“النمير” الزنجباري

كتب المختارات بطبيعتها متنوّعة وقريبة من متناول القرّاء؛ وألفاظها سلسة ومعانيها سهلة. وقد اغتنت الثقافة العربيّة بمجموعة كبيرة من كتب المختارات الموسوعيّة، خاصّة المتّصلة بالأدب، ككتاب “الأغاني” للأصفهاني وكتاب “الحيوان” للجاحظ ، و”العقد الفريد” لابن عبد ربه. وهي موسوعات علميّة فريدة. كما أصبحت هذه الكتب من مصادر الأدب الأساسيّة في العصور القديمة، داعمة لحركة النقد الأدبي ، باتجاهاته اللغويّة والفنيّة، مما سيتبلور لاحقاً من عمر الثقافة العربيّة.

وفي تراثنا العماني ينعدم هذا النمط من التآليف في القديم، ويحضر بشكل محدود جداً في الحديث. أمّا في القديم فقد طغت النزعة الدينيّة المتـّصلة بالحياة الباقية، على ما سواها من نزعات التاريخ والأدب وما إليهما مما يتصل بالحياة الفانية. وذلك سبب شيوع كتب الفقه على ما عداها.

وقد حافظت الثقافة العمانيّة على اختلافها عن الثقافة العربيّة عامّة للمؤثرّات الجغرافيّة والمذهبيّة. وهي –كما أشرنا- لم تهتم بالمختارات لسيطرة النظرة الدينيّة/المذهبيّة الأحاديّة على ما سواها. ذلك أنّ المختارات تنشط –عادة- في البيئات الثريّة بالحراك الأدبي والتنازع الفكريّ ، وحيث يورق النقد الأدبيّ. وذلك ما كان ينقص الساحة العمانيّة. والمختارات تناسب القديم عصراً ومنهجاً؛ إذ هي فنّ الأخذ من كلّ فنّ بطرف. أمّا في العصر الحديث فينتقل فنّ المختارات ليشغل مكانة هامشيّة، إذ تكون الحضوة للتخصّص والتدقيق. وهذا الانتقال لا يعني قلّة الأهميّة وإنما يشير إلى اتجاه المؤلفين فقط، بين العصور القديمة والحديثة. وفي التراث العماني المعاصر يحضر كتاب “الزمرّد الفائق في الأدب الرائق” للشيخ محمد بن راشد بن عزّيز الخصيبي ممثّلاً وحيداً – فيما نعلم- لأدب المختارات في عمان. وهذا المؤلف له كتاب آخر جدير بالإشارة هنا ، هو كتاب “شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء بعض شعراء عمان”. وهو كتاب لا نظير له في عمان في كتب ما يسمّى “بتاريخ الأدب العربي”. ومنهج الكتاب منهج قديم قائم على الطبقات. فالشعراء طبقات بمعايير زمانيّة ومكانيّة وفنيّة مختلفة، ومتداخلة حدّ ضياع التمييز بين الطبقات أحياناً. وحضور الأدب كجانب بارز في شخصيّة المؤلف يؤكد ما ذهبنا إليه من ارتباط المختارات بالجانب الأدبيّ. غير أنّ السمة الأبرز في الشيخ الخصيبي هي السمة الدينيّة. فهو فقيه وقاض ومعلّم لفنون الشريعة المختلفة. لذا يأتي الكتاب العماني اليتيم في فن المختارات “الزمرّد الفائق” غير على قادر التحرّر من النزعة الدينيّة، ويغلب عليه الجانب الوعظيّ.

وقد دخل ساحة التأليف في هذا الفنّ البحاثّة المجتهد محمد بن عبدالله بن سعيد السيفي، بكتابه “النمير” ، الذي صدرت منه خمسة أجزاء حتى الآن. وقد اطّلعت على أجزاء سابقة من الكتاب وكنت أرى في عجالة أنّه لا يخرج عن سابقه؛ من حيث غلبة الوعظ عليه. وحسبه ذلك، فتنبيه الأمّة إلى دائها وإرشادها إلى دوائها وسيلة شريفة من وسائل المثقّف والكاتب. وإلى جانب ذلك كنت أرى تنوّعاً في الموضوعات الدينيّة والأدبيّة والتاريخيّة بما يتيحه الزمن المعاصر من وفرة في المادّة المكتوبة والمخطوطة ومن ثراء في المعلومات وانتباه الشبّاب إلى تراث آبائهم وضرورة المحافظة عليه. كلّ ذلك انعكس على مختارات السيفي الدينيّة العصريّة.

وعندما شرّفني الكاتب بالنظر في جزء من هذا الكتاب وهو الجزء المتّصل بزنجبار، قرأته قراءة مستقصية ووجدته أكثر اقتراباً من فنّ المختارات وأبعاده الأدبيّة. وقد نقلني فعلاً إلى زنجبار وهوائها العليل ومائها البليل وبيئتها المميّزة وتاريخها الملهم. فكنت أتنقّل – مستمتعاً- من قصيدة شعريّة ، إلى طرفة أدبيّة ، فمعلومة تاريخية أو نحويّة مهمة. ويذكر الجامع معلومات مهمّة جداً عن شعراء عمانيين وغير عمانيين عاشوا في المهجر الأفريقي ، وأخصبوه بإنتاجهم الشعري. ومن هؤلاء الشعراء الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن أحمد الكندي. ويذكر الجامع عنه معلومة طريفة وهو أنه كان يعمد إلى تعليم طلابه في الفرضاني (الشاطيء) حيث الهواء الطلق الذي يفتح قرائح طلابه لقبول ما يعلّمهم إياه. وأنّ هذا الشيخ كان يستقبل ضيوفه في هذا “المقاهي” المفتوحة، إن صحت التسمية. وكثيراً ما تجود قريحة الشيخ بالأشعار في هذا المكان المفتوح.

ويشير السيفي إلى شاعر آخر هو صالح بن علي الشيباني. ولأبي مسلم ناصر بن سالم بن عديّم البهلاني ، شاعراً وقاضياً ومعلّماً وصحفيّاً حضوره الجيّد في هذا الكتاب. وتتزايد أهميّة هذه الأخبار عن أولئك الشعراء عندما نعرف أنها –أي هذه الأخبار- لا توجد إلاّ في هذا الكتاب، مما سيجعله مصدراً من مصادر دراسة الأدب العربي في المحيط الأفريقي. وربما نجد لاحقاً مجموعة من الشعراء يعرفون بـ”شعراء النمير”، على غرار “شعراء الدمية” ، أي المذكورين في كتاب “دمية القصر وعصارة أهل العصر” للباخرزي، ولم تذكرهم كتب الأدب الأخرى فنسبوا إلى “الدمية”.

وليس بعيداً عن ذلك من حيث المضمون والأهميّة ما كتبه السيفيّ عن الصحافة وعن المطابع الزنجباريّة من معلومات ثريّة ومشاهدات شخصيّة لما تبقّى من أدوات تلك المطابع، التي لا تزال تحمل بصمة سلاطين زنجبار، ونشاط حركة التأليف والطبع فيها.

هذه إشارات إلى بعض المواد الجديدة التي يضمّها هذا الكتاب الشائق. وجدّة المعلومات وجودتها  نتيجة طبيعيّة للجهد الذي قام به الباحث في الإعداد لهذا الكتاب الخاص بشرق أفريقيا. وأخبرني الكاتب أن نيّته كانت اصدار جزء واحد، فتضاعفت المادة التي تحصّل عليها مما سيدفعه لإخراجها في جزئين. وتتعدد مصادره العلميّة بشكل ثريّ جداً، بين النقل عن وثيقة قديمة أو مخطوطة أو كتاب مطبوع أو سماع ومشافهة. وبرز لي من خلال ما أطّلعت عليه من الكتاب مجموعة جيّدة وفريدة من المذكّرات الحديثة التي كتبها أصحابها ممن عاشوا في زنجبار ثم غادروها بعد التمرّد الآثم عام 1964م. ينقل الجامع من “مذكّرات الشيخ سيف بن سليمان بن سالم السيابي” و”مذكرات رجل عماني في زنجبار” لسعود بن أحمد البوسعيدي ، و”مذكرّات الشيخ أحمد بن محمد الهنائي”. وهي – كما نرى- مجموعة من المذكّرات تلفت الانتباه وتستحق الدراسة العلميّة لإبراز محتوياتها، وأهميتها التاريخيّة والإنسانيّة؛ كونها توثّق لمرحلة فاصلة ، وتقدّم شهادات لمن شاركوا في تاريخ تلك المرحلة، وانكووا بسعيرها.

قام الباحث بجمع المادة الموجودة في المكتبات الرسميّة والخاصّة في عمان في مرحلة أولى. وقد تشرّفت بزيارة الجامع لمكتبتي التي تضم الكثير من وثائق الإرشيف الوطني بزنجبار، وقام بتصوير ما أراد منها. وأبت همّته العالية إلاّ أن يزور جزيرتي زنجبار والجزيرة الخضراء بداية صيف هذا العام. وعلى الرغم من صعوبة الوضع هناك وعدم اطمئنان الناس إلى التعاون وضياع الكثير الأكثر ممن المخطوطات والوثائق تمكّن كاتبنا من العودة بحصيلة جيّدة من المادة الثريّة.

يقال إنّ “اختيار الإنسان قطعة من عقله”. وقد أهدانا الأستاذ محمد بن عبدالله السيّفي مما اختاره لنا كنوزاً ثريّة تدفع الباحثين إلى بذل المزيد لدراسة الآثار الحضاريّة للوجود العماني في شرق أفريقيا ومدى ثرائه. وهي مختارات يستفيد منها –إلى جانب ذلك- القارىء والسامع، فتشحذ همّته وتنير بصيرته، بما تقدّم من تجارب ثريّة ومعلومات جديدة.

28/8/2012م

العدد الثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د.محمد المحروقي

مدير مركز الفراهيدي للدراسات العربيّة