذ أول دقيقة أكاد أجزم أن من بيديه الريموت سيغير المحطة مباشرة، ولن يشاهد المسلسل إلا الممثلون الذين شاركو فيه وأقرباؤهم كمجاملة ، وحتى مخرجه وكاتبه لن يشاهدا عملهما، فبحكم أنهما غيرعمانيين وقد قبضا نظيرعملهم الذي فيما يبدو لم يكن مرهقا البتّة ، سيكونان مشغولان حتما بمشاهدة مادة تلفزيونية جاذبة وجميلة على شاشاتهم الوطنية .

بقدر العتب القاسي على فنتازيا في باكورة أعمالها الإنتاجية الواضحة بقدر الغضب على هيئة الإذاعة والتلفزيون في قبولها بهكذا أعمال تحت بند تشجيع شركات الإنتاج، وإذا كان هذا التشجيع سيأتي بهكذا عمل فالأولى أن لا نشجّع على الإطلاق وأن نُغلق بوابة الإنتاج الخاص حتى يكون لدينا إنتاج خاص يراعي عنصر مهم غائب حتى الآن اِسمه .. الذوق.

حميد البلوشي

تويتر :

@hameedalbloushi

السابع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

حميد البلوشي

كاتب وإعلامي عماني