ميكانيكي فاشل مطلع السبعينيَّات

(سِيرة مُستعادة من مُراهقة السِّيرة)

في مُراهقتي المُبكِّرة انشغلتُ بأحشاءِ “لاندروڤرات” ذلك الزمان

               (موديلات 1958 وما تلاها)..

بأحشائها اللغز تحت غطاء المُحرِّك، انشغلتُ

بنشاز سيمفونيَّة اسطواناتها الأربع، كما بعُيوبها الميكانيكيَّةِ

التي لا تنتهي في مسقط وكلكوتَّا والإكوادور

               وبها عَرَبةً تَرْبَعُ على أربع..

حتى تناسيتُ حديقة المُستعمِر الوارفة في قلب الوطن

لأهتِف لنفسي حالِماً ببراءةِ اختراع طفولة زمنٍ

               كان على وشك الانسلاخ:

في المُستقبل سأصبحُ ميكانيكيّاً يُصلحُ في مُنفسَح “الجَرداء”

               أعطال السَّيارات تحت سدرة “مقيحفة” قُبيل بلوغ

حُلقوم وادي “العَقّ” الكؤود بسبب جلاميد امرئ القيس وأبي مُسلم..

               لنفسي هتفتُ حالماً؛ بعد أن تسنت لي في مشقةِ رحلات

شاحناتِ “البِدفورد” مُراقبةَ الميكانيكي حسُّون وهو يُفكِّكُ

أحشاءَ سيَّارات ذلك الزمان قطعةً قطعةً بأدواته البسيطة

في جراجه المُرتجَل تحت تلك السِّدرة حيث يعمل

               (فيما يَعبُّ من زجاجةٍ في جيب دشداشته

               سائلاً أوهمني أنهُ دواءٌ إنكليزيٌّ لكُحتِّهِ المُزمنة)

بعيداً عن عيون الأشياخ المُسافرين بطُررِ عمائمهم التي

لم يَستجبْ حسُّون لندائها الخفاقِ برايةِ إمامةٍ اضمحلَّت

ولم يبق منها سوى صلواتٍ خمسٍ لم يألفها في غمرة انشغاله

بإصلاح أكباد السيارات في تلك الظهيرات القائظة.

                                             ٭

لم أصبح ذاك الميكانيكي

لا في جراج الكلمات هذا، ولا في حيزوم سيرته المُستعادة..

بيد أنني في واحدةٍ من تلك الرِّحلات تجرَّأتُ لأسأله:

وماذا عن اللاندروڤرات يا حَسُّون؟..

هل هي أكثر تعقيداً من “العْريبيا”؟

(لقب شاحنات البِدْفورد الشعبي، آنذاك)

فكان جوابهُ، كما كان دائماً في غياهب الذكرى تحت سدرة

               جراجه المُرتجل:

أوه… لا تنشغل بالأمر؛ لا تنشغل به يا فتى. الإنكليز انتصروا

على هتلر وجيوش المِحوَر حين كنا نرضعُ حليب أمهاتنا

وفي اعتقادي أنهم ما زالوا قادرين على حَلِّ مَعاضِل

               شاحنات البِدْفورد وهذه اللاندروڤرات..

تلك صنعتهم، وقد تعلمناها وأتقناها في بلوشستان

كما في جراجات قوَّات السُّلطان التي لم تكن لتدحَرَ قُوَّاتِ

آخر الأئمَّةِ إلّا بمثل هذه السيارات، على كثرةِ أعطالها.

                                              *

هذا أمرٌ قد لا تفهمهُ يا فتى، لكنني سأطلعك على سِرٍّ

لا يعرفهُ سوى الميكانيكيٍّ البارع

سِرٍّ لا يعرفه حتى دهاقنة الإنكليز ودُهاتهم، لو عرفتهُ يا فتى، لكان

               لكَ شأنٌ وشنآنٌ في هذه الدنيا.

أتعرف ما هو؟.. سيَّارات “الجَرْمَن” وصنعتها المُحكَمة بمخملها

الوثير وخشبها الصَّندل ومعدنها الذهب الذي طرَقتهُ في الستينيَّات

               بهذا المِفكِّ في مرسيدسات شيوخ البحرين والكُويت…

معدنها الذهب الذي لو رُزتَهُ بميزان شيخ الميكانيكيَّة، لهان عليك

إصلاح سيارات اللاندروڤر – فيما لو فكَّرتَ في امتهان

               مهنة شريفة يا فتى.

                                             ٭

الذاكرةُ خؤونٌ في استوائها، كما في عُرجون

               أفلاجِ الحَماسة

لكني أحسبُ أن الفتى في غمرة حماس تلك الظهيرة

قال بعد أن أخطأ -لحسن الحظ- اصطياد حسُّون السِّدرة

               بحُصيَّةٍ أطلقتها شيطنة أنشوطته:

لن أصبح ميكانيكيّاً مثلك يا حَسُّون، بل شاعراً مُغرِّداً كطائر

               الحسُّون فوق سدرة النبق هذه..

شاعراً قد تسعفه الذاكرة ليكتب، في الخمسين، قصيدةً عنكَ

               عن سِحر المِفكِّ الذهب

واللاندروڤرات الصَّدأ، حين تُصبحُ كلاسيكيَّةً بالتقادُم..

وعن أيامك ميكانيكياً محظوظاً في ستينيَّات الكويت يشتري

بفكَّة روبيَّاته الهندية سبع سردينات من أصدقائه صيَّادي السَّاحل

(سبع سردينات، حتماً لن يجد في إحداها لؤلؤة الفاقة العُمانيَّة)

ليتعشى بها مع عدسِ وفجلِ رفاقه العُمَّال

               في مصفاة نفط الكويت.

                                             *

لكنَّ الدُّنيا قد تتغيَّر، يا شيخ الميكانيكيَّةِ، في غمضةِ عَينٍ عن عينْ

قد أتخلى طوعاً عن بيت الشِّعر الموزون، وطوعاً قد أتفيقَهُ

في تحبير قصيدة نثرٍ لم تدركها سردينةُ أيامك تلك…

               (لن أبحث عن لؤلؤةٍ في المُستقبل، لن أحفرَ بئراً

               في حوش الماضي لاستدرار مياه قُنوط النفط)..

لكني قد أتعلَّمُ، في مَنجرَةِ المُستقبل، صُنع سريرٍ خشبيٍّ للنهضةِ

               حتى تنهضَ من سنواتِ الغفلةِ..

قد آكُلُ، سمكاً لم يُطهَ مع الرُّز، يُبخَّرُ بالمُتوافر من أعشاب

البحر مُجاراةً، بالأحرى تقليداً لتقاليد اليابانيِّين…

قد أستمرئُ طعم “السُّوشي” مرَّاتٍ X مرَّاتٍ، لكني قد لا أرتاحُ إليه مِراراً

يا حسُّون السَّردينِ تُجففهُ أيامُ الغربةِ في سِّتينيات القرن الماضي

كي أخطئ -من يدري؟- فيما لو حاولتُ مُجاراة فطاحلهم

               بقصيدةِ هايكو وقصيدة زَنّْ

لكنَّ الشاعر يمضي في الدَّرب المُترَب..

               يمضي نحو يقين الظنّْ..

قد لا يحظى، كالمُتنبي، بالمرسيدس فارهةً في مُنتصَف العُمر

وقد لا يحظى بالدَّولةِ تنهضُ بالفقهِ وبالقانون

أو سيف الدَّولة يا حسُّون..

لكنَّ الشاعرَ قد يحتالُ على الفكرة، كي يختال على ڤولكسڤاغنْ خُنفسةٍ

تتدحرجُ بمُحرِّكها الخلفيِّ يُطقطق مَرحاً في سُوح الإنسِ وسُوح الجِنّْ

ليُوقفها قرب البَعرة تحت السِّدرةِ، هذي السِّدرة دون سواها..

حين يجيء البلدوزرُ مُكتسِحاً آخر جُلمودٍ في وادي العَقّ

لتُعبَّدَ دربٌ للحافلة المُكتظة بالرُّكاب

لسياراتِ الأجرةِ تتلوها سيَّارات الأجرة..

للڤولڤو والبي إم دبليو وكورولّا الغلبان

لعربات الجُند مغاوير يُحيُّون الناقةَ بارِكةً

تعبرُ فجَّ الوادي في شاحِنةِ البَدويِّ السَّمحِ الطَّلقْ

للشمسِ تَوضَّأُ في مِشكاةِ المُتبقي في القلعة من فيض النور

لسيارات الأجرةِ بعد ثلاثٍ عادتْ من جعلان وصُور

للخنفسةِ الحُلمِ..

وللشاحنةِ الخزان تُباريها خَبَباً خَبَباً

سيَّاراتُ السَّبقْ.

………………………….

………………………….

أتساءلُ…

هل قلتُ له ذلك في تلك السِّن؟

__________

 

  • هذه القصيدة ستصدر قريباً ضمن موجموعة جديدة للشاعر بعنوان: عودة للكتابة بقلم رصاص.
أدب الرابع والسبعون

عن الكاتب

محمد الحارثي

شاعر وكاتب