إعابة الذات السلطانية

في مايو الماضي، بدأت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة طالت عددا كبيرا من الكتاب والنشطاء، تم على إثرها محاكمة عدد منهم وإدانتهم بتهمة “إعابة الذات السلطانية”، ومخالفة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والحكم عليهم بالحبس لمدد تتراوح من ٦ أشهر إلى عام، إضافة إلى الغرامة.

هذه الحملة الأمنية الشرسة على حرية التعبير والحراك المدني في البلاد تستوجب وقفات تحليلية عدة؛ لمحاولة فهم ماحدث وأبعاده القانونية والسياسية والحقوقية، وإحدى هذه الوقفات لابد وأن تكون مع تهمة “إعابة الذات السلطانية”، التي بحجة التصدي لها، تشن هذه الحملة الشعواء على حقوق الناس وحرياتهم الأساسية.

تنص المادة  ٤١ من النظام الأساسي للدولة على أن :(السـلطان رئيس الدولـة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ذاتـه مصونـة لاتمس، واحترامـه واجب، وأمره مطـاع).

بينما تنص المادة ١٢٦ من قانون الجزاء العماني على أن: (يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر الى ثلاث سنوات أو بغرامة من خمسة وعشرين إلى خمسمائة ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب علانية أو بالنشر طعنا في حقوق السلطان وسلطته أو عابه في ذاته).

استناداعلى هذا النص، جرمت المحكمة شباباً وكتاباً وشعراء، لأنها رأت فيما كتبوه إعابة في ذات السلطان، وحكمت عليهم بأن يدفعوا عاماً بأكمله من شبابهم في الحبس، ثمنا لما تفوهوا به أو كتبوه، واعتبرته المحكمة إساءةً في حق السلطان.

هذه النصوص القانونية، وهذه المعالجة القضائية لها، تضعنا كمواطنين أمام إشكالية كبيرة، لعدة أسباب:

أولاً: أنها تضع ذات السلطان في مكانة عالية، لا يجروء أحد على المساس بها أو انتقادها أو الطعن في قراراتها أو تصرفاتها. وهذا لا بأس به لولا أن السلطان ليس رمزا وطنيا وحسب، وإنما هو أيضاً رئيس حكومة ويدير بلاد وأجهزة ومؤسسات. هذه البلاد التي يدير شؤونها، هي أيضاً بلادي وبلادك، والأموال والأراضي والثروات التي تتصرف فيها الحكومة هي أيضاً أموالي وثرواتي أنا وأنت وأبنائي وأبنائك، ومن هذا المنطلق، من حقي أن أنتقد وأعترض وأساءل من يديرها ويتصرف بها، ومن حقي إن لم يرضني تصرف ما، أن أحتج عليه وأطالب بتعديله أو الرجوع عنه.

من حقي أن أعرف كم يستلم السلطان من ميزانية الدولة، وفيم ينفق المال العام، وعلى أي أساس اتخذ قراره بتعيين س أو ص من الناس في منصب حكومي. هذه حقوقي وحقوقك بوصفنا مواطنين وشركاء في هذه البلاد.ومن واجب السلطة أن تحترم هذا الحق ولا تنتقص منه.

ولايمكن اعتبار الرئيس التنفيذي للسلطة ذاتاً مقدسة، لأن هذا يتعارض مع حقي في مساءلته وانتقاده ومراجعة تصرفاته وقراراته فيما يتعلق بشؤون البلاد والمال العام. أي أنه لا يمكن التوفيق بين حجم الحصانة التي يريد التوجه السلطوي الحالي منحها للسلطان كرمز للدولة، وبين كونه الرئيس التنفيذي للحكومة.

ولابد بالتالي، من توسيع هامش النقد والمساءلة، مميزين بذلك بين شخص السلطان الذي نحبه ونحترمه، وبين صفته القانونية والوظيفية كرئيسٍ للحكومة والمسؤول الأول عن أدائها وحسناتها وأخطائها.

ثانياً: شاغلي المناصب العامة هم في العادة أكثر الفئات عرضة للنقد والهجوم، لأن قراراتهم وتصرفاتهم لا تمس حياة الأفراد ومعيشتهم وحسب، وإنما تمس مصير الوطن بأكمله، حاضراومستقبلاً. وبالتالي لابد من زيادة جرعة النقد والمساءلة، وتشجيعها عوضا عن محاربتها وتقليصها؛ لأن في ذلك مصلحة البلاد وضمان أنها تسيرفي مسار صحيح يرتضيه لها أبناؤها. وهذا هو المبدأ الذي تبنته ثقافتنا الإسلامية وشجعته وحضت عليه.

فحين تولى أبو بكر خلافة المسلمين، خطب في الناس قائلا: ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).

وكذلك فعل عمر حين قال:(إذارأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني)فقام رجل وقال لعمر: (والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا)فقال عمر (الحمد لله الذي جعل في أمة محمد ‏صلى الله عليه وسلم من يقوِّم عمر بسيفه ).

بل حتى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهوالنبي المعصوم، تحمل النقد الجارح، واتهامه بالظلم، ولم يجرمه أو يعاقب عليه.حيث روى البخاري أن أحد الحضور في قسمة الغنائم يوم حنين انتقد النبي بقوله: أن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله.فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، قال:«رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

فإذا كانت الذات النبوية المعصومة، تتعالى على الإساءة وتدرك أن من ولي أمور الناس وأموالهم، لن ينجو من ألسنتهم واعتراضاتهم، فكيف بأي ذات إنسانية عداها؟

هذه الأمثلة تظهر وبوضوح، أن الحاكم في ثقافتنا الإسلامية غير منزه ولا مقدس ولا مصون عن النقد.وليس له فوق ما للمواطن العادي من احترام وحماية.

ثالثاً: هذا التعامل مع الذات السلطانية، يجعلنا نتساءل: أيهما أكبر الوطن أم السلطان؟

في قضية الإعابة هذه، جيشت السلطة أجهزتها الأمنية والإدعاء العام وبياناته والمحاكم والقضاة والإعلام؛ لمعاقبة المتهمين قبل وبعد صدور الحكم. بينما في قضايا الفساد وسرقة المال العام، لم نر للسلطة تحركا بهذا الحجم والكثافة. وحين تقدم سبعة آلاف مواطن بشكواهم للإدعاء ضد الفساد، استند الأخير على أمور شكلية لرفض الشكوى وعدم فتح باب التحقيق فيها،على عكس ماحدث في قضية الإعابة، حيث تجاوزالإدعاء العام دوره واختصاصاته من أجل إحكام القبضة على هؤلاء الشباب. (وأرجو أن أوضح تجاوزات الإدعاء العام في مقالة قادمة)

فهل تغريدة في تويتر، مهما كانت بذيئة، في حق السلطان، أخطر على الوطن من المفسد والسارق والظالم ومنتهك الحقوق؟ لماذا ثارت ثائرة الدولة بسبب كلمة، ولم تتحرك طوال هذه السنوات وهي ترى ثروات الوطن وأمن إنسانه يُعبث بهما؟

هل الذات السلطانية أكبر وأكثر قداسةً من الوطن؟

لو أن ديدن السلطة محاسبة كل من أفسد أو سرق أو نهب المال العام، أو قصر في مسؤولياته الوطنية والقانونية، لربما كانت الحملة الأخيرة ضد الإعابة أخف وطأة. أما أن تُترك الجرائم الوطنية الحقيقية، وتستنفر الدولة كل أجهزتها؛ لمجابهة تغريدة شاب في تويتر، أو جملة تلفظت بها شابة، فهذا دليل على اختلال في جدول أولويات السلطة!

فعمان تأتي قبل الجميع، وفوق الجميع، وستبقى حين يرحل الجميع.

رابعاً: من أهم مقتضيات العدالة، تطبيق مبدأ النسبة والتناسب.بمعنى أن تتناسب العقوبة مع فداحة الجرم المرتكب، ولا تتجاوز ذلك. ومارأيناه من شدة في قضية الإعابة، لا يتناسب مطلقاً مع ما فعله هؤلاء الشباب.

مهما كانت بذاءة اللفظ، محل التهمة، فلا يستحق أن تكون عقوبته الاعتقال والحبس الانفرادي والحرمان من الحقوق القانونية الأساسية والمحاكمة السرية والحبس لمدة عامٍ كامل، والتشهير بالصورة والاسم الكامل وتاريخ الميلاد في الصحف الرسمية والتلفاز، في عقوبة جماعية للمتهم وأفراد عائلته، وكل هذا في حق شباب في مقتبل العمر، غضبوا لوطنهم وساءتهم أحواله.

لابد علينا جميعًا أن نتنبه لخطورة ما يحدث من خلط في المفاهيم وتلاعب بعواطف الناس ومخاوفهم. ما يحدث الآن هو خلط خطير بين أمن الوطن وأمن السلطة. فالوطن أكبر من أفراد بعينهم أو من نظام حاكم. أمن الوطن يعني أولاً وقبل كل شيء أمن شعبه من أي عسف أو تعد أياً كان مصدره، وكرامة أفراده وحرياتهم. أما أمن السلطة فهو الذي من أجله لا يبالي القائمون عليها إن قامروا بالحاضر أو المستقبل، أو أهدروا كرامة الشعب وحقوقه، من أجل تحقيق مصالح سلطوية قصيرة الأمد.

في هذه الحملة تقوم أجهزة السلطة بتجييش الرأي العام واستنفاره وكأن “الذات السلطانية” هي آخر حدود الوطن، وأن أمن البلاد على المحك. تضخم ما حدث؛ لتبرر به الانتهاكات القانونية والدستورية التي ترتكبها، والتي هي أشد خطورة على أمن البلاد، من كلمة مسيئة تلفظ بها شاب، أو غردت بها شابة في موقع إلكتروني!

هذا لا يعني أننا نقبل ثقافة الشتم والسب والألفاظ البذيئة، فهو أمر مرفوض في حق أي فرد سواءً كان سلطاناً أو مواطناعادياً. لكن لابد من وضع الأمور في نصابها الصحيح، فلا يعقل أبدا أن تستنفر بلادٌ بأكملها بسبب كلمة قيلت في حق حاكم.

جلالة السلطان له منا كل الاحترام والتقدير، وما حققه لعمان من منجزات بادية للعيان لا ينكرها أحد، لكنه في نظر التاريخ والحقيقة المجردة من العواطف، حاكم من ضمن مئات الحكام الذين تعاقبوا على هذه البلاد منذ خمسة آلاف عام.ليس من الحكمة مطلقاً تعريض استقرار الوطن وسلمه الاجتماعي للخطر، بسبب لفظة قيلت في حقه، بتلك التصرفات الاستفزازية التي ترتكبها السلطة.

بل إن الإعابة الحقيقية لذاته والإساءة لهيبته ومكانته في النفوس، هي بالزج به، وهو من هو، في معارك وهمية، الخصوم فيها شباب ولدوا وعاشوا حياتهم كلها في عهده!وأن ينتهك القانون والدستور باسمه وفي وجوده!

كان من المفترض أن تنأى السلطة بالسلطان عن مثل هذه المواقف، وعن وضعه في مواجهة مع الشعب، فإن كان سبب الإساءة هو الغضب والاحتقان، فالمعالجة الأمنية العنيفة ستزيده.كان الأولى بهم معالجة جذور المشكلة لا عوارضها، بالبحث في أسباب الغضب والتذمرالشعبي وإزالتها.لكن للأسف، مرة أخرى تكون الغلبة للحل الأمني، في عودة مخيبة لما قبل فبراير ٢٠١١.

الثامن و العشرون سياسة

عن الكاتب

بسمة مبارك سعيد

كاتبة ومحامية عمانية