حكم التجمهر في المرآة !

ما كنت أؤثر أن أكتب يوماَ قراءة نقدية تحليلية لنص حكم قضائي أصدره قاضي في محكمة، فالنصوص الأدبية والإبداعية هي المجال الأرحب والأمتع للقراءت النقدية، ولو كان لي أن أكتب عن نص حكم قضائي لفضلت الكتابة عن نص الحكم الذي أصدرته محكمة يونانية في عام 339 قبل الميلاد بإعدام الفيلسوف سقراط بتهمة تخريب عقول الشباب وتحدي آلهة المدينة وقوانينها، حيث ترافع سقراط يومها عن نفسه أمام 500 من المواطنين والقضاة والمحلفين، ولازالت مرافعاته أمام المحكمة أحد النصوص الخالدة في تاريخ الفلسفة. وما يحفز على الكتابة عن محاكمة الفيلسوف سقراط هو الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء عن قيام اليونانيون في منتصف العام الحالي 2012م، بالرغم من الأزمة الإقتصادية الطاحنة، بإعادة محاكمة الفيلسوف سقراط، أي بعد مرور حوالي 2350 سنة، حيث أقيمت محاكمة برئاسة قاضية من نيويورك ومشاركة عشرة قضاة دوليين وهيئة محلفين ومحامين وبحضور جمهور غفير في قاعة المحكمة.

وقد تم خلال المحاكمة توجيه التهم من جديد إلى سقراط، لكنه لم يترافع هذه المرة عن نفسه، بل مثله محامين ترافعوا للدفاع عن مواقفه باعتبارها حق من حقوقه كمواطن في حرية الرأي والتعبير، وناشدوا عدالة المحكمة تبرئة موكلهم من التهم المنسوبة إليه، وبعد مداولات وجدالات فقهية وقانونية عاصفة أصدرت المحكمة اليونانية في هذا العام 2012م حكماً يقضي ببراءة الفيلسوف سقراط من جميع التهم، وهكذا انتصرت العدالة أخيراً ولو بعد أكثر من ألفين سنة! ولكنني بدلاً من الكتابة عن محاكمة سقراط وبراءته التي حصل عليها أخيراً أجدني أكتب عن نص الحكم الذي أصدره القاضي يوسف بن سالم الفليتي في قضية التجمهر يوم الأحد 8/8/2012م.

هنالك ثلاثة أسباب تضافرت معاً لتكون حافزاً لهذه القراءة النقدية، فأولهما أن هذا الحكم الذي أصدره القاضي يوسف بن سالم الفليتي تم في قضية رأي عام، وهو يمس الحريات العامة، ويدين الحراك السلمي المدني في وطننا، وهو بهذا يمثل سابقة خطيرة جداً ينبغي تحليلها نقدياً، وثانياً لأن هذا الحكم يدينني ويحكم عليَّ مع عشرة من أصدقاء وزملاء بالسجن لمدة عام كامل، لا لشيء إلا بسبب وقفة سلمية في مكان عام للمطالبة بتطبيق الدستور والقوانين! وهو ما جعلني ملزماً بالضرورة بأن أعيد قراءة نص تسبيب الحكم مرات عديدة كي أفهم وأستوعب التهمة وحكم الإدانة! ولأنني شغوف بالتحليل والنقد الأدبي، وهذا هو السبب الثالث، وجدتني أطبق أدوات وأساليب التحليل النقدي على نص تسبيب الحكم، وذلك في محاولة لسبر أغواره، وكشف حججه وبراهينه، والحفر معرفياً في طبقاته لمعرفة الأسس التي انبنى عليها، وهكذا أخذت هذه القراءة النقدية في التشكل والتبلور، ومعها أخذت تتبدى أبعاد ودلالات جديدة كانت كامنة في نص هذا الحكم القضائي!

قد يحتج محتج بالقول بأن التحليل والنقد الأدبي مجاله النصوص الأدبية والفنية، وأن الأحكام القضائية ينبغي أن تترك للمحامين وفقهاء القانون، بيد أن هذا القول مردود عليه، فالحكم القضائي هو نص مكتوب له بنية لغوية وأسلوبية، ومضامين وحقائق يمكن تحليلها وتفكيكها، وبالتالي عدم الاكتفاء بظاهر النص الذي تقنع به القراءة العابرة، بل الكشف عن المسكوت عنه في الخطاب، وعن ما يتكتم عليه النص ويريد إخفاء لا ما يعلنه ويؤكد عليه فقط، فالمسكوت عنه في أي نص أو خطاب أهم أحياناً من الظاهر، والمضمر أكثر تبياناً للحقيقة من المعلن، كما تؤكد مناهج النقد! كما أن منهج التحليل العقلي والاستنتاج المنطقي هو منهج يمكن تطبيقه في أي مجال، ولهذا قيل إن الفلسفة هي أم العلوم، بمعنى أن منهجها الفلسفي التحليلي قابل للتطبيق في أيما مجال. فإذا سأصطحب معي منهج التحليل النقدي لاستكشاف بنية نص تسبيب الحكم القضائي في قضية التجمهر، ومحاورة بناءاته القانونية والمنطقية والاستدلالية، واختبار مدى اتساق مقدماته مع نتائجه، ومدى توافقاته أو تناقضاته مع النصوص القانونية التي يستند عليها في الحكم، وإلى أي مدى تجد اشاراته واتهاماته ما يعضدها ويثبت صحتها من الأدلة والبراهين التي يسوقها لتأكيد الحكم، متوخياً في ذلك الموضوعية قدر الإمكان، ومحاولاً أن أوجد لأي تحليل أو استنتاج أخلص إليه ما يؤازه ويثبت صحته مما هو موثق في نص تسبيب الحكم الموجود على هذا الرابط في “مدونة مواطن عماني” لمن أرد الإطلاع والمقارنة:

https://docs.google.com/file/d/0BwZ-OiMt7odiTHFpUGhGa2VXcWs/edit?pli=1

تنويه ضروري

علينا التذكير هنا بحقيقة موضوعية وهي أن القاضي يوسف بن سالم الفليتي هو القاضي الثالث الذي تولى هذه القضية في المحكمة الإبتدائية بعد أن تناوب عليها قبله قاضيان، وهما اللذان استمعا إلى مرافعات الإدعاء العام الأولى التي وجه فيها تهمتين إلى 11 متهم تم اعتقالهم بتاريخ 11/6/2012م، إثر وقفة سلمية شارك فيها 27 مواطناً ومواطنة في حي القرم بمسقط على رصيف لمواقف سيارات يبعد أكثر عن 200 متر عن الشارع العام، ومواجه لمبنى القسم الخاص للشرطة الذي كان قد قام باعتقالات لعدد من المواطنين لأسباب لم تكن معروفة حينها، وقد جاءت هذه الوقفة السلمية بعد أن استنفد أهالي المعتقلين كل الطرق لمعرفة مصير أبنائهم المعتقلين دون أي رد أو تفسير من السلطات لأسباب اعتقالهم، مع حرمان هؤلاء المعتقلين من حقهم في الإتصال بأهاليهم أو توكيل محاميين، ولهذا جاءت تلك الوقفة السلمية كاحتجاج على تلك الإجراءات التعسفية المخالفة للقوانين، وللمطالبة بمنح أؤلئك المواطنين الذين تم اعتقالهم حقوقهم الإنسانية والدستورية في الاتصال بأهاليهم وتمكينهم من توكيل محامين للدفاع عنهم، وحث السلطات على تقديم تفسير واضح لأسباب اعتقالهم واحتجازهم في السجن. وقد أفرج الإدعاء العام عن 16 مواطن ومواطنة من الذين شاركوا في تلك الوقفة السلمية بعد أيام من الاعتقال، وتم منحهم البراءة بعد توقيع تعهد بعدم تكرار المشاركة في مثل هذه التجمعات، في حين أبقى الإدعاء العام على 11 متهم ووجه لهم تهمتين وهما:

 

  • التجمهر بقصد عرقلة حركة السير.
  • التجمهر بقصد الإخلال بالنظام العام.

إن القاضي الثالث يوسف بن سالم الفليتي(وهذه حقيقة موضوعية نذّكر بها) قد فاتته جميع المداولات التي تمت على مدى أربع جلسات في المحكمة مع القاضيين السابقين عليه، وبالتالي فقد أصدر حكمه دون أن يستمع إلى مرافعات الإدعاء العام الأولى وردوده ومداخلاته، ولم يستمع إلى أقوال المتهمين وحججهم وردودهم، ولم يستمع إلى أقوال شهود الإثبات، ولم يستمع إلى مرافعة المحامين الأولى واستجوابهم لشاهدي الإثبات في جلستين مختلفتين، كما لم يستمع إلى شهود النفي الذين شهدوا لصالح براءة المتهمين، أي أن القاضي الثالث اعتمد بالدرجة الأولى في إصدار حكمه على ما قرأه في محاضر الجلسات التي دونها ووثقها القاضيان السابقان عليه، وهذا يعني بالضرورة أنه قد فاتته الكثير من التفاصيل، فليس من سمع أو قرأ كمن عاش وعايش وخبر واستوثق من حقائق الأشياء بنفسه، فاستماع القاضي إلى أقوال المتهمين والشهود بنفسه مباشرة يتيح له الإطلاع على أحوالهم النفسية والمعنوية، ومعرفة تماسك حججهم وبراهينهم أو تناقضاتها، وقد يتاح له أن يسأل أسئلة يستوضح منها جوانب خفية في القضية قد تحول مسارها بالكامل من الإدانة إلى البراءة أو العكس، فالأساس في الحكم الجزائي هو قناعة القاضي التي تبنى على كثير من المعطيات أمامه. لهذا فإن ضرورات تحري العدالة والدقة في إصدار الحكم كانت تقتضي أن يطلب القاضي الثالث إعادت المرافعات من جديد، وأن يستمع بنفسه إلى أقوال المتهمين والشهود، ويواجههم بأسئلته واستفساراته، خاصة وأن حكم الإدانة اعتمد، كما تبين لاحقاً على شهادة شاهدين بدون أي دليل يثبت وقوع الجريمة أو القصد الجنائي للمتهمين! ولكن القاضي الثالث لم يطلب إعادة المرافعات والاستماع إلى الشهود، بل اكتفى بقراءة ما هو مكتوب في محاضر الجلسات السابقة، وبنى على أساسها قناعته وحكمه، وهذا ما أدى – في تصورنا- إلى وجود ثغرات وتناقضات عديدة بين التهم التي وجهها الإدعاء العام، وأقوال شهود الإثبات، وبين ما انتهى إليه القاضي في حكمه الأخير بالإدانة!

تناقضات

جاء نص الحكم الذي أصدره القاضي يوسف الفليتي في التهمة الأولى المتعلقة بـ”الإخلال بالنظام العام” كالتالي:

” أولاً: إدانة جميع المتهمين من الأول وحتى الحادي عشر بجنحة التجمهر بقصد إحداث شغب وقضت بمعاقبتهم بالسجن لمدة ستة أشهر ..” أنظر ص24(نص الحكم)
وواضح هنا أن القاضي قد أصدر حكمه هذا بموجب المادة قانونية رقم 137 في قانون الجزاء العماني الصادر بموجب مرسوم سلطاني رقم 7/74 والتي كان عنوانها “في تجمعات الشغب”، والتي كانت تنص على المعاقبة بالسجن لـ ” كل من اشترك في مكان عام بتجمهر خاص مؤلف من عشرة أشخاص على الأقل بقصد الشغب أو الإخلال بالأمن العام. إذا بقى متجمهراً بعد أن صدر أمر من أحد رجال الشرطة بالتفرق والانصراف” ولكن ما فات القاضي الانتباه له هو أن هذه المادة القانونية تحديداً رقم (137) من قانون الجزاء قد تم إلغاؤها بموجب المرسوم السلطاني 2011/96 واستبدالها بالمادة الجديدة رقم (137) وهي كالتالي:

” يعاقب بالسجن من شهر إلى سنة، وبغرامة لا تتجاوز مائتي ريال، كل من اشترك في تجمهر مؤلف من عشرة أشخاص على الأقل، بقصد الإخلال بالنظام العام”.

وواضح أنه في نص المادة القانونية الجديدة لا يوجد أي ذكر أبداً لـ”إحداث شغب” التي وردت في نص حكم القاضي يوسف الفليتي في قضية التجمهر. وما يثير الاستغراب أكثر هو أن هذا التوصيف “بقصد إحداث شغب” لم يرد أبداً ذكره لا في قرار الإتهام ولا في مرافعات الإدعاء العام ولا في شهادة شاهدي الإثبات من رجال الشرطة، فجميعهم لم ينطقوا بكلمة “شغب”، فمن أين يا ترى جاء القاضي يوسف الفليتي بهذه التهمة الجديدة “التجمهر بقصد إحداث شغب” إذا كانت لا توجد في القانون، ولم ينطق بها أو حتى يشير أو يؤمي لها أي أحد لا من الإدعاء العام أو ضابطي الشرطة الشاهدين الذين كانا في الميدان؟!

إذا تغاضينا عن هذا واعتبرناه خطأ أو سهو وقع فيه القاضي، أو ربما لم يكن لديه علم بالمرسوم السلطاني رقم 96/2011 الذي ألغى نص المادة القانونية رقم 137 من قانون الجزاء التي كانت خاصة ب”تجمعات الشغب” واستبدلها بمادة قانونية جديدة بنفس الرقم تتعلق بـ”الإخلال بالنظام العام” إذا تجاوزنا عن هذا فكيف يمكن تفسير التناقضات العديدة في التهمة الثانية، والتي جاءت كالتالي في نص تسبيب الحكم:

“ثانياً: إدانة جميع المتهمين من الأول وحتى الحادي عشر بجنحة تعطيل حركة المرور وقضت بمعاقبتهم بالسجن لمدة سنة”.

ما يثير الاستغراب في نص حكم الإدانة الثاني بـ”تعطيل حركة المرور” هو أن التهمة الموجهة أصلاً من الإدعاء العام هي “التجمهر بقصد عرقلة حركة السير” ولم ترد أبداً أية إشارة أبداً إلى “تعطيل حركة المرور” لا في مرافعات الإدعاء العام ولا في مذكراته الإتهامية، بل إن الإدعاء العام أنكر إنكاراً تاماً في الجلسة أمام القاضي الثاني بتاريخ 22/7/2012 أنه وجه تهمة “تعطيل حركة المرور” وقال إن التهمة التي وجهها واضحة ومدونة بأنها:”التجمهر بقصد عرقلة حركة السير”، أي أن الإدعاء العام، وهو جهة الإتهام، لايساير المحكمة فيما انتهت إليه من إدانة بتعطيل حركة المرور، مما يعني أن حكم القاضي كان مبالغة فاقت التهمة الموجهة أصلاً من سلطة الإتهام وهي “عرقلة حركة السير”.

إن “تعطيل حركة المرور” تعني: إيقاف حركة المرور إيقافاً تاماً ومنع عبور أي مركبة على الطريق. في حين أننا حين نسترجع كل مذكرات الإدعاء العام ومرافعاته لا نجد أي ذكر لـ “تعطيل حركة المرور” كما أنه لم يرد لها أي ذكر في أقوال شاهدي الإثبات من الشرطة اللذين كانا في موقع الحدث، وكانا هما الأولى أن يشيرا إلى “تعطيل الطريق” لو كان ذلك قد حدث فعلاً. وبلا شك هنالك فرق كبير في المعنى بين عرقلة حركة السير وبين تعطيل حركة المرور بالكامل!

حين نراجع أقول شاهدي الإثبات عن حالة الطريق عند الإعتقال، حسب ما وثقه نص تسبيب الحكم الذي أصدره القاضي، نجد أنها كانت كالتالي:

أولاً. المقدم/ أحمد الرواس (ص8 نص تسبيب الحكم)

– “وبدأت حركة المرور بالتباطؤ لأن المداخل ضيقة وبدأ ازدحام مروري”.

– “وبسؤال الشاهد عن تعطيل حركة المرور من قبل المتهمين أفاد بأنه حدث تباطؤ في حركة السير بسبب مشاهدة المتجمهرين”.

ثانياً. المقدم/ عبدالله أحمد باصديق (ص8، ص9 نص تسبيب الحكم)

– “وجودهم يثير الآخرين ويسبب ضغط مروري”

-“وكانت الحركة المرورية في اليوم الأخير مزدحمة جداً”

– “التجمهر يشكل إزعاج خاصة كان هنالك تواجد جاليات والمنطقة حيوية”

– “وجه الإخلال بالنظام العام هو تجمهر الناس والزحمة المرورية غير المألوفة بسبب التجمهر”

–“وبسؤال الشاهد: بصفتك القائد الميداني هل طلبت من أحد الضباط تسهيل حركة المرور؟ أجاب نعم طلبت من أحد الأفراد تسهيل حركة المرور”.

– “وبجوابه على سؤال آخر في أي شارع بالتحديد؟ أجاب: شارع السلطان قابوس جسر القرم مقابل القيادة من دوار القرم إلى سيح المالح كان هنالك شبه تباطؤ أما أمام القيادة العامة فهناك بطئ شديد”.

ثالثاً. توصيفات القاضي واستنتاجاته الخاصة عن الحالة المرورية اعتماداً على شهادة الشاهدين، حسب ما ورد في نص تسبيب الحكم:

– “المحكمة اطمأنت لتلكما الشهادتين واستراح لها وجدانها والتي أكدت تزايد عدد المتجمهرين يوماً بعد يوم مما أدى إلى وقوع ربكة أمنية”.(ص14(

– “والذي نتج عنه إزدحام في الطرقات وازعاجاً للمارة” (ص15)

– “مما أدى إلى نشوء ربكة أمنية” ص16

– “مما لاشك فيه من أن المارة يثار لدى حافظتها تلاوة ما هو مكتوب في اللوائح مما ينتج عنه حتماً التباطؤ في حركة المرور)” ص16)

– “ومما لاشك فيه لدى المحكمة وجود تباطؤ في حركة السير بسبب تلاوة المارة بالطريق للعبارات التي دونها المتجمهرون في اللوائح التي قاموا برفعها وتوجيهها تجاه الطريق” (ص17).

– “وكذلك تزايد المتجمهرين في اليوم الثالث في موقع الحدث وهو ما يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي إزدحام حركة المرور وتباطؤها”. (ص17)

– “وحصل الإخلال بالنظام العام من خلال تزايد عدد المتجمهرين في اليوم الثالث والتباطؤ في حركة السير” ( ص20)

– وأخيراً انتهى القاضي في خلاصة استنتاجه النهائي بأن الذي حدث هو: “تعطيل حركة المرور” ص24

يبدو واضحاً إذاً عدم دقة توصيف الحالة المرورية من قبل الشهود والقاضي، بل إن بعض توصيفات الحالة المرورية متناقضة مع بعضها البعض، وأحياناً هنالك تناقض بين التوصيفات المختلفة التي ذكرها القاضي بنفسه للحالة المرورية ومن بينها “التباطؤ في حركة المرور” و” ازدحام الحركة المرورية” وبين ما انتهى إليه من حكم نهائي بأنها كانت “تعطيل حركة المرور”. كما نلاحظ أن القاضي يأتي بتوصيفات لم ترد أبداً في أقول الشهود أو الإدعاء العام مثل:”ربكة أمنية”! ص14، ص16 (نص تسبيب الحكم).

ورغم أن أي من الشاهدين لم يذكر أبداً أنه حدث “تعطيل حركة المرور” نلاحظ أن القاضي الأول يسأل الشاهد الأول المقدم أحمد الرواس بشكل واضح وصريح (كما ذكر نص الحكم وتمت الإشارة له أعلاه) إن كان قد حدث تعطيل لحركة المرور؟ فكانت إجابته هي: لا، وأشار فقط بأنه:” حدث تباطؤ في حركة السير”! (ص9 نص تسبيب الحكم).

كما أن القاضي الثاني كان قد وجه هذا السؤال للشاهد الثاني المقدم عبدالله باصديق:

-“وبسؤال الشاهد هل هناك ضرر آخر غير تعطيل حركة المرور؟ أجاب الشاهد التجمهر يشكل إزعاج خاصة كان هنالك تواجد جاليات والمنطقة حيوية “(ص9 نص تسبيب الحكم). ورغم أن طريقة صياغة هذا السؤال كانت توجه الشاهد نحو اتجاه محدد إلا أن الشاهد مع ذلك لم يجب بتأكيد ما جاء على لسان القاضي من أنه حدث “تعطيل حركة المرور” بل كان كل ما أشار إليه في اجابته هو أن “التجمهر يشكل إزعاج..”!

وما يثير الاستغراب هو أننا إذا قارنا كل ما ذكره شهود الإثبات والقاضي بنص المادة 137 مكرر من قانون الجزاء العماني تتكشف لنا مفارقة أخرى كبيرة. فماذا يقول نص المادة القانونية التي اعتمد عليها القاضي في قراره بالإدانة؟

المادة 137 مكررا في التجمهر:

“يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات كل من أقدم قصداً بأية وسيلة كانت على سد الطرقات العامة بما يؤدي إلى منع عبورها أو عدم سهولة السير عليها..”.

واضح هنا أن هذه المادة القانونية لا تشير ابتداء إلى “تعطيل الطريق” كنتيجة للفعل، بل هي تتحدث عن الفعل ذاته وهو “سد الطريق”. كما أنها تتحدث عن “وسيلة” يتم بواسطتها “سد الطريق”، أي أداة للجريمة، كما أنها تؤكد على ضرورة وجود “قصد” أو نية متعمدة للجاني لسد الطريق، فقد يحدث مثلاً “سد الطريق” بشكل لا إرادي كأن تتعطل سيارة أحدهم في وسط الطريق، أو يقع حادث مروري يؤدي إلى سد الطريق ومنع العبور من خلاله، وهذه لا تعتبرها المادة القانونية أعلاه جريمة “سد طريق” لأن القصد الجنائي المتعمد غير موجود.

ما الذي يعنيه تحديداً “سد الطريق”؟

إذا رجعنا إلى قواميس اللغة سنجد أن: سدَّ الشَّيءَ أغلقه. ويقال سدَّ البابَ أي أغلقه. وسدَّ الشارعَ بمتاريس. وسدَّ القارورةَ: وضع عليها السِّداد. وسار في طريق مسدود : سلك سلوكًا لا يوصِّل إلى المطلوب. وسُدَّت في وجهه الأبواب: لم يستطع عمل شيء وفشِل في بلوغ غرضه. وسدَّ عليه الطريقَ: وضع العراقيلَ أمامه ومنعه من بلوغ أهدافه. وسدَّ القناةَ : أقام عليها سدَّاً.

واضح إذاً أن فعل “سد الطريق” يعني إغلاق الطريق بالكامل. وهذا الإغلاق لابد أن يتم بوسيلة جرمية(كما تشير المادة القانونية)، كأن يقف الجناة في وسط الطريق ليسدوه بأجسادهم، أو يضعوا في وسط الطريق أحجاراً كبيرة أو جذوع أشجار أو أية وسيلة أو أداة يقصد بها الجانون سد الطريق وإغلاقه بالكامل. وكبدهية منطقية عقلية لا يمكن أبداً أن يحدث سد شيء ما وإغلاقه بدون أداة أو وسيلة للسد والإغلاق، أي أن “سد الطريق” يستحيل أن يتم بدون الوقوف في منتصف الطريق أو وضع شيء في وسط الطريق بحيث يغلقه بالكامل، أي أن “سد الطريق” يقتضي أن تكون هنالك أداة جرمية يضعها الجناة تحديداً في منتصف الطريق بحيث تسد مجراه، وتمنع العبور من خلاله، وهو ما لم يحدث أبداً بإجماع الجميع سواء المتهمين أو الإدعاء العام أو المحامين أو الشهود أو القضاة الثلاثة، فجميعهم ينفون نفياً تاماً وقاطعاً أن يكون أحد من المتهمين وقف في منتصف الشارع العام ليسد الطريق على السيارات العابرة، أو أن أي منهم وضع شيئاً في منتصف الطريق ليسده ويغلقه ويعطل حركة المرور!

بإنزال النص القانوني على واقعة الدعوى نجد أنه يتبين لنا بوضوح التالي:

 

  • أن المتجمهرين كانوا واقفين في رصيف مواقف واسعة وفسيحة للسيارات، وهي تبعد عن الشارع العام مسافة تزيد عن 200 متر(وهنالك الكثير من الصور الفتوغرافية التي تدل على ذلك(
  • لم يذكر الإدعاء العام أو الشهود أن أي من المتهمين وقف في منتصف الشارع العام ليسد الطريق على السيارات العابرة.
  • لم يذكر الإدعاء أو الشهود أن هنالك أية أداة جرمية قام المتهمون بوضعها في منتصف الطريق العام وأدت إلى سده وإغلاقه.
  • لم يستطع الإدعاء العام أو الشهود أن يأتوا بدليل مادي يثبت وقوع جريمة “سد الطريق” أو “الإخلال بالنظام العام”.
  • لم يستطيع الإدعاء العام أو الشهود أن يدللوا ببرهان يقيني جازم يثبت أن قصد المتجمهرين ونيتهم المتعمدة كانت هي “سد الطريق” و”الإخلال بالنظام العام”.

إن نص تسبيب حكم التجمهر للقاضي يوسف بن سالم الفليتي يتبدى في مرآة التحليل النقدي حافلاً بالمفارقات والتناقضات العجيبة، فهو بقدر ما يسوق الشواهد والحجج لإثبات التهم يلحق بها في ذات الوقت ما يعارضها وينقضها وينفيها، وكأننا في ساحة معركة تتصارع فيها النقائض والأضداد، فما تؤكده واقعة ما سرعان ما تنفيه واقعة أخرى، وما تبرهن عليه شواهد معينة ما يلبث أن تشكك فيه شواهد أخرى مذكورة في ذات النص، وما تثبته حجة ما سرعان ما تنهض في وجهها حجة أخرى تنقض أسسها وأسانيدها، وهو ما يجعل النص يعاني من حالة تفكك وعدم اتساق بين مقدماته واستنتاجاته وخلاصاته النهائية، فما ينتهي إليه من استنتاجات ليس له علاقة بالمقدمات التي ذكرها في البداية، وما يصدره من أحكام مفارق تماماً للتهم الأصلية الموجهة من الإدعاء العام، ومفارق أيضاً لما ورد على لسان شهود الإثبات، إضافة إلى عدم اتساقه الواضح مع نص المادة 137 والمادة 137 مكرر في قانون الجزاء العماني، والتي انبنت عليها أحكامه بالإدانة!

 

العدد الثلاثون سياسة

عن الكاتب

ناصر صالح

كاتب عماني