1- دول الخليج و توجسات رياح السّموم.
في 22 يناير من العام 1939 أصدر رئيس وزراء بريطانيا نيفيل تشامبرلين بيانا في الإذاعة يدعو فيه كل مواطن إلى حماية الوطن : (( من واجب كل رجل أن يؤمّن سلام بلاده)) وبعد وقت قليل من ذلك النداء كان الطيران الألماني يقلع من قواعده، ولكن الشعب البريطاني الذي هب يدافع عن بلده، ابتكر خياله طرقا جديدة للدفاع، ومن أهم هذه الابتكارات تقنية (البلاك آوت) أو التعتيم الأسود، والذي يعني – عمليا – تغطية الأبنية بالأقمشة السوداء حتى تغرق المدن الكبرى كلندن وكوفنتري في الظلمة وتنطمس أهم معالمهما الظاهرة، والتي هي هدفا أساسيا للغزو، فتشوش بذلك على الطائرات الغازية، فلا تلقي عليها بالا أو قنابلا وتروغ عنها مبتعدة تائهة .
هكذا تعاون الشعب البريطاني غريزيا من أجل الدفاع عن بلده وتقليص خسائره الممكنة، وحين انتهت الحرب تضافر الجميع في إصلاح كل عطب وخلل.
فقبل عام واحد، بل قبل شهر واحد أو حتى قبل يوم واحد من حدوث الربيع العربي، وهروب ( الزين) التونسي، الذي كان يهتز حتى الحجر حين يتجرأ على نقده، بل أنه حتى المجنون في لا وعيه المعطوب يخاف من ذكره اسمه ولو عبورا، وقد رأيت مجانين كثر يرتعون في شارع بورقيبة أو شارع الحرية ويرطنون بمطلق الهذيان دون أن يجنحوا لذكر رئيس البلاد ولو همسا وذلك لأن (جنونهم) إن دفعهم يوما لذكر الرئيس، فإنه سوف يثير جنونا من نوع آخر.
هل كان أحد منا يحسب بأن أعتى أجهزة المخابرات وأدوات (القمع وليس الأمن) في العالم ( النظام المصري والتونسي كأبرز مثالين) يمكنه أن يتهلهل في زمن قصير وكأنه يحدث في خيال أفلام الكارتون، وها هو النظام السوري الأكثر دموية لم تزده دمويته سوى تعميقا للحفرة الذاهبة به إلى الهلاك وإن صمد فإنه سيصمد إلى متى ؟ فلم يعد النظام السوري يمتلك – في حسابات التاريخ المنظورة على الأقل- حتى مخرجا مشرفا، كما كان الأمر عليه لدى رؤساء تونس واليمن ومصر. لقد ضاقت عليه الحفرة واستنجد مضطرا بالدلالات العنترية اليائسة والتي يمكن أن تلخصها عبارة : (أنا والشعب إلى الهلاك معا).
الليبيون كانوا في حديثهم يؤلهون القذافي، فكان حين يأتي الحديث عنه لا يستطيع أحد منهم أن ينطق بغير كلمة القائد ويداه تتحركان بقوة العطاء الذي أغدقه عليه . هل لأنه كان مستعبدا من طرف ذلك الصنم الذي ولى إلى غير رجعه. ألم يكن الخلاص من القذافي يعني لليبيين في حقيقته دفاعا عن الوطن ضد هذا العدو الداخلي الذي بذر ثروتهم وأخر بلادهم وكتم على حريتهم.
فرغم الدوي الذي أحدثه الربيع العربي إلا أن دول الخليج لم تفعل الدور السياسي المطلوب لشعوبها، طبعا ثمة استثناءات في هذا السياق العام، فالمشاركة الشعبية في الحكم هزيلة، والكثير من دول الخليج لا يوجد به بها حتى رئيس وزراء في بابه الشكلي (كأضعف الإيمان). فالتعالي والترفع والقدسية هي ما يحكم ويضفر العلاقة بين الشعوب والحكام، و( السيستم ) القديم هو نفسه- وإن ارتدى حلة مغسولة – بأركان مفسديه ومستفيديه، أختفي بعضهم ظاهريا ولكن أياديهم لما تزل تلعب وتصفق في الخفاء. والشعوب مغيبا دورها ومطالبها –حتى المعيشي منها – لم يلبى منها سوى القليل. كما أن شر!
كات النفط ومشتقاته غير مؤممة سوى في ظاهرها ومظهرها حيث لاتوجد شفافية كافية لمعرفة ريع الثروة النفطية ومسالك تدفقها المالي.والسؤال الذي يطرح نفسه هل أن الكوارث لها شكل أو لون واحد، فإذا لم تحدث ثورة أو ثورات شعبية رايدكاليه اجتثاثيه- في الوقت الراهن على الأقل- فهل معنى هذا بأن دول الخليج بعيدة عن الأطماع والكوارث الإقليمية، أليست هدفا تاريخيا واضح المعالم لكل من طمع واستطمع؟ فمتى إذن سيحسن حكام دول الخليج علاقاتهم بشعوبهم؟ أليس هذا الوقت الوحيد والفرصة ما قبل الأخيرة؟.
فلا أحد ينكر بان أطماعا كثيرة تحيط بدول الخليج، المفتوحة صحاريها على كل الرياح والمفاجئات حاضرا ومستقبلا، وأن التقلبات التي لا يستطيع أحد أن يحسب لها أدنى حساب ،أو من المستحيل تماما أن نعرف نوعها ووقتها وحينها بدقة الساعة، مهما استنفرنا في قوة المخابرات ومجسات المستقبل ومابعد المستقبل، وذلك لأن الأيام أثبتت وبرهنت بما لا يدع أدنى مجال للشك وخداع الذات، على السقوط الدراماتيكي لأعتى أجهزة المخابرات القمعية في العالم، ولن نذهب بعيدا حين نتذكر شاه إيران وجهازه الباساك المرعب، وقبله ستالين بقوته الأسطورية الضاربة والمتمثله في جهاز ال!
كي جي بي، ذلك الجهاز الذي لا يمكن التصور حتى في أحلام اليقظة بأن شيئا من قوته يمكنه أن يضعف، فما بالنا بإسقاطه وإمحائه نهائيا من الوجود .
الأخطار تحدق بدول النفط والسمك واللؤلؤ والبحار والطاقة الشمية والردى، هذه الدول التي تمتلك الثروات وقلة السكان، ولكن هؤلاء السكان تعيش شريحة غير هينة منهم في شقاء وخصاصة وحاجة للسكن والتعليم والعيش الكريم ، غير بعيدين – فوق كل ذلك – عن أنواع القمع والإلغاء، ويعامل الكثير منهم معاملة من يعمل ويعيش في المزارع حيث لارأي أو مشورة فعلية لهم ، فماذا سينتظر منهم حكام الخليج بعدئذ، إذا حدث حادث -لا قدر الله – يقتضي تدخل الشعوب لدرئه كما حدث في المثال البريطاني المذكور سلفا،سوى أن يناوموا لا مبالين أو أن يثوروا عليهم.