ملاحظات على كتاب الإيمان بين الغيب والخرافة ( الجزء الرابع )

كتب بواسطة حسين العبري

الدعاء

نعود الآن إلى القضية الحساسة الثانية التي واجهت المؤلفيْن، وهي الدعاء. والمؤلفان يريان أن إجابة الله لدعاء الداعي ليس فيها خرق للقانون الكوني. فإجابة الدعاء من سنن الله في كونه، ومن مقتضى حكمته. وإجابة الدعاء لا يختص بها أحد دون آخر؛ فالله هو من يجيب الدعاء والأمر كله راجع إليه؛ فكل أحد من عباد الله عندما يسأله قد يستجيب له سبحانه ولو كان السائل كافرا. فالأمر برمته راجع إلى الله تعالى وحده. وقد تكون الاستجابة بتيسير أمور الإنسان في الحياة وتذليل العقبات له واحدة تلو الأخرى وهذا من السنن الاجتماعية التي نتفاعل معها في حياتنا اليومية ولا يوجد فيها خرق للناموس الكوني.

والحق إنني أكاد أرى أن المؤلفين لم يقولا كل ما لديهما في مسألة الدعاء. فالدعاء مسألة حساسة في نظري لأنها ليست كالمعجزات التي انتهى أمرها مع انتهاء النبوات، وليست كالكرامة التي لم نشاهدها، وليست كالسحر الذي حتى في عُرفِ من يؤمن به اختُصَّ به جماعة من الناس. فالدعاء من ناحية أمر ثابت بصريح القرآن، وهو من ناحية أخرى مستمر، ومن ناحية ثالثة يخص كل واحد منا. فكيف يمكن لنا أن نفهم الدعاء؟

لنضرب مثالا: ثمة قحط في بلادنا عمان، عليه يأتي المؤمن فيدعو الله أن يُنزِّل المطر. لكن كيف يستجاب له في هذه الحالة؟ نحن نعرف أن عمان من الدول التي معدل هطل الأمطار بها منخفض جدا. ونحن بتنا نعرف أن الأمطار تأتي وفق قوانين طبيعية معينة، وصحيح أنه لم تخترع بعدُ الطريقة التي يمكننا بها أن ننزِّل المطر وقتما نشاء أينما نشاء، ولكن تظل معرفتنا مطردة أن عمان بلد جاف. فلماذا ندعو الله أن ينزل المطر علينا؟

يمكن أن تتبادر إلى الذهن الإجابات التالية:

• الدعاء هنا لا معنى له، وخصوصا بعد معرفتنا أن الأمطار شحيحة في هذا الجزء من العالم.

• الدعاء هنا غير جائز لأن الدعاء لا يكون فيما هو محال، بالتالي الدعاء هنا ليس معناه الدعاء على إطلاقه بل هو دعاء في أن يُنزِّل الله المطر فيما يُنزِّله عادة على هذا البلد، وأن يجعل الله المطر أكثر ما يكون ممكنا حسب قوانين الطبيعة.

• الدعاء هنا لمجرد الدعاء الذي هو عبادة بحد ذاته لكنّ الإجابة لن تكون إلا وفق القانون الطبيعي.

• الدعاء هنا موفق والله يجيب الداعي إن اقترن دعاؤه بالعمل، لكنْ ما هو العمل في هذه الحالة؟ العمل الإيماني العام؟ أم العمل على إنزال المطر بالطرق العلمية وتطوير التقنية الملائمة؟

ومن أجمل الأقوال التي يوردها المؤلفان عن الدعاء ما أورده العلامة عثمان بن أبي عبدالله الأصم في كتابه “النور”، إذ أورد من كتاب الثعلبي: وقال بعضهم: معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاما، تقديرهما: أجيب دعوة الداعي إن شئتُ، وأجيب دعوة الداعي إذا وافق القضاء، وأجيب دعوة الداعي إذا لم يسأل محالا، وأجيب دعوة الداعي إذا كانت الإجابة له.

والجميل في هذا القول إنه إن كان صحيحا فالدعاء يمر بعدة مراحل:

• مرحلة تخص الداعي: أن يكون الدعاء بما هو ممكن.

• مرحلة تخص القضاء والقدر: أن يوافق ما دعي به ما هو مقضي به أصلا.

• مرحلة تخص الله وحده: أن يشاء الله إجابة الداعي.

والمرحلة الثانية كما أرى يمكن أن نطلق عليها السنن والقوانين. وهي كافية في حد ذاتها. فالمرحلة الثالثة هي أصلا جزء من المرحلة الثانية، فالله إن كان سيشاء الإجابة فإنه سيكون قد ضمَّن إجابته في قضائه وقدره، أي في سنن الكون وقوانينه الطبيعية. والمرحلة الأولى لا معنى لها فيما يتعلق بالإجابة، فالإجابة مقضي بها أو بعدمها بالسنن الطبيعية. وعلى هذا فإن الدعاء حسب هذه المقولة ما هو إلا حركة نفسية إن صح التعبير تُطمئِن الإنسان وتدفعه في الحياة.

أما القول الآخر الذي يذكره الأصم عن الثعلبي أيضا: قال بعضهم في معنى الآيتين: الدعاء هاهنا الطاعة ومعنى الإجابة الثواب، كأنه قال: أجيب دعوة الداعي بالثواب إذا أطاعني. والحق أنه قول ملبس بعض الشيء فجملتاه تحملان معنيين مختلفين:

• الدعاء ليس معناه الدعاء الذي نعرفه من طلب تحقيق شيء أو دفع ضر، لا، بل الدعاء معناه الطاعة، أي أن المؤمن إن أطاع الله فإن الله سوف يجازيه بالإجابة، أي الثواب.

• الدعاء هو الدعاء الذي نعرفه ويثاب عليه المؤمن إن هو أطاع الله.

والآن لنعود إلى مثال: الدعاء لإنزال المطر في عمان. فبعد أن تبين للإنسان أن المطر ينزل بمعدلات منخفضة جدا في عمان فهل المفروض أن يتوقف المرء عن دعاء الله لإنزال المطر؟ لاحظوا أن سنن الله وقوانينه الطبيعية تقول: مهما تدعون لكم هذه الحصة من الأمطار. في تاريخ سابق وحين لم يكن العلم قد جاء بقوانين الأمطار وعوامل تكونها وحصولها فإن الدعاء كان ممكنا لأن السؤال كان بما هو جائز، أما الآن فلا يجوز السؤال لأنه أصبح في عداد علمنا أن القوانين الطبيعية تقول بعكسه. لنلاحظ أن المؤلفيْن يقولان في موضع آخر أنه لا يصح أن ينزل مطر من غير أن يكون هناك سحاب. فالقوانين الكونية تقول بذلك، وحسنا فلو افترضنا أن رجلا أعمى ينزل عليه المطر وهو لا يستطيع تصور السحاب بل يسمع الرعد أحيانا ويحس بالماء يسيل على جسمه فيعرف أنه مطر، فهذا الأعمى جائز له أن يدعو أن ينزل المطر من غير سحاب لكنه إن عرف أنه من القوانين أن يكون هناك سحاب فإنه لن يجوز له أن يدعو بمحال، فماذا لو عرف أن السحاب يأتي وفق سنن معينة وقوانين طبيعية فهل له بعد ذا ان يدعو بما هو محال؟

إن إجابة الدعاء في نظري خرق للقوانين الطبيعية، خرق بيِّن، وهو تدخلٌ من قبل الله في السنن الطبيعية للكون. وهذا أمر وارد لأن السنن هذه هو من أنشأها وخلقها بداية. لكن ليست المسألة هنا بمسألة مشيئة الله وقدرته في خرق ما خلق من سنن، بل في أن الإجابة ممكنة من قبل الله للعبد الداعي.

لننظر مليا في الأمر، فلو دعا مؤمن أن يشفيه الله من مرض ما، وشفاه الله. فمعنى هذا أن الله كان قد قضى أن هذا المؤمن سوف يصاب بمرض ثم سيدعوه وسيشفى جراء دعوته. وهنا أجاب الله الدعوة التي هي في القضاء ولن يكون هناك أي خرق للسنن والقوانين الطبيعية للكون بل هو مجرد توافق، وطبعا هذا أمر ينفي قيمة الدعاء. فإنه لو لم يدعُ المؤمن لكان أيضا شفي من مرضه حسب قضاء الله. ولكن هناك معنى آخر هو أن دعوة المؤمن تغير قضاء الله وطبعا بمشيئة الله. ولكأن هذا القول هو كالتالي: المؤمن سيمرض وربما سيودي به مرضه إلى الموت، ولكنه حين يدعو الله يُغيِّر الله القضاء الذي قضاه عليه فيشفيه. فلكأن القضاء هنا أمر ديناميكي متغير (أي أن الله يعيد خلق الكون وخياراته كل مرة يدعوه فيها أحدهم ويلبي له دعوته). وهنا فإننا ندخل في دائرة هي أكبر من دائرة السنن الكونية والقوانين الطبيعية، ويمكن أن نسميها دائرة السنن العليا والقوانين العليا للكون (الميتا سنن) (كما قلنا سابقا بالميتا عقل) وفي هذه الحالة فإن القضاء أمر تفاعلي لا أمر فعل من الله فقط. وهناك منظومة متكاملة من الإنسان والكون من حوله، وحين يدعو المؤمن أن يشفيه الله من مرضه فهو يفعل تغييرا في المنظومة وهذا التغيير يدفع بتغيير في القضاء فيتحقق الشفاء.

نحن أمام عدة احتمالات إذن:

• إجابة الدعاء خرق للسنن الكونية والقوانين الطبيعية، وعلى هذا فكلام المؤلفين غير صحيح في كل ما قالاه عن الغيب. فهنا أمر نفعله كل يوم يخرق السنن والقوانين الطبيعية. والمؤلفان يؤكدان ان هذا وهم وخرافة فليس ثمة خرق للسنن الكونية بإجابة الدعاء.

• إجابة الدعاء ليست خرق للسنن الكونية والقوانين الطبيعية بل هي سير لسننه، وهذا معناه أن الدعاء ليس المقصود منه تحقيق الشيء، وهو بالتالي أقرب أن يكون أمرا نفسيا. يزداد به المؤمن طمأنينة لكنه ليس له علاقة بما ستؤول إليه الأمور. مع هذا فإن النص قاطع في حصول التغيير: “ادعوني استجب لكم”.

• الدعاء هنا كلمة ليس معناه ما نعرفه من طلب تحقيق منفعة أو دفع ضر. ولكن هذا ما لا نجده في المعاني الممكنة للدعاء حسب القرآن.

• إجابة الدعاء جزء من منظومة أكبر من منظومة السنن الكونية المباشرة، ميتا سنن، فهو وإن بدا ظاهريا أنه خرق للسنن الكونية والقوانين الطبيعية إلا أنه داخل ضمن قوانين أعلى يتفاعل فيها الإنسان مع القضاء بطريقة ديناميكية تؤثر فيها استجابة الإنسان في القضاء كما يؤثر القضاء على الإنسان. ولكن هذا القول إن تخيلنا صحته سوف يحطم فكرة المؤلفين في الكتاب برمتها، فما الذي يمنع حينها أن يتدخل الجني في مرض الإنسان وصحته؟ وما الذي يمنع أن يكون هناك كرامات أو سحر؟

ومع هذا يذكر المؤلفان (وقد يكون مؤلف واحد) “عن سماحة شيخنا العلامة أحمد بن حمد الخليلي عن سيف بن سالم اللمكي أن الإمام العلي الرضي محمد بن عبدالله الخليلي خرج ذات يوم إلى وادي محرم من أعمال ولاية سمائل وكان الوادي مجدبا، فطلب الناس منه أن يصلي بهم صلاة الاستغاثة فخرج بهم إلى مسيل الوادي وصلى بهم، فأمطروا ذلك اليوم حتى جرى الوادي.

وقد يقول بعضهم : أن هذا من باب الموافقة، وليس من الشرط أن يكون من قبيل إجابة الدعاء.

قلنا: هذا لا يتعارض مع إجابة الدعاء، فهذه هي حكمته تعالى؛ وذلك بأن يحمل عباده على الدعاء لحظة تساوق الأسباب، وهذا من بيان تلازم القدرة والحكمة واللطف عند الله تعالى، وتلازم العمل والتسليم والإخلاص عند العبد.

ومثل ذلك أيضا ما رواه لي شيخنا المفتي الخليلي عن سيف بن سالم اللمكي أن الإمام محمد الخليلي خرج إلى بدية وكانت تعصف بها الرياح الشديدة ، فدعا لهم الإمام رحمه الله، ثم توقفت الرياح”.

وهنا يبين موقف المؤلفين من الدعاء أو بالأصح موقفهما من كيفية إجابة الدعاء بالسنن الكونية والقوانين، وهو حمل الله العبد على الدعاء لحظة تساوق الأسباب. وإنني أتعجب بالفعل من إيراد هذين المثالين. فالمؤلفان يعارضان قول البعض أن ما حصل إنما هو من باب الموافقة، ليأتيا بتعليل: أن الله يحمل العبد على الدعاء لحظة تساوق الأسباب، ولا يعني هذا لي إلا نفس الموافقة التي رفضاها. وربما هما يقصدان بالموافقة التي رفضاها: المصادفة، ونحن نعلم أنه ليس من حق المؤمن أن يؤمن بالمصادفة لأنه يؤمن بداية بقضاء الله وقدره وشمول علمه.

والغريب هنا ألا ينتبه المؤلفان إلى أن استجابة الدعاء الفورية في القصتين السابقتين لهو مما يمكن أن يعده البعض من الكرامة التي للعلماء والأولياء. وقد وجد في الكتاب تفنيد لكرامة ولي أنزل له الله المطر بلا سحاب. فهل هذا يعني أن الكرامة التي نفياها هناك هي بمعنى الأمر المعجز يحصل لغير نبي أو رسول؟ وبالتالي بما أن إجابة الدعاء ليست من الأمور المعجزة التي تخرق سنن الكون حسب نظر المؤلفين فالإمام المذكور لم يمنح في كلتا الحالتين كرامة بل هي استجابة لدعاء، وإجابة الدعاء هو مما لا يختص به نبي ولا رسول ولا ولي ولا حتى كافر ففي الآية فالله يجيب دعاء المضطر إذا دعاه من غير وجوب أن يكون مؤمنا.

مصادر الكتاب

القصتان السابقتان المذكورتان عن الإمام محمد بن عبدالله الخليلي تدفعاني إلى الحديث عن المصادر التي اعتمدها المؤلفان في الكتاب. فقد كان من المتوقع أن لا يأتي المؤلفان بمثل هذه القصص. فبداية هي من القصص التي يمكن أن تعد من الكرامة التي نفاها المؤلفان حين تحدثا عن الكرامة. وهي تخل قليلا من الموضوعية في الطرح ذلك لأنهما عن إمام إباضي. فلكأنهما توحيان بأصحية المذهب الإباضي عن طريق استجابة الله لدعاء الإمام. وإلى هذا فإنهما تجعلان من “القص” و”حدثنا” و”قال لنا” مصادر معترف بها. وهي تضفي شيئا من العلوية للمؤلف الذي سمع القصة ونقلها عن الشيخ أحمد الخليلي. فلكأنه لا يجب أن نتساءل عن صدق هذه القصة لأنها جاءت من قبل شخصين صدوقين هما أحد المؤلفين: خميس العدوي، والشيخ أحمد الخليلي.

والحق أنني أرى، وأتمنى أن أكون مخطئا، أن في الكلام عن الشيخ أحمد الخليلي وإدخاله الكثيف في جملة المصادر التي يوردها المؤلفان عملا أقرب أن يكون سياسيا اجتماعيا منه علميا. وبداية أذكّر القاريء هنا أنه من أول قاعدة يستخلصها المؤلفان للغيب في القرآن يوردان نصا مقتبسا عن الشيخ الخليلي، وهو نص مقتبس من كتاب أو مقال بعنوان: الدين الحياة، غير منشور. أما آخر فقرة في الكتاب فتبتدئ هكذا: ” ونختم كلامنا بهذه العبارة للشيخ أحمد بن حمد الخليلي، الموجزة في كلماتها العميقة في معناها…” المقتبسة عن الشيخ الخليلي من مقال أو كتاب بعنوان: إعادة صياغة الأمة. وهما لا يتتبعان فقط الأعمال المطبوعة للشيخ بل يفرغان كلامه من المحاضرات التي ألقاها ومن الأحاديث التي دارت بينه وبين أحد المؤلفين.

وهذا كله في رأيي:

• محاولة سياسية اجتماعية في التأثير على القارئ بالاتكاء على سطوة الشيخ وتأثيره في الشارع العماني الديني.

• محاولة لاستمالة الشيخ ذاته بإعلان التتلمذ، الفكري غير المباشر والشفهي المباشر، على يديه.

• وقد يكون استباقا لما كانا يتصورانه من ردة فعل الشيخ عليهما وعلى الكتاب سلبا، فلكأنهما يقولان نحن إنما نأتي بكلامنا من عندك وهذا أنت قلته هنا وهنا.

هذا كله يجعلنا نعرف أن الكتاب لم يكن بداية مطلقة بل كان محاولة لتغيير مسار الخط القائم في التفكير الديني في عمان ولو قليلا. ويبدو أن الكتاب كان محاولة لطيفة لفعل ذلك. في حين أن نبرة الحديث التي تسود كتاب الأزكوي الرقيشي: ملاحظات على كتاب العقل، والذي جاء بعد نشر كتاب العقل لليشخ أحمد الذي أعلن فيه تماما رفضه لما يقوله المؤلفان في كتاب الإيمان، نبرة الحديث عند الأزكوي توضح لنا أن اللطف الكامن في كتاب الإيمان تحول فجأة إلى غضب وعتب على الشيخ بل طعن في علميته ومنهجية كتاباته المتأخرة:

• فكتاب العقل للشيخ أحمد الخليلي يخلو من نسبة الأقوال لقائليها.

• ويعتمد على المصادر الشفوية (أخبرني وحدثني).

• ولا يورد الأدلة.

• ويستخدم الشيخ دعاوى شخصية من خلال مقابلته مع أحد المؤلفين أو صاحبهم الثالث.

بعكس ما كانت عليه كتابات الشيخ الخليلي المتقدمة من مثل “جواهر التفسير”، و”الحق الدامغ” الذي تتم فيه المناقشة بشكل موضوعي، وهذا هو سبب انتشار كتابه الرائع في حينه. ويخلص الأزكوي بعد هذا إلى النتيجة التي مفادها أن الشيخ تعرض إلى “انقلاب كبير” في فكره.

وهذا ما يجعلنا ننتقل إلى المصادر الأخرى في الكتاب في المواضع التالية:

• في مبحث الكرامة يورد المؤلفان استدراكا: “وربما اعترض علينا البعض في قولنا بخلو التراث الإباضي المتقدم من الكرامات الخارقة برواية موجودة في مسند الإمام الربيع (133) وهي: أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك قال: (حان وقت الصلاة فالتمس الناس وَضوءا فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء فوضع يده في الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا، قال أنس: فرأيت الماء ينبع تحت أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضؤوا إلى آخرهم). …

زاعمين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نبع الماء من أصابعه، وهذا خلاف ما تذهبون إليه.

قلنا: من تدبر هذه الرواية بعين البصيرة التي انزاحت عنها غشاوة الوهم والتقليد لم ير شيئا مما يذهب إليه هؤلاء، فالرواية لم تنص على أن الماء ينبع من أصابعه الشريفة، وإنما من تحتها، والفهم الصحيح لها، أنه عندما حان وقت الصلاة أخذ الناس حسب عادتهم يبحثون عن الماء للوضوء، ولما لم يجدوه رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فطلب أن يؤتى بالوَضوء، ولعله ما بقي لديهم من ماء، والظاهر أنه كان قليلا، فوضع يده في الإناء، أي أمسك به حتى لا يتوضأ منه كل إنسان بحسب عادته فينفد، وإنما الوضع يحتاج إلى طريقة أخرى من الاقتصاد في الماء، فأخذ يقسطه لكل متوضئ بيديه، قليلا قليلا، وهذا ما يعبر عن كلام أنس بن مالك رضي الله عنه (فرأيت الماء ينبع تحت أصابع النبي)، كما أن الحديث لم يذكر مقدار عدد الناس؛ قلة أو كثيرة، حتى لا يعترض بقلة الماء أنها لا تكفي للكثرة، على أنه قد ورد النهي عن الإسراف في الماء للوضوء، فالمتوضئ يكفيه مد يديه ماء، وهذا معلوم بالتجربة، ففي الحديث تربية على هذا الأدب النبوي بعدم الإسراف….

فالحديث يؤخذ منه فوائد تربوية وسلوكية عظيمة، لا كما يتوهم هؤلاء بأنه مدخل لقبول الخرافة بغية تسويقها في الوسط الإباضي.”

• في مبحث العين يورد المؤلفان الحديث التالي: “روى الربيع (500) عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام رقاه وهو يوعك فقال: (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، ومن كل حاسد إذا حسد، ومن كل عين، واسم الله يشفيك)

فيقول المؤلفان معلقين على هذا الحديث: الرقية من العين لا تعني إثبات تأثيرها، وإنما استعيذ منها لأجل تقريب المعاني إلى الأذهان، وأن ذكر الله تعالى كاف لطمأنينة النفس من أي شر يمكن أن تتصوره النفوس…..

• وإما أن الرواي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم الرقية عن الحسد، وعبر عن العين من باب الرواية بالمعنى وهو شائع كثيرا، أي عبر عن الحسد وهو تمني زوال النعمة الوارد في القرآن الكريم بالمعنى الشائع في الثقافة الشعبية.

• وإما أن التعبير بالعين هنا لا يراد به التأثير الحسي، وإنما يراد به التعبير عن الحسد وهو تمني زوال النعمة بالعين، وهو من باب المجاز، لأن العين هي الأداة التي يبصر بها الإنسان، فتنفعل نفسه مع ما يراه، فتتولد فيها مشاعر الحسد وهي تمني زوال النعمة عن الغير، وما يتبعها من شرور كالكيد…

والذي كان يتوقعه القارئ أن يقول المؤلفان أن هذين الحديثين غير مُلزِمين أو لا يؤخذ بهما لأنهما يتعارضان مع النسق القرآني أو الرؤية العامة في القرآن، وهذا الذي سارا عليه في نقض بعض الأحاديث المتقدمة التي وردت في كتب المخالفين، ولكننا نرى هنا أن المؤلفين يقومان بتأويل الحديثين بما يتماشى مع فكرتهما من نفي الكرامة غير مشيرين حتى من طرف بعيد على أنه يمكن أن يكون الحديث موضوعا أو ضعيفا أو نحو ذلك.

إن هذا يوحي:

• على أقل تقدير، بتحرج كبير من قبل المؤلفين في أن ينقضا أو يزيحا من موقع التصديق الكامل أحاديث مذكورة في مسند الربيع.

• أما على أبعد تقدير، فيمكن أن يشكل هذا ضربة قاضية في المنهج العلمي الذي يطبقانه على النظر للأحاديث “المؤسسة للخرافة” إن صح التعبير. فهما لا تعتريهما فكرة أنه يمكن لأحاديث المسند أن تكون خاطئة أو موضوعة بعكس أحاديث كتب المخالفين.

وعلى الافتراض الأول فإن تفكريهما يعتوره الحس الاجتماعي والسياسي في أنهما يحاولان استمالة الجمهور الإباضي من غير أن يمسا بمسلماته. وعلى الافتراض الثاني فإن تفكريهما يعتوره التحيز المذهبي.

• في مبحث السحر: “وقد نقل عن أبي سعيد الكدمي التوقف في مسألة تحول (بعض الإنس ممن يضاف إليه السحر) إلى حيوانات وطيور، فقال: (وليس ذلك عندي بمعدوم من الإنس، كما ليس بمعدوم من الجن، ولسنا ممن يدعي ذلك على الحقيقة ولا ينفيه على الحقيقة، إلا أن يصح معنا ذلك) فيظهر أن توقف أبي سعيد في الحكم على المسألة مرجعه عدم وضوح المسألة لديه، والتوقف في كثير من الأحيان هو موقف أقرب ما يكون إلى السلبية لعدم توافر الأدلة للإثبات، وكثيرا ما تحصل مثل هذه التوقفات عند العلماء لتعارض بعض الأدلة لديهم، ومع تحرير النزاع وتبيين مراتب الأدلة يزول الإشكال.”

• في مبحث السحر أيضا: وسئل (الشيخ خميس بن سعيد الرستاقي، وفي كتابة الطلاسم إذا كنت لا أعرف تفسيرها إلا إذا وجت بابا لكذا وكذا، أيجوز لي أن أكتبه لما هو موصوف أم لا؟

الجواب: في ذلك اختلاف، وأكثر القول لا يستعمل شيئا لا يعرف عدله).

قلنا (مؤلفا كتاب الإيمان): وقد عرف باطل هذه الطلسمات، فهي حرام على معاني كلامه ولا ريب.”

فرغم أن الشيخ أبا سعيد الكدمي في النقطة 3 يتوقف في هذه المسألة إلا أننا نرى أن المؤلفين يجعلان موقفه أقرب إلى الرفض. وفي النقطة 4 يحاول المؤلفان صرف كلام الشيخ خميس ين سعيد الرستاقي إلى ما يريانه من حرمة الاستعمال رغم عدم تصريحه بذلك في وجود الاختلاف.

رؤية عامة

لن يكون من قبيل الإجحاف أن نقول أن الفكرة العامة في الكتاب منشؤها اجتماعي لا ديني بحت. والمؤلفان لا يريان تعارضا، فيما أظن، بين الأمرين؛ فالدين لا يُطبَّق إلا على مجتمع وإلا كان محض أفكار تجريدية. بالتالي تنطلق شرارة الكتاب أصلا مما هو مُشاهَد في المجتمع من ممارسات واعتقادات خرافية. كلنا نعرف خصوصا في المجتمع العماني القوة التي تعرض بها الأفكار الخرافية من تلبس الجان بالإنسان وإمراضه، ومن العين التي تصيب الإنسان فتمرضه أو تصيب شيئا مما يملك فتحيق به الدمار والهلاك، ومن أخبار الكرامات التي تُنسب إلى العلماء والصالحين. قوة الأفكار الخرافية في المجتمع ليست فقط موروثا اجتماعيا وإلا لكان الزمن الحديث بأدواته الجديدة وعلمه الطبيعي المتسارع قادر على هدمها ومحوها رويدا رويدا، ولكن هذه الأفكار اكتسبت مع مرور الزمن زخما دينيا، وأصبح علماء الدين والفقهاء يقفون وراءها ووراء انتشار بعضها.

مع هذا لا يجب أن نغالي في وضع اللوم على علماء الدين والفقهاء؛ فمعظم الوسطيين منهم يسقط العديد من هذه الأفكار الخرافية، ويقبل تماما فكرة أن الدين مُستغَلٌّ من قبل المشعوذين وطلاب المال في أمر الخرافات هذه. وأما بالنسبة لهولاء الوسطيين تتبقى بعض الأمور التي يرون فيها حقا نابعا من أصل الدين. وبداية هم ليسوا مُبرَّئين من العوامل الاجتماعية التي تطرأ على الناس؛ فلا شك مثلا أن وجود الإنسان في بيئة ليست بها كهرباء تجعله أكثر تصديقا بالعوالم غير المرئية. إن روح العصر يتحكم أحيانا في رؤيتنا للأمور من حولنا ويوجه أفكارنا. ولا شك أن المجتمع العماني خسر برد المفتي الشيخ الخليلي المقتضب على كتاب الإيمان؛ فواضح أن الرد لم يُشتغل عليه كثيراً؛ إما لانسياق باتجاه العاطفة التي تولدت من جرأة الكتاب على طرح أفكاره علانية، أو بسبب أن الشيخ قلَّل من شأن الكتاب ومؤلفيه.

على العموم فإن الكتاب إن سلمنا بمنشئه الاجتماعي لا يناقش ويحلل من داخل النصوص التي ينبني عليها الدين بل هو يأتي من خارجها ليسقط فكرته العامة. ولأعلل ما أقول: فإن الكتاب لا يبدأ بالنظر في القرآن والسنة وأقوال العلماء بل يبدأ من خارجها كلها. وهو يدخل النقاش والتحليل بفكرة جاهزة تقريبا عن الخرافة. ولذلك نشاهد خط الكتاب العام هكذا:

• تنتشر الخرافات في المجتمع. تعالوا نرَ كيف نفند هذه الخرافات من القرآن والسنة وأقوال العلماء.

ولأن الخرافات أمور لا نستطيع مشاهدتها ولا مَنطَقَتَها فإنها تكاد تلتبس بشيء مقدس في الدين، بل هو أصل من أصوله، وهوالإيمان بالغيب. ولذا يُعدّل خط الكتاب ليصبح كالتالي:

• تنتشر الخرافات في المجتمع. الخرافات غير الغيب. لنستخرج القواعد المحددة للغيب من القرآن. تعالوا نرَ كيف نفند هذه الخرافات من القرآن والسنة وأقوال العلماء.

هل يشكل هذا فرقا ما دامت النتائج المستخلصة واحدة في كلا الحالتين؟ نعم يشكل فرقا كبيرا. فبسبب الدخول في الموضوع بفكرة مسبقة وشبه كاملة عن الخرافة يصبح البحث أقرب إلى إثبات وجهة النظر المسبقة وتفنيد ما يعارضها وحشد كل الأدلة ضدها. بينما لو كان الأمر معكوسا؛ يبدأ من النصوص ويمضي في تحليلها وغربلتها وتفتيتها، فحينها لربما توضحت نتائج أخرى. والطريقة الثانية طبعا هي الطريقة الأفضل علميا لأنها أبعد عن التحيز.

فلكأن ما حدث هو أن أسقط المؤلفان نظريتهما وفكرتهما المسبقة على النصوص ليستخلصا بعدُ منها ما يريدان. لكن بالطبع لا يجب أن نغلو هنا في هذا الموقف؛ فالنصوص ذات كلمات لها مدلولات محددة، ولذا من غير المقدور عليه إسقاط ما نريد بسهولة عليها. مع هذا يجب أن نلاحظ أن المؤلفين ينطلقان من رؤية خاصة حول النصوص تُسهّل عملية الاسقاط إن كانت حدثت. فالأحاديث المروية عن الرسول لا تقيم بالنسبة لهما حجة قاطعة، ولذلك حين النظر في أي حديث يتكلم عن القضايا التطبيقية التي يدخلانها في الخرافة فإنهما يغربلانها إلى قسمين:

• لو كانت دالة على ما يريدان تصبح صحيحة.

• لو كانت دالة على عكس ما يريدان فإما أن تكون خاطئة أو لا يعتد بها.

أما بالنسبة للنص الصحيح مئة بالمئة، وهو القرآن، فإنهما حين النظر إلى أية آية تتكلم عن القضايا التطبيقية التي يدخلانها في الخرافة فإنهما يغربلانها إلى قسمين:

• لو كانت دالة على ما يريدان فهي دالة على ما يريدان

• لو كانت دالة على عكس ما يريدان فيُبحَث عن تأويل لها يقترب من فكرة المؤلفين.

لذلك يمكن اختزال الأمر في السؤالين التاليين:

• هل يجب الأخذ بالأحاديث، وما هي معايير الأخذ؟

• كيف يمكن تأويل النص القرآني؟

وبالطريقة هذه لا يعدو الأخذ بما يسميه المؤلفان خرافة، لا يعدو الأخذ بها من قبل الآخرين إلا اختلافا في ما يؤخذ من النصوص الدينية وما يترك، واختلافا في تأويل النصوص التي تؤخذ.

على العموم فإن النظرية الكلية التي يطرحها المؤلفان حول الخرافة وعلاقتها بالغيب والإيمان جديرة بالاحترام والتقدير، وربما لو شذبت قليلا هنا وهناك لبلغت تمام شكلها وقوتها. مع هذا تظل قضية الدعاء حجر عثرة يقف أمام النظرية. ولكي تستقيم النظرية في شكلها الكلي فربما ينبغي أن تعالج قضية الدعاء معالجة شبيهة بقضية المشيئة. أي أن تضم إلى حركة السنن الكونية المقضي بها من غير الإصرار على موضوع الإجابة، أو بتأويل معنى الإجابة.

 

التاسع والعشرون ثقافة وفكر

عن الكاتب

حسين العبري

روائي وأديب عماني له عدة مؤلفات منها رواية الوخز والأحمر والأصفر.