اختراق الذهنية العربية

تهتم الدول المتقدمة بتوجهات الرأي العام وتبني سياساتها على نتائج استطلاعات الرأي في كل مجالات الحياة، لذا نجد أن هناك معاهد متخصصة في دراسة توجهات الرأي العام في هذه الدول، ولعل معهد جالوب الأمريكي لاستطلاعات الرأي العام هو الأبرز في هذا المجال فهو يجري بانتظام استطلاعات الرأي العام في أمريكا وأكثر من 140 دولة في العالم مما جعل منظمة جالوب لاستطلاعات الرأي تنال شهرتها من الإشارة إليها في كثير من الأوقات في وسائل الإعلام بوصفها مؤسسة موثوق بها وبموضوعيتها في قياس الرأي العام.

ورغم أن مفهوم استطلاعات الرأي العام قديم في دول العالم إلا أننا في الوطن العربي نفتقد إلى دراسات حقيقية لواقع المجتمعات العربية، ولا توجد مراكز تهتم بدراسة توجهات الرأي العام التي من خلالها يمكن أن تتحرك فيها الدولة؛ تلبية لحاجة المجتمعات أو لوضع حلول للمشكلات، لذا نجد أن معظم الحكومات العربية إن لم تكن كلها تمشي بدون خطط مدروسة حتى في أبسط المشاريع أو بمصطلح آخر نقول “إن الدول العربية تمشي بالبركة فقط” وهو تخفيف لمصطلح”خبط عشواء”، فمع التطور التقني الكبير في العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة لم يعد بالإمكان أن تشكل الدولة – أي دولة – الرأي العام الداخلي عبر الإعلام المحلي الذي ظل مسيطرا على عقول الناس لعقود طويلة، فقد لعب الإنترنت دورا أساسيا في تشكيل الرأي العام وأصبح المتلقي العربي يتلقى آلاف الرسائل يوميا مما أعاد تشكيل وعيه خاصة جيل الشباب، وأصبحت مواقع التواصل مثل الفيس بوك وتويتر معيارا حقيقيا لدراسة توجهات الرأي العام في كل مكان نظرا للإقبال الشديد عليها من قبل الشباب؛ خاصة مع انتشارها وسهولة استخدامها في أي لحظة ومن أي مكان وعبر الهاتف النقال.

إن هذه التقنيات الحديثة سهلت للدول المتقدمة قراءة توجهات الرأي العام في العالم، وقللت من الاعتماد على دراسات استطلاعات الرأي، لأن فكر الإنسان عامة وفكر الإنسان العربي خاصة أصبح مخترقا ومكشوفا، وعندما يكون الإنسان مكشوفا تكون مهمة توجيهه والسيطرة عليه أسهل، ويجدر بنا أن نقف على موقفين لهما دلالتهما، الموقف الأول عن دراسة إسرائيلية أصدرها معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب قالت إن 10 بالمئة من سكان لبنان يستعملون شبكات التواصل (فيسبوك، تويتر، مدونات ويوتيوب)، وإن الأغلبية الساحقة منهم تنتمي إلى الطائفة السنية بالإضافة إلى المسيحيين ورجال الإعلام وصحافيين أجانب ومواطنين لبنانيين يعيشون في الخارج.

وقالت الدراسة التي جاءت تحت عنوان: لبنان: توجهات ورأي في مواقع التواصل الاجتماعي، إن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي يستعمل وبكثرة هذه الشبكات، وأيضا رئيس فريق 14 مارس، سعد الحريري، حيث يقومان بتوجيه الرسائل السياسية في المواضيع المختلفة ويستغلان الشبكات للتأثير على الشباب اللبناني في القضايا الشائكة التي تعصف بالبلاد، وبحسب الدراسة فإن سعد الحريري يُوجه تغريدات عبر تويتر إلى 153 ألف مشارك، وإلى 48 ألف صديق في فيسبوك، وتتناول الدراسة الإسرائيلية الأوضاع اللبنانية بدقة وتصنف توجهات كل طائفة وكل مذهب وتركز على آراء اللبنانيين حول حزب الله وحول الوضع في سوريا، مما يدل على أن إسرائيل أصبحت تجند الآلاف من الأموال والكوادر لدراسة التغريدات في تويتر وفيس بوك وفي أي موقع عبر النت.

أما الموقف الثاني فهو ما نشرته وكالة الأنباء الفرنسية عن الجدل الذي دار بين السعوديين حول من يحق له دخول الجنة إثر إطلاق “سعد الدريهم” أستاذ الشريعة في جامعة الإمام سعود في الرياض تغريدة على صفحته في تويتر تؤكد أن حق دخول الجنة محصور ب”أهل نجد وعلمائها فقط” وإن “الفرقة الناجية هي ما كان عليه علماؤنا وأهل نجد ومن تبعهم”، مضيفا أن”عاميّا في نجد خير من عالم في مصر”، وسرعان ما رد “محسن العواجي” على صفحته في تويتر متسائلا “ما هذا يا رجل؟ اسأل الله أن يهديك، أما نجد فلا أعلم نصا في قداستها إلا أنه منها يخرج قرن الشيطان”.

لقد أدى نقاش أحقية من يدخل الجنة إلى ارتفاع أعداد متابعي الدريهم إلى أكثر من 20 ألفا في يومين، وتزايدت التعليقات ما بين مؤيد ومعارض بل وصلت إلى بعض السخرية حيث كتب أحد المتابعين أنه يعيش في نجد منذ عقود فهل يحسب من الفرقة الناجية”؟ في حين كتب آخر إن “كلام الدريهم يوضح سبب ازدحام طريق خريص، فالكل يرغب بدخول الجنة”، في إشارة إلى أحد التقاطعات الرئيسة التي تشهد ازدحاما في الرياض، فيما كتب مغرد آخر “مساكين أهل الحجاز مئاتُ السنين في خدمة الحرمين وفي الحلقة الأخيرة بالنار”!

لقد انطلقت في الأيام الأخيرة حملات أقرب إلى أن تكون مسعورة عبر تويتر من أناس يُفترض فيهم أن يكونوا عقلاء يجمعون بين الأمة لا أن يلجأوا إلى التفريق بين الناس، فهذا يطلق حكمه في من يخالفه الرأي، وهذا يثير فتنة مذهبية بين المسلمين، وذلك يزعم لنفسه الحق ولغيره الباطل ويتهم الآخرين بأنهم من أهل البدع، ولا يعلم هؤلاء أنهم أدوات لهدم الأمة من حيث يعلمون أو لا يعلمون، لأن التهجم على الآخرين إذا جاء من العوام قد يكون مقبولا أما أن يخرج من أناس تسبق أسماءَهم ألقابٌ مثل الشيخ أو الدكتور أو الإمام فهذا غير مقبول أبدا، وهناك من العوام من يصدق ويتبع هؤلاء، وهناك من يدرس الوضع في الخارج يتربص بنا ونحن غافلون، فليس تحت كل غترة عقل وليس تحت كل لحية طويلة أو دشداشة قصيرة تقوى أو إخلاص!

لا بد لهؤلاء أن يعرفوا هذا الخبر، إذ أن كل التغريدات التي كتبها أكثر من مليون عربي في موقع تويتر تم طرحها هي وغيرها في وقت سابق للبيع لمَن يرغب، فوفقاً لصحيفة “سبق” الإلكترونية السعودية فإن التغريدات تحظى باهتمام واسع من أجهزة المخابرات التي تجد أن ما ستدفعه شهرياً لمعرفة أفكار وميول وأسرار مواطنيها هو أقل من راتب أسبوع يتقاضاه منها “جاسوس غير محترف”، وبدأ البيع بموجب اتفاق عقده تويتر مع شركة “داتاسيفت” البريطانية التي تحولت بموجبه إلى وكيل لبيع أرشيف جامع لكل تغريدات المشتركين في تويتر بالعالم، وعددهم يزيد على 300 مليون، وتعني عبارة “كل تغريدات المشتركين” الواردة بالاتفاق ما كتبه المشترك منذ يناير 2010 حتى يناير من هذا العام، أي طوال عامين قام المغرد خلالهما بكتابة عشرات آلاف العبارات وأرسل صوراً وروابط إلى مغردين آخرين، وبحسب صحيفة “سبق” فإن عدد التغريدات اليومية في “تويتر” يزيد على مليارين، بينها مليونان و200 ألف بالعربية على الأقل، وحوالي 50 ألفاً لعرب يغردون بلغات أجنبية، وكلها سيتم تقديمها على طبق من فضة للمخابرات.

والأخطر هو أن الاتفاق يسمح ببيع التغريدات لمَن يرغب في شرائها من دون أي انتقاءٍ وتمييزٍ، وهذا يعني أن ميول وأفكار واتجاهات العالم العربي كله -وكذلك غيره- يمكن أن تصبح بحوزة مخابرات كل بلد عربي وأيضا نظيرتها في أي بلد آخر، وهو اختراق يومي للمنطقة العربية بأسرها، وبثمن يقل عن قيمة اشتراك شهري في أي نادٍ اجتماعي، فهل يعي العرب خطورة ذلك؟ وهل يعي من يفرقون بين الأمة الواحدة وينفذون أجندات خارجية من حيث لا يدرون ما معنى ( مَا يَلفظُ مِن قَولٍ إلّا لديهِ رقيبٌ عتيد ؟)

Zahir679@gmail.com

 

التاسع والعشرون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com