لا يمكن أن يتجاهل المرء إرادة الشعوب العربية في التحرر من النظم التي جثمت على صدورها دهرا من الزمن دون أن تحقق أي إنجاز يذكر، حتى صار العرب في ذيل القائمة متخلفين، فيما نجد أن هناك دولا كثيرة خاصة في آسيا بدأت نهضتها مع بداية النهضة في الوطن العربي عندما تخلصت الأوطان العربية من نير الإستعمار، حققت نهضة علمية وصناعية واقتصادية وسياسية جبارة لأن القائمين على تلك الدول ركزوا على بناء الإنسان فعليا من خلال تأهيله علميا وثقافيا وأخلاقيا حتى أصبح منتجا، رغم أن الكثير من تلك الدول لا تملك الموارد التي يملكها العرب خاصة دول الخليج، إذ تعتمد فقط على ما يأتيها من الخارج من مواد لكنها حققت نجاحا صناعيا كبيرا مثل اليابان وسنغافورة وماليزيا وكوريا التي تشكل الجبال البركانية فيها 70% من أراضيها لكن ذلك لم يمنعها أن تكون دولة صناعية كبرى تنافس اليابان وأصبحت منتجاتها تنافس حتى في أمريكا وأوروبا
لقد ظل المواطن العربي والخليجي بالذات يعيش بدون هدف ومغيبا عن اتخاذ أي قرار، وصارت الدولة هي التي تفكر عنه وتحدد له ما يأكل وما يلبس وماذا يقرأ وماذا يفعل حتى أصبح مجرد آلة ينفذ الأوامر وعليه أن يأكل ويشرب فقط، وحتى هذه عزت على الكثيرين في الوطن العربي، وهي نقطة سلبية إذ أن في إلغاء إنسانية الإنسان وجعله مجرد آلة يعني أن هناك أيضا من يستطيع أن يستغله وينفذ ما يريده منه، ومن هنا يمكن أن نعرف أن اختراق ذهنية المواطن العربي خاصة الخليجي سهل جدا مع وجود هذه القفزة التقنية العالية
هناك حالات تغييب كامل لعقل المواطن ولسنوات طويلة قابلتها حالات انفتاح كبير وواسع في مجال الحرية فجأة، بحيث لم تتح الفرصة للمتلقي أن يميز بين الخبيث والطيب، بانتشار قنوات فضائية مشبوهة ومواقع الحوار وصفحات التواصل والهواتف الذكية، في وقت ازدهرت فيه منظمات معروفة وغير معروفة وكلها تتغنى بالحرية المسلوبة وبالمواطنة الحقيقية وبالوقوف ضد الاضطهاد الديني والعرقي والقبلي وبمجتمعات مدنية، وانتشرت ألقاب كثيرة ربما أبرزها لقب “ناشط أو ناشطة” من غير أن نعلم من أين جاء هذا اللقب، وكيف يتم تمويل هذه المنظمات التي أخذت صفة “المدنية”، ومن غير أن نعلم أهدافها الحقيقية وبمن يقف وراءها، وقد لا يلام من لجأ إليها إذ أن حسن النية والأوضاع السيئة هما اللذان دفعا البعض إلى التعامل مع هذه المنظمات المشبوهة، وبالتأكيد فإن لها خططها ونواياها وأجنداتها تريد أن تحققها، ولم تعد الحكومات العربية الآن بقوتها الأولى مع هذه المتغيرات الجديدة، إلا أن هذه الحكومات ظلت على عنادها ولم تقرأ الواقع جيدا ولم تعرف أن هناك متغيرات في العالم وأن الإنسان العربي اليوم غيره بالأمس وأن حاجز الخوف قد انكسر، وأن قطار التغيير قد انطلق ولا يمكن إيقافه إلا بالاصلاحات الحقيقية والجذرية
وأمام حالات كهذه يكون نجاح أي عمل وأي منظمة سهلا للوصول إلى الناس، لأن السواد الأعظم منهم لا يهمهم أن يعرفوا المصدر الحقيقي لأي دعوة بقدر ما يهمهم مضمونها، ومن ذلك ما كشفه مشاركون في ندوة “دور المنظمات المدنية في الربيع العربي”، التي عقدت في دبي في 26/9 الماضي من وجود منظمة تعرف باسم “أكاديمية التغيير”، والتي درّبت شباباً إماراتيين وسعوديين وكويتيين وبحرينيين على فنون حرب اللاعنف أو التغيير الناعم، وإثارة الفوضى الخلاقة وتحريك الحشود واصطياد رجال الأمن من خلال كسر هيبته أمام الشعب، وأفادوا أن منظمات تتخفى تحت غطاء العمل المدني تعمل بشكل منظم على تقسيم المجتمعات الخليجية على أساس طائفي باستخدام كلمة رنانة وهي “الربيع العربي”، لافتين إلى أن هناك حاجة ماسة لتفعيل قوانين تعاقب بشكل صريح من ينضم إلى منظمات تسيء أو يروج وينشر معلومات وتقارير مغلوطة.
ويشير “محمد العرب” وهو إعلامي وباحث بحريني في شؤون المنظمات أنه حضر العام الماضي ورشة تدريبية في النمسا نظمتها “أكاديمية التغيير” حول إسقاط النظام فوجد شبابا خليجيين يتلقون التدريبات حول فنون حرب اللاعنف في التغيير، وأن الأكاديمية عملت على تقسيم المجتمع البحريني بشكل صريح على أساس طائفي وديني، من خلال إثارة الفتنة بين الشيعة والسنة وفصل الشعب عن القيادة، وقال إنه أجرى لقاءً موثقاً مع المسؤول عن هذه المنظمة، وهو بريطاني من أصل عربي يدعى “هشام مرسي” وسأله عن سر التركيز على دول الخليج، فقال “نحن نركز على شعوب هذه الدول لنعلمهم كيف يحلمون ويفكرون ويتنفسون الكرامة”، وأن هذه المنظمة وغيرها تدرب على إسقاط الأنظمة بطريقة ناعمة
أما المحامي والمستشار القانوني “علي الحداد” فقد أوضح أن تلك المنظمات تعمل على إثارة قضايا ذات طابع جدلي، وتهميش دور الحكومات، وتقديم بعثات للطلبة في الخارج لتجنيدهم، واستهداف النشطاء المحليين، واستغلال أقلام منحرفة لكتابة تقارير مسيئة بهدف إثارة الفتن أو الإخلال بالسلم والوحدة الوطنية.
لقد لاحظ القاريء أن التركيز كان على أربع دول فقط، ولكن ليس معنى هذا أن السلطنة ليست ضمن اهتمامات هذه المنظمة، فقد تم دعوة بعض “الناشطين” لحضور بعض الورشات في جنيف إلا أنهم اعتذروا عن ذلك لأنهم توجسوا خيفة من توجهات هذه المنظمة، حيث ذكرت لي إحدى المدعوات أن “منظمات كهذه لا تعطي شيئا لله وإنما تريد أن تفرض أجنداتها على الناس وهناك الكثير من البريئين ممن قد ينخدعون بالشعارات الرنانة التي ترفعها خاصة من الشباب المحبطين الذين يعيشون أوضاعا صعبة ولا يجدون من يستمع إليهم”
ويعرّف “جوزيف ناي” عميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، القوة الناعمة بأنها ” القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة، وهذا ما حصل مع الاتحاد السوفياتي حيث تم تقويضه من الداخل”، كما أن للدكتور “محمد حمدان” عضو قيادة المؤتمر اللبناني، دراسة جميلة بعنوان “البديل الناعم الأميركي وإعادة تشكيل الصورة الذهنية لدى شوارع التغيير العربية” يمكن الاطلاع عليها في النت
وقد تزامنت ندوة “دور المنظمات المدنية في الربيع العربي” في دبي مع استئناف محكمة جنايات القاهرة النظر في قضية تلقي جمعيات ومنظمات حقوقية تمويلاً أجنبياً بشكل غير مشروع، والمتهم فيها 43 شخصاً من جنسيات مختلفة يواجهون اتهامات بتأسيس وإدارة منظمات حقوقية من دون ترخيص وتلقي أموال أجنبية بصورة غير مشروعة بلغت 60 مليون دولار، من خلال 68 منظمة حقوقية وجمعية أهلية تعمل من دون ترخيص على الأراضي المصرية، وهي القضية التي سببت توترا في العلاقات المصرية الأميركية خاصة عقب تهديد ونواب بارزين بالكونغرس بوقف برنامج المساعدات المقدمة لمصر، التي تتلقى منذ العام 1979 معونة أمريكية سنوية تقدَّر بملياري دولار من بينها 1,3 مليار معونة عسكرية، ولا يمكن بأي حال تبرئة هذه المنظمات.
لا بد لي أن أشير هنا إلى أن هناك ناشطين جيدون ومخلصون وهاجسهم هو الإصلاح وهم ينطلقون من منطلقات وطنية خالصة وليس لهم أي علاقة بمنظمات خارجية مشبوهة وهي نقطة لا بد من إيضاحها حتى لا يتم تفسير مقالي بغير ما قصدت، وفي الوقت ذاته أشير إلى أن هناك من يريد أن يجعل من نفسه بطلا بأن يستغل موقعه ويثير الفتن المذهبية وغيرها ويستغل منتديات الحوار بكيل التهم جزافا لهذا وذاك، بل تعدى الأمر إلى القذف واللمز والهمز، وكأنه يبحث عن الاعتقال والبطولة بأي ثمن، فيجب التفريق بين الفريقين وإن اتخذا المسمى نفسه ( ناشط )، وفي اعتقادي أن الكثير من الشباب لا يستطيعون أن يفرقوا أو يميزوا بينهما بل حتى الكبار الذين يبحثون عن بطل وأي بطل حتى لو كان مهرجا ..!
الخلاصة هي أن الدول العربية تتحمل جزءا كبيرا في نجاح أي اختراق للوطن أو المواطنين بلجوئها إلى إقصاء آراء المواطنين وعدم الاستماع إلى طلباتهم ورغباتهم، وتركيزها على سماع صوت واحد فقط هو الصوت المادح حتى لو كان في ذلك ضرر وغالبا ما يكون هناك ضرر، والكل يعلم أن المجتمعات العربية بها خليط من العرقيات والمذاهب وحتى الأديان، وهذا الخليط يسهل مهمة القوة الناعمة أو التغيير الناعم بغياب العدالة وغياب حقوق الناس
وعبر التاريخ عندما تضعف الحكومة المركزية في أي مكان وينتشر الفساد فهذا إيذان بسقوطها، ويبدأ ذلك بظهور الانقسامات والمذهبيات والعرقيات، فإذا كان أولو الأمر خاصة في دول الخليج لا ينتبهون إلى خطورة ذلك فإن كل المؤشرات تشير إلى أن القادم فيه من الخطورة ما فيه، والحلُ هو الاستماع إلى الشعوب وتحقيق المطالب وهي ليست بالصعبة أو المستحيلة، وعندها لن يتم تقويض المجتمعات من الداخل كما أشار إلى ذلك “جوزيف ناي”، بل المطلوب منهم أن يفوتوا كل الفرص التي قد تؤدي إلى تشتيت الأوطان، لأن الشرعية دائما تستمد من الداخل
Zahir679@gmail.com