الوعي شكل أصفى من أشكال الإدراك، وعي الفرد بذاته حصيلة تجارب وخبرات متعددة تتصفى عبر إدراكه لذلك الوعي، الوعي الجمعي أيضاً هو شكل أصفى من تراكم التجارب صغيرة التي تعمل كنويات، حيث كل نواة تتمتع بطاقة تناسب حجمها وتأثيرها، ومثلما يمكن التعرف على وعي الفرد من خلال محاورته ومعرفة تاريخ خياراته المختلفة، فكذلك يمكن محاولة قراءة الوعي الجمعي من خطابه العام وتوجهاته.
لعل العمل الرائع للمفكر جمال حمدان (شخصية مصر) عملٌ تأسيسي ومثالي لمحاولة قراءة الشخصية العامة لوعي جغرافي محدد، ويصلح ليكون أنموذجاً لأعمال شبيهة أخرى، تجعل تمييز الوعي ممكناً، في أي فترة ما من الفترات، بقراءة ظروفه وممارساته وخياراته، مظاهره وأشكاله. بهذه القراءة وعبرها يمكن امتلاك وعي بلحظة الوعي العامة، وبالتالي يمكن تلمس مدى الوعي الحياتي في الحركة والحيوية والاحتدام في تفاعل الناس مع قضاياهم العامة، ويمكن في حالتنا الراهنة رؤية حالة الوعي التي تنتاب العمانيين في العشرية الثانية من الألفية الميلادية الثالثة.
هكذا يمكننا افتراض ان اللحظات المفارقة الشهيرة والعلامات مناطق مناسبة لقراءة محصلة الوعي، ونرى بالتالي في الأحداث العمانية منذ فبراير 2011م كلها ما يصلح للتعبير عن هذا الوعي المعاصر، باعتبار كل قضية رأي عام هي قضية تختبر الرأي العام، وتعطي مؤشراً للوعي.
يمكن لمس الرأي العام اذن واستنتاجه من العادات والممارسات، مثلما يمكن اعتبار الأحداث العامة لحظات اختبار لذلك الوعي يمكن قياسها والتعرف عليها، مثلما يمكن الاستنتاج من ردات قضايا هذا العام مثلاً من الإضراب النفطي للإساءة للتجمهر للتشهير للمطالبات الشعبية كما حدث في دبا مؤخراً. ومن نوعية عمل الإدارة والسلطة الحكومية المواكب لها.
بالتالي تصب كل تلك المؤشرات بشكل أو بآخر لتكوّن تراكماً معرفياً للوعي العام، رغم أن الوعي العام للناس وللمجتمعات يمر بلحظات انفصال وانقطاع كما يطرح ابن خلدون ذلك في مقدمته، لكن اذا قلصنا الفترة الزمنية العمانية هنا فنستطيع أن نقول أن بإمكاننا رسم مسار الوعي العام وملاحظة تشكله السريع المتطور والمتقدم والمواكب بأكثر من وسيلة وطريقة لعصره، عبر تفاعله وآراءه المتخذة وخياراته العامة ومواقفه مما يحدث حوله، بناءاً على وعيه وفهمه.
تمتلك الأغلبية العمرية تأثيراً واضحاً على صفات الوعي العام، وبما أن التركيبة السكانية مكونة في أغلبيتها العمانية من الشباب فبمقدورنا إذن أن نصف الوعي العام بصفات الشباب: وعي شبابي: حيوية وتصميماً ومراهقة، تسرعاً ورغبة وأحلاماً. ونستطيع بالتالي أن نقول أيضاً أن الوعي نفسه شاب وأن هذا هو شباب الوعي.
تساعدنا محاولات القراءة والتسمية والوصف على ادراك ومعرفة واكتشاف وسبر الوعي العام، عبر الاقتراب من الوعي نفسه، وقراءة ما يتناسل من شرارات الاحتكاك والتفاعل بين جسيمات الذرة والمنظومة الكلية في وجوده الطبيعي في الحياة؛ وما الحياة إلا محاولات انقيادنا المستمر والمتواصل لآليات عمل الطبيعة وتأثيرها فينا وتأثرنا بها.
يتشكل الوعي بالوعي العام الطبيعي من تجاربه الحدية نفسها، من تجاربه وخبراته، ومن تعاطيه وتفاعله الجمعي والفردي المشتهر أو السري مع بعضه البعض.
ومن مبادئ الوعي أن يقوم الوعي أساساً على وعي عام بذاته، عبر عمليات استبصار وقراءة وفهم متناسق، ليكون وعياً، وبدون أن يعي الوعي ذاته فلا يمكن الحديث عن وعي عام حقيقي متكامل، بل مجرد قوى غير واعية متحاربة ومتضادة من الوعي الغير منسجم، والتي تعيق ذاتها باستمرار عن الوصول إلى الوعي العام التفاعلي بذاتها.
فإذا تمكن الوعي العام من أن يتشكل ويتخذ هيئة وبالتالي شكلاً جمعياً عقلانياً ما يمكن تصوره وتسميته، عندها يمكن تمييزه والحديث عنه بملاحظة استجابته لمؤثراته المختلفة وتفاعله معها بشكل حيوي، يبرز على شكل أفعال واختيارات وممارسات.
إن ادراك الوعي لحظة بناءه يساعد على تحديد وتجويد تلك السمات الشخصية الذاتية للوعي بالذات، عبر الوعي بكل الجزيئيات التي يمكن ان يمثلها الأفراد وبكل المُرَكّبات التي تمثلها المؤسسات والسلطات المختلفة، والتي تتكون جزئياً من أفراد، لكن لها جاذبية وقدرة أقوى لأنها تتصرف كجهة موحدة، تعلن توجهاتها وتنفذها.
حين نتمكن من فهم وقراءة واستيعاب وإعلان أجزاء بناء الوعي المفترضة تلك في نفس الوقت الذي يتم بنائها فيه، نستطيع أن نرسم صورة أو مخططاً عاماً، يساعداننا على نقد وتعديل وبناء ذلك الرسم التخطيطي أو تلك الصورة، عبر التجربة والخطأ والنقد، ونحصد من تكرار تلك العملية باستمرار على نتائج تحسن من الأداء العام للوعي، وتساعد على تطور الوعي وتقدمه، وتحضره.
في الحالة العمانية يمكن مشاهدة تأثيرات الوعي الشبابي في الثلاثين سنة الماضية: احتفلت السلطنة بعام الشبيبة عام 1983م وبعام الشباب عام 1993م واحتفلت بالمرأة عام 2009 واقرت يوم 17/10 من كل عام يوماً للمرأة، وهذا العام 2012 –للتذكير- هو عام الطفولة، تلك النوعية من الاحتفالات حتى وإن بدت رمزية، فإنها تشكل وعياً مبدئياً بالذات، وهي احتفاءٌ بالإنسان، تجعله يستبصر موقع حياته وفق النسق العام للحياة، ويحدد انتمائه لكيان أكبر ووطن أشمل، ويساهم بوعيه الفردي في التفاعل الاجتماعي المشترك.
المجتمع العماني المعاصر هو مجتمع شبابي في غالبيته، ووعيه شبابي بالتالي، وقد كان هذا حاله طوال الربع الأخير من القرن العشرين، مكون في أغلبيته من صغار السن وفق إحصائيات السكان، وكان وعيه الأغلب أميل للوعي الشبابي في زمنه، فالوعي الشبابي المعاصر ليس إلا نتيجة الخيارات الشبابية السابقة، وعادة ما استطاع الوعي الشبابي أن ينتصر لوعيه الحديث مقابل الوعي التقليدي الشبابي السابق عليه، ويفتح آفاقهُ بالتالي لحراك وحيوية وحياة أكثر. مثلما هو الوعي اليوم يحاول أن ينتصر بطريقته لتطور الوعي الأحدث.
الوعي الشبابي المعاصر يتفاعل بشكل من الأشكال مع واقعه وافرازات وعي آبائه وخياراتهم وموافقاتهم العلنية أو الضمنية وأحلامهم ورغباتهم وآمالهم وممارساتهم، وفي نفس الوقت يسد الخلل ويعدل مقاييس الفهم العام ويستبدلها بفهم عام جديد أجود، ويتخذ وفقاً لها خيارات ممارساته الجمعية أو الفردية، وإذا أخذنا المفاهيم العربية لثورة الربيع العربي التي تؤثر اليوم عالياً في جيل الشباب فسنرى أنها -ولو شكليّاً – تستلهم المفاهيم الإنسانية كما في شعارات الربيع العربي، فإذا أضفنا لها الشعور بالمكونات المختلفة الزاخرة والمتنوعة لأطياف المجتمع العماني ككل، رأينا الوعي وهو يحاول الخروج من عنق زجاجة التفكير الضيق إلى التفكير البصير المفتوح، فيستبصر خطواته الداخلية والخارجية ويتخذ –نظرياً- أراءً واستحكامات ونظريات.
وجود الوعي في حد ذاته ضمان وأمان لاستقرار أفضل وأشد وعياً بأسسه ومقوماته وكيانه، وبالتالي أكثر حرصاً على مقدراته وكنوزه الحقيقية وثرواته التي لا تنضب، وأشد اهتماماً باستدامة ثرواته الناضبة واستثمارها في التحضر الذاتي والعالمي بالتالي. كما أن شباب الوعي ووعي الشباب مزيج متفرد وثروة حقيقية بإمكانه اذا امتلك العلم الجيد والمعرفة الواعية والإدراك السليم أن يحقق قفزات حقيقية للمجتمعات والشعوب والأوطان.
الوعي الشبابي أو (شباب الوعي) ليس حالة طارئة في عمان، أو دخيلة، أو متأثرة بالخارج، إلا بقدر ما هو الشباب نفسه منجذب انجذاباً لنداءات الحياة المختلفة أينما أتت وجاءت، وقيامنا بإدراك هذا الوعي وتمييزه ومعرفته وفهمه والتجاوب معه ودعمه وتجذيره هو التصرف الأكثر وعياً وثماراً بالتالي، وكل محاولات ثنيه أو صرفه عن التجربة شبيهة بمحاولات ثني شابٍ مندفع عن تجربة تبدو لهُ ضرورة مغرية. قد تنجح في صرف الشباب عن تجاربه مؤقتاً، لكن العملية ما تلبث أن تفشل أمام اندفاع الدماء الحارة في صدر الشباب ورغباته المحتدمة في تجربة الحياة بحلوها ومرها.
يتجذر الوعي الشبابي العماني عبر ممارسته الواعية النوعية لحبه الخالص لوطنه، والتي يستثمرها هذا الوعي الشاب، ويعبر عنها في مختلف المواقف والمناقشات، وتتجذر بذلك تلك النوعية الرفيعة من الحب الواعي بشكل أعمق في المكان، وتتأصل كوعي عماني في غمار الوعي العالمي الذي تفتح على أحداث نهاية القرن العشرين بحروبه وباحتفالاته المختلفة، وعلى أحداث بداية الألفية الثالثة منذ هبوب رياحها إلى كساد أسواقها وثوراتها، وبالحب النوعي الواعي للوطن كوطن يكون الوعي الشبابي أكثر حرصاً ورغبة وشوقاً إلى مناخٍ وطنيٍّ جميل يليق بحضارة الوعي وتليق به.