حتى لا تفقد عمان تسامحها

في اليوم الذي وقف فيه المسلمون في صعيد عرفات الطاهرة وأظهروا للعام أجمع ما يجمع بينهم من وحدة ومدى قوتهم إذا تمسكوا بهذه الوحدة، كان هنا في السلطنة مؤشر خطير ومؤلم ينبؤ بما قد تصل إليه الأمور من سوء إذا لم تتدخل الدولة وتقف بحزم، وإذا ما انساق العمانيون إلى الأمراض المذهبية التي أصابت الآخرين في مقتل

والقصة تبدأ برسالة تم تداولها بين الناس عبر “الواتس آب” – وهي وسيلة سريعة الانتشار ويعتمد عليها الكل الآن – مفادها أن خطيبا في إحدى الولايات وقف في منبر الجمعة وتهجم على المذهب الإباضي واصفا أتباعه بأنهم كفّار وكررها ثلاثا لتأكيد كفرهم، مما جعل من البعض يتوعد بالرد عليه ويدعو الناس أن يقفوا بحزم ضد هذا الإمام، مقترحا أن تتوحد خطب الجمعة كلها في تلك الولاية ردا على هذا الإمام وافتراءاته، وهذا بحد ذاته مؤشر خطير عندما يلجأ الناس إلى أخذ حقهم بأنفسهم بدلا من أن تأخذ الأمور مجراها القانوني، إذ أن موضوعا بهذه الحساسية يجب أن لا يقابل بالمثل لأنه قد يؤجج الموقف ويكبر الموضوع حيث قد يتدخل فيه الجهلة ولكن يجب أن يقابل بالقانون، وقد تكون حادثة هذا الإمام حادثة فردية بفعل الخلفية المذهبية إلا أنها قد تترك أثراً سلبياً وسيئا على التعايش السلمي بين المذاهب والطوائف في عمان وهو التعايش الذي يشيد به كل زائر ومقيم في السلطنة لأنه حقيقة واقعة وملموسة، ثم إن هذه الحادثة قد تكون شرارة إذا لم يتم التصرف أمامها وأمام مثيلاتها بحزم، ويجب على الكل أن ينظر إليها بجدية وأن لا يعتبرها حادثة عابرة خوفا من تبعاتها

والمطلوب من الدولة الآن أن تضع ضوابط صارمة تتمثل في وضع مادة في النظام الأساسي أو في القوانين الجنائية تعاقب مرتكب حماقة مثل هذه التي قد تثير الفتن وتؤدي إلى الانقسامات الطائفية أو المذهبية أو القبلية من أي مذهب كان، ويجب أن تشمل العقوبة كل من يتطرق إلى إقصاء الآخر عبر أي وسيلة إعلامية تصريحا أو تلميحا حتى لا تعم الفوضى الوطن، لأن ما انتشرت هذه الفتن في أي مكان في العالم إلا كان ذلك إيذانا بوقوع الفوضى فيه، ويجب على الحكومة أيضا أن تواجه المسألة بجدية وواقعية وتعالجها بشكل جذري دون اللجوء إلى مسكنات مؤقتة وأن يكون هناك فعل حقيقي منها لا أن تنتظر حتى تتفاقم الأمور ثم تتحرك بعد فوات الأوان كرد فعل فقط كما هي عادتها دائما، لأننا لا نريد أن نفرط في أمننا الذي نعيشه بسبب البعض ممن يجهلون عواقب أفعالهم، ولله الحمد فهم قلة من المتطرفين إلا أنهم بدأوا يظهروا الآن بقوة في الساحة العمانية بفعل التأثير الخارجي، وهم يبحثون عن أسباب إثارة الأطراف الأخرى المخالفة لهم، مستغلين وسائل الاتصال الحديثة التي تعطيهم الفرصة لنشر ما يرغبون ويؤثروا على العامة الذين قد ينجرفون خلفهم دون وعي للأضرار التي قد تنتج عن ذلك حاضرا ومستقبلا، والبيئةُ العربية والإسلامية عموما قد تكون مهيئة للتأثر بسبب المناخات العامة التي يعيشها الناس وبسبب المواريث القديمة التي ترفض الاختلاف في الرأي، إذ أن كل فريق في الأمة يعتقدون أن الصواب معهم وأنهم الناجون الوحيدون بينما الآخرون من الضالين، لذا نجد أن الفتن الطائفية والمذهبية تنتقل بسرعة البرق في الوطن العربي والإسلامي، لأن هناك من الشيوخ من تفرغ لتغذيتها بما يملك من إعلام وقنوات فضائية تصل إلى كل البيوت وتخاطب العامة من الناس، والناسُ بطبيعتهم يميلون إلى الإستماع إلى كل من يسبق اسمه لقب “شيخ” ويطلق لحية طويلة حتى وإن كان ما يقوله للناس هو عين الكفر

وأغلب الظن أن من يثيرون الفتن – مذهبية أو عرقية أو قبلية أو غير ذلك – إنما يكون ذلك عن خلل في العقلية وميل إلى التطرف والتعصب بسبب علل نفسية وبسبب مواريث قديمة توارثها جيل عن جيل، تغذي الفتنة وتؤدي إلى إقصاء الآخر مما يؤدي إلى ضرب أسس التعايش السلمي الذي يجب أن يكون بين الناس، وتكون النتيجة القتل باسم المذاهب وإشعال الفتن والصراعات هنا وهناك وهو ما نشاهده الآن في الكثير من البلدان العربية والإسلامية لدرجة أن يتم تفجير المساجد بمن فيها من المصلين باسم الله، رغم أن وجود المذاهب وهي مدارس إسلامية مختلفة يجب أن يكون رحمة وأن يكون عاملا من عوامل الغنى الفكري لا أن يكون عاملا من عوامل تكفير البعض والإنقسام والتقاتل, فقد نجد من المسلمين ممن لا يصلون ولا يصومون أي أنهم مسلمون بشهادات الميلاد فقط ولكنهم جاهزون للتقاتل حول أمور غيبية يجب أن يتكلم فيها العلماء لا العامة كرؤية الله أو الخلود، أو التقاتل حول قضية مرت عليها أكثر من ألف عام حول أحقية أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة أو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، بل إن البعض لا زال يقاتل فرقا بادت من زمان وليس لها وجود إلا في كتب التاريخ كما أشار إلى ذلك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله

ونعود إلى ما بدأنا به المقال، إذا كان ما تم توزعه عبر “الواتس آب” من تكفير لمذهب إسلامي عبر خطبة الجمعة في دولة مثل عمان عُرف عنها التسامح والتعايش السلمي بين كل المذاهب والأعراق والقبائل،وهو موقف أكده الكثيرون فهذا شيء خطير وله عواقب خطيرة على المجتمع مستقبلا، وأما إذا لم يكن ذلك صحيحا فإن المسألة لها خطورتها أيضا، إذ ما معنى أن يتم إطلاق شائعة مثل هذه ولمصلحة من؟ لأن إطلاق الشائعات فيه ضرر كبير لأمن الدولة كتلك الشائعة التي نشرها البعض من أن المواطنين يحاصرون مركز شرطة السويق لإطلاق سراح المتسبب في حادث التفحيط ..!

يجب أن لا ننظر إلى المسألة ببساطة أقرب إلى السذاجة لأن إلقاء نظرة على كلام كتبه “رالف بيترز”  وهو أحد مسؤولي الاستخبارات العسكرية الأميركية السابقين، قد يكون مؤشر إلى ما ستؤول إليه الشرارات الأولى التي تنطلق هنا وهناك، إذ كتب يقول “إن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة العربية تجاه بعضها البعض، لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات حتى يعود السلام إليه”، والسلام الذي يقصده هو تفتيت الأوطان العربية والإسلامية وإعادة صياغتها على أسس عرقية ومذهبية حتى تبقى الكلمة لإسرائيل، ولكن لماذا نحن نعطي هذه الفرصة لهم؟

يجب علينا – كعمانيين – بل يجب على العرب والمسلمين أن يترفعوا عن الصغائر وأن لا يكونوا أدوات لهدم الاستقرار وأن لا يكونوا فريسة سهلة للفتن المذهبية والطائفية أو القبلية أو حتى المناطقية، ويجب على الحكومة أن تضرب بيد من حديد كل من يريد إثارة الفتن والنعرات من أي مذهب كان ( وأؤكد على ذلك- من أي مذهب كان – لكي لا يتم تفسير كلامي أنه موجه إلى فئة أو أحد ما ) حتى نحافظ على وحدتنا واستقرارنا وتماسكنا ويجب أن نقدم المصلحة العليا على أي مصلحة غيرها، وعندما ندعو الحكومة أن تضرب بيد من حديد فإن هذا يختلف عن محاسبة المطالبين بحرية التعبير إذ أن الشيئين مختلفان

إن الإنسان لا يحس بالصحة إلا  إذا فقدها وكذلك لا يحس بأي نعمة إلا بعد فقدها، وأذكر ما قاله أحد الأطباء العراقيين أنه كان يكره الرئيس صدام حسين، ولكنه الآن يبكيه ويتمنى أن تعود أيامه لأنه يعيش قلقا مستمرا على أهله في العراق فلا يوجد مكان آمن حتى دور العبادة لم تسلم من التفجيرات الطائفية، وإذا خرج الأهل من البيت – حسب قوله – فإن الباقين يعيشون في قلق لا يدرون هل من خرج سيعود أو أنه سيعاد في أكياس القمامة السوداء! والسؤال الذي يجب أن نطرحه هو: هل نريد أن نصل إلى ذلك المستوى من القلق؟!

العدد الثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com