كان مقترح أوراق الندوة يقترح أن أتحدث حول الوعي الجديد بالحقوق والحريات وكيفية التعامل معه، إلا أنني فضلت الحديث معكم حول الوعي بحرية التعبير في مقابلة الرقابة وهو ما يصب بشكل وآخر في نفس موضوع الحقوق والحريات.
تحاجُّ هذه الورقة بأن حرية التعبير والقول ليست إضافة، ليست زيادة، لأن هناك سرا آخر في الفم، فالفم ليس للكلام فقط بل هو أيضاً للأكل، الفم الآكل الناطق، وكل ما يقوم الفم تعبير، والأكل نفسهُ نوع من التعبير ويمكننا أن نلاحظ ذلك في فن الطبخ، والطعام والمناسبات، لنتأمل ولائم الأفراح وولائم العزاء، أليس الطعام في تلك المشاهد المتوالية إلا نوعاً متميزاً من التعبير.
الطريقة الوحيدة لمنع التعبير هي إغلاق الفم الملقب شعرياً بفوهة الجحيم، لكن هل يمكننا حقاً أن نغلق فوهة الجحيم أعني الفم؟ لنتأمل منحوتة الصرخة لسامي محمد الفم المربوط بالأشرطة يطلق صرخته، لا يزال الفم الممنوع من التعبير قادراً على إطلاق الصرخة رغم الأربطة المشدودة عليه، والأربطة التي يفترض فيها أن تمنعه تصبحُ في حيّز فمهِ ومتناول أسنانه.
هل لنا أن نتذكر أعمالاً فنية أخرى عربية كفيلم الصرخة للمخرج محمد النجار الذي تناول مشكلة البكم والصم من بطولة نور الشريف ومعالي زايد،
أو نتذكر لوحة الصرخة الشهيرة للنرويجي إدفار مونش التي رسمها 1893م والفنان وهو يصور نفسه ممسكاً بأذنيه مليئاً بالرعب ويطلق في نفس الوقت صرخة أكثر إرعاباً.
ولأسأل هنا عن المعاني الأعمق للفعل الرمزي الذي قام به الشاعر هلال العلوي هذا العام حين قام بخياطة فمه بإبرتين وهو سجين منذ عام ونصف تقريباً في تعبيره الرمزي عن الإضرابين الطعامي والكلامي: الإضراب التعبيري؛ إنها حادثة واقعية جداً محملة بدلالاتها الرمزية والتعبيرية المعبرة عن الفعل الطوعي لإغلاق الفم: إغلاق التعبير، وما تحمله من دلالات أكبر حتى من استيعاب اللحظة العمانية الراهنة، رغم أنها رمزية فصيحة وبليغة ومؤثرة واستباق لما تلاها ولما سبقها.
لنتأمل إذن من خلال تلك الرمزيات والدلالات كلها أعمق ما يصدر من تلك الصرخات المتتالية،
ولنعد النظر في صرخة الحياة الأولى للوليد كتعبير عن حياتهِ قبل أي طعام وحليب وحضن، ولندقق في هذا الجذر الصوتي أكثر لنرى إذا لم يكن الكلام نوعاً من المضغ الصوتي، والتعبيرات صريحة من مثل: تلوكه الألسنة، ليست إلا تفوهات ناطقة عن تلك القرابة ووشائج الرحم التعبيرية الفموية الواضحة الصريحة المتمثلة في ثنائية: طعام/ كلام؟
أليس التعبير الكلامي بعد ذلك أمراً جذرياً في الكينونة الإنسانية؟ وصلة قرابته من الدرجة الأولى للطعام والشراب، أي لأسباب الحياة والعيش الجذرية، ألسنا بعدها نجد معنى حقيقياً لكلمات من مثل: ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان!
إن الوجود بلا حرية ليس حالة ترف حضارية، بل حالة طبيعية أصيلة أساسية، وكل ما يحرّم حرية التعبير والتفكير يقع بالتالي في الغير طبيعي والمتكلف، وينطلق من ذلك التكلف اللاطبيعي بدعاوي مختلفة ليهاجم الأصل ويحاول السيطرة على الجذر الحياتي.
إن الشبه قائم وعميق بين الطعام والكلام، وحين تلوذ الرقابة بالسلطة والقوة فإننا لن نجد حرية التعبير تلوذ بأحد إلا بحريتها الأساسية نفسها، موقنة أنها هي الأصل الطبيعي وأن الرقابة ليست إلا زائدة متكلفة.
لننظر إلى الرقابة ولنتأملها ملياً لنرى أية دوافع تقف ورائها، أليس دافع الرقابة الأول والأساسي والمستمر هو الخوف من حرية التعبير؟ والتسبيب الرقابي لا يستطيع إدانة حرية التعبير في ذاتها، بل يلجأ للتخويف من نتائج حرية التعبير، بذلك تثبت الرقابة أنها ابنة المخاوف والأوهام المضللة، ابنة تضخيم أشباح الأضرار المترتبة على ما هو طبيعي، وهي بذلك نوع من أنواع التنظيم المتخوف من حرية الفوضى التعبيرية، في حين أن الفوضى التعبيرية هي حليفة العمل الخلاق والإبداع المستمر، ولا يمكن أن يثمر التعبير الحبيس والسجين إلا ثماراً ضعيفة، خالية من الطعم الحقيقي الذي تعطيه الأشجار الحرة.
الرقابة أيضاً ليست فعلاً أصيلاً، إنها فعل طفيلي، بمعنى أنها ليست نابعة من حاجة أصيلة داخلية، فلكي تكون الرقابة رقابة فلا بد لها من موضوع للمراقبة، تعتاش الرقابة على التعبير نفسه، تعيش على هامش التعبير، لذلك لا نجدُ رقابةً على الصمت، ما الذي سيجدهُ الرقيب في الصمت؟ الرقيب يقتات على كتابة الكاتب والفنان، يعتاش على مراقبة الصور الكلمات، وإذا انتفت الكلمات والمواد التعبيرية المختلفة لن يجد الرقيب قوت يومه. وإذا لم يجد الرقيب موضوعاً ينتقده ويمنعهُ من النشر والوجود فإنه سيخترع موضوعه كي يبقى حتى من الأشياء التي كان سمح بنشرها من قبل، وبحضورها، إن مملكة الرقابة كأي مملكة طفيلية تعتاش على التوسع في الجسد الأصيل حتى تقضي عليه تماماً، وهذا ما تفعله الرقابة التقليدية اليوم في عالمنا، تواصل خنق حرية التعبير، غير مدركة أنها كرقابة ليست إلا طفيلية في هذا الجسد الذي تخنقه بقسوة وشدة، وأنها تموت بالموت الذي تسببه، إن الرقابة تقتل نفسها من حيث لم تحتسب.
حرية التعبير في وسائل إعلامنا المحلية العمانية مهمومة اليوم بفعل هذه اليد القابضة على شرايين النشر بقوة وحزم وانضباط عسكري مهيب، يضغطُ بشدة ويخنق التعبير بتواطئ شرايين النشر نفسها، وباتفاق ثقافة صحفية مسبق إلا فيما ندر وشذ، وبغطاء قانوني، مدفوعاً بالخوف المتضخم من حرية التعبير، وذلك لا يعني أن حرية التعبير تلتزم الصمت، فالأصالة في حرية التعبير تدفعها للبحث عن مسارب أخرى للنشر، حتى وإن كان نشراً ضيقاً، صغيراً، لكنها تتنفس هناك وتروي بكلماتها أفكارها الجذرية التي لن تستطيع الرقابة ادراكها.
إن الرقابة المدفوعة بالخوف لا تعي في نفس الوقت أنها ترضخ أكثر فأكثر لما تخاف منه، وتسلم نفسها لثقافة المخاوف والمحاذير في ظلام دامسٍ داهم، يقضي حتى على كل فرصها المستقبلية في الحياة، ليس الإستسلام للخوف إلا مقاطعة للحياة التي من شروطها الأساسية أن نمتلك مقداراً كافياً من الشجاعة لممارستها: كحياة. أما الخوف فهو الدرب المؤكد والحتمي نحو الموت. والرقابة تأخذ التعبير الذي تسيطر عليه إلى الهزال وانعدام العافية والصحة وبالتالي إلى الموت المؤكد والحتمي.
لا تستطيع الرقابة اليوم بكل ما لديها من وسائل وأدوات وسلطة مدججة منع أسوأ فكرة من الوجود، كما أنها لن تستطيع نزع فكرة واحدة من هذا الوجود، لأنها مولعة بإجراء واحد يتيم هو المنع، فما الذي تمتلكه الرقابة من إجراء آخر سوى التضييق والمنع؟ بالمقابل تستطيع حرية التعبير منع أسوأ فكرة من الوجود ومحاصرتها، وتستطيع حرية التعبير نزع كل الأفكار الشائكة من هذا الوجود، حتى العمل الذي تهدف الرقابة إلى إتقانه، تتمكن حرية التعبير من أدائه بكل سلاسة. وبالعكس تماماً، وهذا أمرٌ مثبتٌ تاريخياً منذ آمادٍ بعيدة، تفشل الرقابة في نهاية المطاف وتسقط، ويكتسب الفكر المُراقب والممنوع مزيداً من القدرة والمناعة والقوة كلما ازدادت الرقابة عنفاً ضده، حتى لو كان ذاك الفكر هزيلاً وساقطاً كما رأينا في قصة الفيلم المسيء؛ إن الفكرة الحرة تتجذر وتمد عروقها في الأرض وتتدافع كالنهر أمام السد، ولعل في مثال السد والماء ما يغنينا عن كثير من الكلمات الزائدة، فالسد لا زال يتذكر مأرب، ولا زالت المآرب واحدة حتى على مواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي، لا تطلب إلا ممراً طبيعياً شقتهُ بنفسها منذ آلاف السنين إلى البحر. ورغم الفرق الكبير بين طريقة عمل السدود التي تريد من سدادها أن تخزن المياه، فإن الرقابة لا تريد من منعها أن تخزن مياه التعبير لتستفيد منها، بل تريد أن تنفيها وتمنعها تماماً من الوجود فوق أو تحت الأرض عبر تجفيف منابعها.
إن حرية التعبير كما أسلفت، تستطيع القيام بعمل الرقابة أفضل من الرقابة ذاتها، وبالعكس سيتهيأ من وراء ذلك مناخ أكثر حيوية وخصوبة طبيعية صادقة عبر التعبير عن مختلف المكنونات والمضامين وطرحها ونقاشها وتدافعها وتسليم القارئ مسئولية فكره، وإعطاء المجتمعات قدراً من الثقة هو مناعة ذاتية مكتسبة ضد كل ما يهدد أفراده ومكتسباته، بدل تولي هذه المسئولية المقيتة في الرقابة والمراقبة والمتابعة والترصد والكبت والمنع.
ولا أظن أننا في عمان بمنأى من دوران الأرض اليومي ولا من كلف معاصرتها ولا من الغرام بجديدها، بل نحن منغمسون تلقائياً في هذا العالم الضاج بملايين الأشكال من التعبيرات المختلفة الفنية المتكاثرة والمتزايدة، وعلاج أمراضنا المستعصية لا يكون بعدم الحديث عنها كما تفترض فلسفة الرقابة وأسلوب عملها، بل بشرحها وعرضها والتفكير فيها بصوتٍ وفكرٍ جمعي عالٍ مختلف الأصوات والزوايا والأساليب، والناتج من ذلك كله مجتمعات أكثر صحة وحيوية وقدرة على الإبداع والإنطلاق والإحياء، بدل أساليب الإماتة والقتل والنبذ والرفض والسجن.
حرية التعبير، كما ابتدأت وافترضت هذه الورقة، هي أكثر الأمور طبيعية وأكثر انتساباً للطبيعة الإنسانية من فكرة المنع والرقابة اللاحقة التي يدفعها الخوف، وكل منعٍ عن الكلام هو شبيهٌ بالمنع عن الطعام، وكلاهما يؤديان إلى استنفار الوحش الداخلي الذي لا يميزُ في لحظة احتدام غضبه وحمقه ونيرانه المشتعلة بين الغاية المعلنة والوسيلة المستخدمة، بل يبطش بهما بعنفٍ مهما كان ذلك مؤذياً لجسده، لأنهُ يجدُ نفسهُ مدفوعاً دفعاً للحياة أكثر والهروب من كل طرق الموت المؤكدة.
ملاحظة:
جميع الأعمال الكاريكاتورية الواردة في هذا العرض للفنان الكوبي الهافاني
Arístides Esteban Hernández آريستيديس ايستبان هرنانديز
الشهير ب
Ares
موقعه الالكتروني:
http://www.areshumour.com