أمريكا ووحشية التعذيب

كاد الأستاذ “أحمد صبحي منصور” أن يجعلني أكتب مقالا أمتدح فيه أمريكا لأول مرة، بعد أن قرأت له مقالا تناول فيه تجربته الشخصية بزيارة أحد السجون الأمريكية ورؤيته كيف يتم التعامل مع المساجين المسلمين هناك مقارنا بين السجون المصرية التي ذاق ويلاتها وبين السجون الأمريكية، إلا أن أمريكا نفسها أبت أن تعطيني تلك الفرصة بعدما قرأت ما قالته منظمة «هيومان رايتس ووتش» الأميركية يوم 6/9 الماضي من أن حكومة الرئيس السابق جورج بوش قامت بتعذيب خصوم سياسيين لمعمر القذافي، واستخدمت وسائل من بينها تعريضهم لمحاكاة الإيهام بالغرق ثم قامت بتسليمهم قسرا إلى النظام الليبي حيث تعرضوا للمعاملة السيئة، ويرسم تقرير المنظمة صورة واضحة للتعاون الوثيق بين واشنطن ونظام القذافي في أعقاب هجمات ال11 من سبتمبر وهو التعاون نفسه مع كل الأنظمة العربية حتى الممانعة، وفي التقرير الذي صدر في 154 صفحة، وحمل عنوان «التسليم للعدو – الانتهاكات وعمليات تسليم الخصوم قسرا إلى ليبيا في عهد القذافي بإشراف أميركي»، أشارت المنظمة إلى مقابلات قامت بها في ليبيا مع 14 محتجزا سابقا أغلبهم ينتمون إلى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، والتي كانت تحاول قلب نظام حكم القذافي على مدار 20 عاما، وفر هؤلاء من ليبيا إلى باكستان وأفغانستان وبعض البلدان الأفريقية، وانتمى هؤلاء المحتجزون في ما بعد إلى المعارضين للقذافي المدعومين من حلف الناتو العام الماضي،  كما يستند التقرير إلى وثائق بعضها يعلن عنه لأول مرة عثرت عليها المنظمة في مكتب رئيس المخابرات الليبي الأسبق “موسى كوسا” بعد سقوط طرابلس، وقال 5 من المعتقلين السابقين إنهم تعرضوا لانتهاكات جسيمة في منشأة احتجاز في أفغانستان، وشملت الانتهاكات التعرض لمحاكاة الإغراق وتقنيات أخرى باستخدام المياه، إضافة إلى انتهاكات أخرى منها الربط بسلاسل إلى جدران وهم عراة وفي ظلام دامس في زنازين بلا نوافذ، وإجبارهم على الجلوس في مساحات ضيقة لا تسعهم، والضرب بالأيدي واللطم بالجدران، والحرمان من النوم عن طريق تشغيل موسيقى غربية صاخبة للغاية بلا توقف.

يأتي هذا التقرير بعد أيام من إعلان وزارة العدل الأميركية أنها لن توجه أي تهم جنائية ضد عناصر وكالة المخابرات الأميركية «سي آي إيه» حول أساليب الاستجواب المستخدمة في برنامج الترحيل السري والاعتقال لأن إدارة الرئيس بوش كانت قد أكدت أن الوكالة قد استخدمت أسلوب محاكاة الغرق على ثلاثة فقط من المشتبه فيهم من كبار العناصر في تنظيم القاعدة في مراكز احتجاز سرية، وهم خالد الشيخ محمد، وأبو زبيدة، وعبد الرحمن الناشري (المحتجزين حاليا في معتقل غوانتانامو)، وتقول “لاورا بيتر” إستشارية مكافحة الإرهاب في منظمة «هيومان رايتس ووتش»: « يبدو أن نطاق تورط إدارة بوش في الانتهاكات هو أكبر بكثير مما أقرت به الإدارة الأميركية مما يعني أهمية فتح تحقيق شامل في حقيقة ما حدث».

إن ما تم نشره غيض في فيض، فاستطاعة المرء أن يؤلف مجلدات كبيرة عن وسائل التعذيب التي اتبعتها أمريكا وطبقتها على البشر في معتقل جوانتانامو السيء السمعة وفي سجن أبوغريب وفي أفغانستان وفي كل مكان، ولعل الكاتب والصحفي الأمريكي “لاري سييمس”، من أبرز من اهتم بهذه القضية وما مارسته بلاده المتبجحة دائما بالحضارة والمدنية من أساليب وحشية ضد الإنسانية، فانبرى الرجل إلى الساحة بضمير حي فألّف كتابا في هذا المجال سماه «ماذا تقول الوثائق حول أمريكا»، وأنشأ موقعا إلكترونيا سخره لرصد هذه الظاهرة الحاطة بالكرامة الإنسانية

ويقول “لاري سييمس”: لقد بدأ كل شيء بوثيقة في غاية الأهمية جاء فيها ما يلي: في ال17 من سبتمبر 2001 ، أي بعد 6 أيام من الهجمات الإرهابية، وجه الرئيس جورج بوش إلى المجلس الوطني للأمن القومي مذكرة من 12 صفحة، يأذن فيها لوكالة الاستخبارات الفدرالية (سي آي إي) بإنشاء وإدارة مراكز سرية للتعذيب، ويقول إنه بعد أن اطلع على أكثر من 140 ألف وثيقة فإن أبرز المسؤولين في الحكومة الأمريكية، بمن فيهم الرئيس بوش نفسه، قد أقدموا ببرودة دم فائقة على خرق القوانين الأمريكية والدولية التي تحرم التعذيب والمعاملات القاسية واللاإنسانية والحاطة بالكرامة، بل وصلت ماكينة تعذيبهم الطاحنة إلى السجون السرية التي أنشأتها الوكالة الفدرالية الأمريكية في أماكن شتى من العالم  وبالتحديد في بلدان اشتهرت أنظمتها بالبطش والقسوة والتبعية المطلقة لأمريكا، حيث زودتها بمجموعات عديدة من المعتقلين لتقوم بممارسة التعذيب عليهم بالوكالة عنها، ويرى أن إنشاء وإدارة معتقلات سرية عبر العالم بأسره من طرف الوكالة الفدرالية بنية إبعاد السجناء والجلادين عن القوانين الأمريكية التي تجرم التعذيب، هو في حد ذاته أمر أقل ما يقال أنه موغل في الخزي ويجر العار على كل الأمريكيين. ويمكن للراغبين في معرفة المزيد الإطلاع على الموقع الذي أنشأه “لاري سييمس” على العنوان التالي، الذي ترجم منه أحمد السالمي مقتطفات لجريدة المساء المغربية : ‏www.thetorturereport.org

‏ وقد نشرت جريدة السفير اللبنانية كيف استخدمت الحكومة الأمريكية أغاني  مسلسل الدمى «شارع سمسم» كوسيلة لتعذيب السجناء في معتقل غوانتانامو،

وعرضت قناة «الجزيرة» فيلماً وثائقياً بعنوان «أغاني الحرب»، تناولت فيه موضوع الأغاني المستخدمة من قبل القوات الأميركية وإدارات السجون لتعذيب السجناء، بهدف تشتيت أفكارهم وانتزاع الاعترافات منهم.

وبحسب الوثائقي، فإنه يتم استخدام أغاني الأطفال لأغراض غير إنسانية، ومن بينها أغاني «شارع سمسم» التي تتردد بشكل متواصل لساعات أو حتى أيام في آذان المعتقلين، ويقول “كريستوفر كيريف” ملحن وكاتب تلك الأغاني إنه صُدم لدى اكتشافه أن الحكومة الأميركية تستخدم أغانيه الهادفة للخير كوسيلة لتعذيب معتقلي غوانتانامو وإنه لم يصدق في بادئ الأمر

وبحسب أحد الخبراء فإن هذه الموسيقى تمنع المعتقل من التفكير وتجرده من كل أحاسيسه ليصبح مادة هشة في يد معتقِليه حيث يتم تشغيلها بصوت عالٍ لساعات طويلة وفي بعض الأحيان لعدة أيام، إما عبر مكبرات الصوت أو عبر سماعات الرأس، ومن شأن تلك الموسيقى أن تترك أثراً نفسياً لدى السجناء خصوصاً أن معظمهم لا يفهم اللغة الإنجليزية أو حتى الثقافة الغربية، فيصبح بالتالي غير قادر على التفكير أو النوم مما يجعله ضحية سهلة للاستجواب.

وفي تقرير لقسم الخدمات الطبية في وكالة الاستخبارات الأميركية بعنوان «دليل لوسائل التحقيق»، يتم التركيز على وسائل تعذيب لا تترك أثراً مادياً أو جسدياً على المعتقلين، ومن بينها الموسيقى المرتفعة جداً على مدى 18 ساعة متواصلة.

هناك الكثير الذي يمكن أن يُمتدح في أمريكا وهناك الكثيرون من المعجبين بأمريكا لدرجة الاعتقاد أنّ الفظائع التي ارتكبها الأمريكان هي مجرّد أعمال فرديّة، وهذا ما يحاول الأمريكيون تسويقه دائما من خلال إجراء محاكمات صورية للمتجاوزين إلا أنّ التاريخ يكشف كما يقول الكاتب “علي حسين باكير” في مقال بعنوان “جرائم التعذيب: استراتيجية أمريكية بامتياز” أنّ التعذيب  الأمريكي يأتي نتيجة احتراف ومهنة وبعد جهود مضنية ومكثّفة يتم تدريب الضبّاط فيها من خلال كتب ومدارس وأخصّائيين نفسانيين واجتماعيين على كيفية إذلال المعتقل وامتهان كرامته لانتزاع ما يريدون منه، وإن كانت وسائل الإعلام العالمية  – و هي بغالبها صهيونية وأمريكية التمويل –  لم تذكر شيئاً عن الموضوع فإنّ ذلك لا يعني أنّه غير موجود في القاموس الأمريكي، فأسلوب التعذيب عند الأمريكيين قديم

Zahir679@gmail.com

العدد الثلاثون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com